كم كان الأمل معلقًا على الخيّرين لانتشال البلاد وتحريرها من قبضة الفاسدين، عندما لاحت في الأفق بشائر واعدة في حراك الشعب يوم 22 فبراير مثلما لم تتح من قبل، لا في أكتوبر 88 ولا حتى خلال فترة التعددية التي انتهت بانقلاب يناير 92. الأمل كان كبيرًا وفاق حتى الآمال التي برزت خلال هاتين المحطتين، لأنّ الشعب أثبت اليوم قدرًا أكبر من الوعي والنضج والتحدي، ورفضه للحلول السطحية والمناورات المتعددة، من أجل استكمال صرح الاستقلال المعطّل في صائفة 62. لكن مع مرور الأسابيع والغيوم الملبدة من الشكوك والتضليل، تعقّدت الأوضاع ممّا عطّل للأسف تحقيق تلك المطالب، بعد أن وقع الشرخ وانقسمت الغالبية من الشعب التي كانت تشرئبّ أعناقها إلى فجر مشرق للتحرر من استبداد بني جلدتنا، فتوزّعت هذه الأغلبية بين من رأى النجاة في السلطة الراهنة كونها ترفع لواء محاربة الفساد وتزعم تجسيد مبادئ نوفمبر وقيم ابن باديس، واعتبروها حصنًا في وجه مخلفات فرنسا الذين عاثوا في الأرض فسادًا، وفريق اعتبر الفرصة سانحة لتغيير جذري خارج منظومة الحكمبكل أطيافها، لوضع أسس دولة مدنية تحول دون تجديد منظومة الفساد ولا تسمح باستنساخها بأي وجه كانت، لكن هذا الاستقطاب شتّت شملها، وأقام حواجز فيما بينها، ونتيجة ذلك، كان المستفيد الرئيسي، كلّ من عمل على منع تجميع كلمة الشعب، السلطة الراهنة التي تبذل كل ما في وسعها لإبقاء دار لقمان على حالها من جهة، والأقلية الاستئصالية لتي لا تطمئن لعودة الكلمة إلى الشعب، عدوّها الأولي، من جهة أخرى.

مخطئٌ من يعتقد أنه من يرفض “الطاعونَين”، يضع المجرمين من أذناب ماسينيونMassignonوبيجارBigeard في نفس السلة مع المؤمنين المتشبّعين حقًا وفعلًا بقِيم نوفمبر ومبادئ شيخنا العلامة ابن باديس. يعود رفض “الطاعونَين” إلى عدم الانخداع بالشعارات والمزاعم، وليس كلّ من يرفع لواء ما، يؤمن حقًا بقيمه ويجسّدها فعلًا. المقصود بالطاعون الثاني (إضافة إلى الأوّل المتمثل في جنرالات الدم والدمار) هم أدعياء النوفمبرية الباديسية المفترى عليهما، الذين إدراكا منهم بتشبّث الشعب بقيَمه وحضارته العربية الإسلامية، يستغلونها لركبه من جديد.ومخطئٌ من يعتقد أن الوقوف إلى جانب الشعب، حيث تقف بعض وجوه الاستئصال التي شكّلت على مرّ الأزمان مخلبًا لكافة السلطات ضد الشعب وخياراته وسيادته، يجعل منه حليفًا لها أو يغازلها بسذاجة. إنّ الوقوف إلى جانب الحراك موقف مبدئي، لا يخضع لهذا الطرف أو ذاك، وهو في نفس الوقت رفض لكلا الدجالين، اليناريين وأذنابهم وأدعياء النوفمبرية، كما أنّ مساندة مطالب الشعب من أجل التغيير الفعلي لا يعني بتاتًا التزلّف أو الاتفاق مع مَن احتقر على الدوام الشعب، ونعته بأرذل الأوصاف، من أمثال سعيد سعدي أو كمال داوود أو غيرهم. الذين وقفوا إلى جانب الحراك انطلاقًا من موقف مبدئي يناصر حق الشعب في استعادة سيادته، لن يكون لهذه الأقلية الحاقدة على انتماء الشعب وحضارته ظهيرًا أبدًا، فهؤلاء لن يرضوا بأقلّ من سحق غالبية الشعب التي يعتبرونها متخلّفة ظلامية، ليخلو لهم الجو، ليتمتّعوا بديمقراطية من دون شعب، لكن بالمقابل، وجودهم وسط حراك الشعب، لا يجب أن يدفع المؤمنين بحقّ الشعب في التغيير واستكمال استقلاله، إلى الانسحاب من معركة التغيير، والسقوط رهينة بين مخالب من يعمل على استنساخ النظام وإعادة هيكلته بحلة جديدة.

ومخطئ أيضًا من يعتقد أنّ تفضيل ما تطرحه السلطة الراهنة هو دعمٌ لا مشروط لها أو رفضٌ لتحقيق مطالب التغيير التي يرفعها الحراك، وأنّ كلّ من يرفض ما يعتبره مغامرة غير محسومة عميلٌ طيّعٌ للعسكر وعقلية الثكنة.

تفاديًا لتعميق الهوّة وانتشار دائرة الشكوك والتهم والتنافر بينكافة الحريصين على سلامة بلدهم وعافيته، مِن الأولى والأسلم والأنفع اجتماع أبناء الوطن، حول أرضية مشتركة (الحدّ الأدنى) فيما بينهم بدل مشاركة كلٍّ منهم في أرضية الحدّ الأدنى مع جلاديهم من الطرفين، وذلك كفيلٌ بسحب البساط من تحت أقدام كل الأطراف المتربّصة، وعدم ترك المجال فارغًا أمام أمثال عسول وآيت العربي وغيرهم من عتاة الحاقدين على قيَم وحضارة الشعب الجزائري، يتصدّرونمشهد الحراك ويتظاهرون وكأنهم يقودونه، بفعل آلة التضخيم الإعلامية (المحلية والفرنسية خاصة) تنفخ في حجمهم الضحل وتضلّل الناس بشأن حقيقة الحراك ومكوناته، المواطنون الذين يدفعون الثمن غاليًا من أجل الانعتاق من كلّ أشكال الاستبداد، ويظهر بالمقابل جزءٌ كبير من أبناء الوطن في الموقف الخطأ، في صورة من يؤيد ويدعم السلطة التي لم تعر للمواطن يومًا اهتمامًا.

بعد هذا التجاذب وتبادل اللوم والتهم،قد تفرض المراجعة نفسها على الجميع دون أن تنتقص من قيمة أحد لأنّ المراجعة فضيلة قبل كل شيء، والفرصة لا تزال سانحة، والجميع على المحكّ، إمّا أن ينتهزها أو يضيّعها، والقرار مسؤولية الجميع، لذا أصبح ملِحًا توحيد كلمة الطرفين حول أرضية مشتركة، من باب ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، بدلًا من أن يقع كل طرف مرغمًا أو عن سوء تقدير، في معسكرمن لم يرقب يومًا ذمة في المواطنين ولم يهتمّ بمصالحهم، مثلما هو حال عصبة النظام الحالي أو العصابة الاستئصالية، وأسوء ما في الأمر وأخطره، أنّالخاسر الأوّل، ككل مرة، هي الغالبية من الشعب المعذّبة، بينما يبقى المستفيد كالعادة، السلطة التي تظل في موقعها مستفيدة من تناحر المواطنين، والأقلية المستثمرة لتطاحن فئات الشعب لتحافظ على مركزها من خلال التدليس والتضليل والنفخ في حجمها من قِبل وسائل الإعلام وإظهارها القائدة لحراك الشعب.

6 تعليقات

  1. الحل في الحد الوسط و هو الحد الإيجابي الفاصل بين نافية الأنا و نافية الآخر ، تلك الصورة التي تمثلها الشهيد العربي بن مهيدي مقدما أغلى ما يملك قربانا في سبيل تحرير العباد و البلاد ، و رسم معالمها من قبل الشيخ عبد الحميد ابن باديس و عبر عنها بوضوح و قوة : ” و الله لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها ” . و زادها وضوحا موقف الأسد الجريح الشيخ البشير الإبراهيمي يوم اختار الإقامة الجبرية بدل موافقة سلطة الأمر الواقع من بعد الاستقلال، و دونها الرجل الحر مهري عبد الحميد حينما حذر من الرداءة و انتفض في وجه العصابة بالرغم من التهديد و الحصار . و عبر عنها بجدارة السيد لخضر بورقعة حينما أكد أن الحكم في الجزائر فاقد للشرعية منذ ١٩٦٢ . كلها علامات و محطات يمكن أن تساعد سالك الطريق من أجل الحرية و الكرامة ، و تكفيه شر التضليل و التدليس من كافة أصناف العصابة . إن العصابة في الجزائر عصابات، الذي يميزها هو استماتتها في التحريض ضد إرادة الشعب بمختلف الدسائس و الحيل ، تخاف الاحتكام لاختيار الشعب و إرادته ، و يحزنها وعي الشباب بكل أساليبها الشيطانية التي تستهدفه في يقظته و طمأنينته ، أو ليست هي ااتي جلبت له الأطنان من الكوكايين و الأقراص المهلوسة ! ؟ ثم أليست هي التي دفعته بمكرها و جبروتها إلى مهالك البحار !؟ و ماذا عن سجلها بخصوص الدفاع عن مكاسب نوفمبر و قلاع ابن باديس ، لم تهتم لذلك ولو على حياء ، بالرغم الذي أقدمت عليه بن غبريت و سلفها دون استحياء ، وهل تتذكرون ما فعلوه بعبد الحميد مهري النوفمبري و علي بن محمد الباديسي ! ؟ يوم كان الحديث عن المدرسة الوطنية الأصيلة من المحرمات ، بل وكان صاحبها يتهم بدعم الإرهابيين و التحريض على الإرهاب . و على هذا الأساس وجب الصبر على تحمل أعباء طريق الحرية و الكرامة ، و إن غدا لناظره قريب .

  2. يتساءل المرء بخصوص الشرخ الذي طرأ على جسم الحراك داخل حدود بعض الولايات ، و التراجع عن الخروج بقوة من أجل افتكاك الحق في الاستقلال الذي رهنه عباد السلطان و أعداء الأوطان !؟ و يحاول استحضار زخم الهبة الشعبية بداية الحراك ، لماذا تخاذلت الجموع وكأنها تجلب جلبا أو تنقاد انقيادا لتستسلم للأمر الواقع !؟ الأجوبة المتاحة لا تخرج ، و يجب أن لا تخرج عن دائرة مبدأ سلمية الحراك ، السلمية النابعة من عمقنا الحضاري بكل أبعاده الإنسانية ، و أكثر من ذلك المتصل في حبله السري بالمبدأ الراسخ في أدبيات حركة المقاومة رشاد ، و أكدت عليه مرارا و تكرارا ، و ذكرت به المجتمع الجزائري منذ ٢٢ فبراير ، و راحت تبني مواقفها على أساسه، و هو المبدأ الكفيل بالحفاظ على وحدة الأمة و لحمتها و مكانتها لخوض غمار دور الشهادة الذي تضرر كثيرا بالكم الهائل من الفكر الميت و القاتل على حد سواء ، ذلك الفكر الذي استثمرت في دائرته الدوائر الفكرية الغربية و الصهيونية المعادية للقيم الإنسانية . نعود فنتساءل بخصوص مصدر الغموض و التشويش الذي يحيط هذه الأيام بساحة الحراك الوطني !؟ من بعد أن حددنا وعاء الأجوبة المتاحة ، يمكن القول أن السبب في تضاعف الحمل على عاتق الشعب الذي بدا منهكا و مستميتا ، هو الدور المزدوج للنخبة ، بغض النظر عن مستواها المعرفي و العلمي و الفكري ، المشكلة الأم بالنسبة لهذه النخب رأسا هو : * عدم إخلاصها لشعبها ، و عدم الإخلاص كالعروق بالنسبة للقلب تلك المضغة العجيبة الدالة في جانبها الاجتماعي على فطرة الله ، الفطرة التي تجعل الشعوب غاضبة من حكامها الفاسدين و المغامرين على خط الاستبداد ، و هذا هو أصل كل الشعوب على وجه المعمورة ، أما الاستثناء فهو الذي يطرأ عليها بسبب خبث السياسيين المغامرين و النخب غير المخلصة . * السبب الثاني هو عدم صبرها ، فهي تستعجل قطف الثمار ، و عمليات القطف ليست بمنأى عن الألغام التي يزرعها المستبد بحرية الشعوب و كرامتها ، و عليه فصبر الشعوب يحتاج إخلاص نخبها و صبرها ، و هو البارز في مسار حركة رشاد و أدبياتها و الحمد لله . * أما السبب الثالث فهو عورة تلك النخب بسبب افتقادها لرداء التواضع ، و لكأنها تستهين و تستهر برجل الشعب الذي أوصانا فيلسوف الحضارة و مهندس الثقافة أن نتواصل معه بضمائرنا قولا و فعلا ، فأين هو التواضع مع الشعب أيتها النخب !؟ * بقيت خصلتان أو ثلاثة يحتاجها الشعب و النخب على طريق الحرية و الكرامة تحتاج إلى مقام آخر .
    أعود بالقول : إن النخب اليوم على طريق الشعب صنفان ، نخبة تزايد من حيث تدري أو لا تدري ، فترفع شعار وجوب المرور بمرحلة انتقالية من أجل التفاوض مع سلطة الأمر الواقع لانتزاع موافقتها على بعض مطالبها بعيدا عن إرادة الشعب ، و هي تدرك أن سلطة الأمر الواقع غير مخولة ، لا دستوريا ، ولا سياسيا لفعل ذلك . و للعلم فإن قيادة الأركان سلطة الأمر الواقع اليوم هي من باركت مرحلة التمديد أو المرحلة الانتقالية التي طلبوها من خلال رمطان لعمامرة و الأخضر الإبراهيمي ، و كان ممكنا أن تدخل تلك النخبة في مفاوضات مع السلطة لكسب ما تريد ، و لكن الحراك الوطني زلزل الأرض من تحت أقدامهم سلطة و معارضة .
    أما الصنف الثاني فيتمثل في تلك النخبة المتربصة على مقربة من باب السلطة ، الذي كان يهمها تحديدا هو الطرف الغالب ، فلو تمكن توفيق من إزاحة قايد صالح لكانوا اليوم يسبحون بحمده و يمجدونه بطلا مغوارا ، أما وأن الغلبة على حين غفلة آلت للقايد صالح فالقوم أو هذا الصنف من النخبة بات يسدي المدح لقائده الفذ ، فسبحان الله ، كيف تتحرك هذه الكائنات و تستميت من أجل الظفر ببعض الفتات من جيفة المفترس ! هذا الصنف الأخير من النخبة ، للأسف الشديد يريد من حيث يدري أو لا ، أن يخفي قبحه و جشعه بكوفية أو تقية نوفمبر و رداء ابن باديس . هذا هو المشهد باختصار ، و هذا هو السبب في الغموض و التشويش يا عباد الله .
    و في هذا المقام بالذات يجب التذكير أن جمعية علمائنا تحت رئاسة الدكتور قسوم حفظه الله ، كان بإمكانها استرداد دورها الريادي الذي حرمتها منه سلطة الاستبداد و الفساد طويلا ، كان بإمكانها القيام بدور الوساطة الإيجابي دحظا للشبهات و درءا للعوائق و العوالق من أجل تحفيز الخيرين من كل جانب لتجاوز عقبات المغامرين من هنا و هناك . لكن الجمعية ، و تحديدا مكتبها يتحمل اليوم أخطر المسؤوليات ، إذ يمكن أن ينتج عنها ، لا قدر الله ، أكثر مما بات يطالب به الشعب بإحالة الأفلان إلى المتحف ، كلكم يذكر أفلان مهري عبد الحميد و مفدي زكرياء ، و أفلان ولد عباس و جميعي. فسبحان الله ، نسأله العفو و العافية ، و السلام عليكم و رحمة الله.

    • زياني الشريف بتاريخ

      أخي بشير إن الدولة التي ينشدها المواطنون لن يقيمها بقايا نظام متعفن يريد استنساخ نفسه ولا أدعياء دولة مدنية لم يعترفوا يوما بسادة الشعب ولا خياره، على ابناء هذا الوطن الحريصين على سلامته وعافيته اختيار طريق ثالثا حول أرضة مشتركة، الحد الأدنى، من اجل الجزائر

  3. الحد الأدنى بالنسبة للجزائريات و الجزائريين من أجل دولة المواطنة هو الاحتكام لاختيار الشعب من بعد تجاوز سلطة الأمر الواقع ، و هو ما من شأنه أن يقينا جميعا شر المتربصين و المتربصات على اختلاف توجهاتهم و شعاراتهم و أساليبهم ، فالشعب ، أستاذنا الكريم، يتوق إلى الأمن و الأمان ولن يثق ، كن مطمئنا ، إلا في الأخيار ، وهذا الذي يجب الاجتهاد من أجل تحقيقه من خلال نظام برلماني يجسد الاختيار المباشر و السليم لممثلي الشعب الذين يعرفهم و يعرفونه ، و يصدق معهم و يصدقونه ، نظام بعيد عن فرض الرؤى المجهرية و كل ما من شأنه أن يعرض الأمة للتبعية . ببساطة هذا وقت الجد ، فقد ولى زمن الشعارات و المشيخة المزيفة ، و الزعامات و الكلام الفارغ . أخي زياني : نحن نحتاج إلى كثير من الإخلاص فهو سر يودعه الله قلوب من يحب ، و جميل الصبر فهو الكفيل بتطويع جبال من حجر ، و رداء التواضع فهو الجسر المؤتمن ، و هذا كله يحتاج إلى ماء التقوى المعطر بعطرالخشية من الله ، فالله الله في عباده المخلصين الصابرين المتواضعين ، فهم أهل التقوى المستحقون لشارة الغرباء ، طوبى للغرباء ، طوبى للغرباء ، طوبى للغرباء .

  4. ماذا أقول في عالم الكلام ، فلو كان في الدرهم أمان ما كان الكلام مجانا ، شكوت إلى شيخي قلة اهتمامي فحذرني من العقوق على خط السلطان ، فأدركت يومها أن أخطر ما في العقوق خيانة شعب يتطلع إلى الأمن و الأمان ، إن مراتب الرضوان بعد طاعة الله و طاعة الوالدين مرافقة الناس بإحسان . يا رب أرزقني محبة الغرباء على خط الإبراهيمي وابن باديس و فاطمة نسومر والشيخ المقراني، إن غربة أحفاد بن مهيدي و بن نبي مالك فاقت غربة أهل الكهف في هذا الزمان .

  5. * لعلهم يبصرون :
    بين فريقين ، صورة من صور الحياة ، الحقيقة أن خلاصة ما في الحياة تتمحور بين حدين ، فيما يشبه المجال المغلق ، الإنسان مهما كان ، كيفما كان ، و أينما كان ، لا يمكن أن يخرج عن هذا المجال المغلق ، لكنه مخير ، يختار مساره بكل حرية ، و يتحمل نتائج اختياره في الدنيا قبل الآخرة ، و السؤال بهذا الخصوص يتصل برأس مال الإنسان ، كل له رأس مال ، يستثمره فيما يريد ، أما آثار الاستثمار فيمكن أن تتعدى شخصه إلى من يليه في النسب وفق ما يدخل تحت مسؤوليته .
    أما الصورة المعبرة عن ذلك ، وليست الوحيدة ، فقد عايشها أحد الشباب أثناء تأديته للخدمة العسكرية ، و على إثر ذلك استفاد كثيرا في حياته ، لم يمر على ذلك مرور الكرام ، و لكنه اعتبر أيما اعتبار . المشهد الذي عايشه و وقف عليه بنفسه يبدو بسيطا ، و في الوقت ذاته هو بالغ الأثر و الأهمية لمن استطاع أن يتفكر و يعتبر . قال لي بالرغم من وجودي ضمن مجموعة من الشباب نتقاسم نفس ظروف الحياة تقريبا على مستوى لواء متواجد بمنطقة صحراوية على رأسه ضابط سامي برتبة جنرال ، إلا أن كل واحد منا ، من دون ريب ، يختلف عن الآخر من حيث وضعه الاجتماعي و المالي على مستوى عائلته ، أما على مستوى اللواء فيبدو أننا جميعا سواء، بغض النظر عن الرتب و المهام ، فالميزة الأهم هي سلامة البدن و راحة البال ، فالذي جلب انتباهي و أثر في أيما تأثير هو المقابلة التي يمكن أن يتأمل بخصوصها الإنسان بين أعلى رتبة و أصغر رتبة ، بين جندي و جنرال . لن أبحث في سجل كل واحد حول ماضيه ، و تصرفاته واهتماماته ، و نسبه و حسبه ، و ما تملك العائلة من ثروات . الذي شغل بالي هو حياة كل منهما ، بمعنى ما يشعر به هذا و يختلج صدر ذاك ، أما الجندي ففي صحة جيدة يأكل الذي يقع بين يديه من دون سؤال ، بالرغم من مستوى الأكل الذي يقدم للجنود ، أما الجنرال القائد فيمكنه إحضار ما يشتهيه دون رقيب ولا سؤال . عند هذا الحد تبدو المقابلة معهودة ، لكن الذي يجب أن نتمعن فيه جيدا هو راحة البال المتصلة بسلامة الإنسان ، الجندي لا يشعر بأي ضيق بالرغم من ظروف الحال و صروفه ، أما الجنرال ففي هم و غم و ضيق ، السبب أنه ممنوع من تناول اللحم و الخبز و الحليب و القهوة و البسكويت و غير ذلك مما لذ و طاب ، ليس لعدم الوفرة ، و لكن لعدم القدرة ، القائمون على خدمة الجنرال يحضرون له كل يوم خبزا ( كسرة طحين من دون تنخيل ) يأكلها مع قدر قليل من خليط تعرفونه جميعا ، من دون ملح ولا توابل . هذه هي الصورة المعبرة التي يمكن أن يكون بطلها مقاول غاش ، و طبيب محتال ، و تاجر ماكر ، و إمام متزلف ، و قاض غير عادل ، و محام كذاب ، وما إلى ذلك . كما يمكن أن تختلف الصورة من حيث الشكل ، لكن الطبيعة واحدة . وكل الصور تقع ضمن المجال المغلق آنف الذكر .
    * حسن الخاتمة : هناك علامات بارزة على حسن الخاتمة ، على الأقل فيما يمكن أن نتفق على ظاهره و أدنى مستوياته ، يمكننا جميعا أن نتفق مثلا حول مقابلة حالة الرجل الحر عبد الحميد مهري ، أو الرجل الجلد آيت أحمد ، أو الحقوقي الشهم علي يحي عبد النور ، أو الإمام الراسخ الشيخ أحمد سكنون ، أو البطل الفذ العربي بن مهيدي ، أو المرأة الجسور لالة فاطمة نسومر ، أو الأسد الجريح البشير الإبراهيمي ، هذا من جهة ، على سبيل المثال و ليس على سبيل الحصر . و في جهة أخرى قياد فرنسا ، و جنرالات المجازر ، و مروجي فكرة نقل الرعب إلى الطرف الآخر ، و ناهبي المال العام ، و المستهترين بمقدرات الجزائريين و الجزائريات على مختلف أشكالهم الذبن استفادوا من طواطؤ العصابة الأخطبوط . من دون شك المجال المغلق يشمل هؤلاء و أولئك ، لكن الفاصل هو طبيعة رأس المال الذي تتوقف عليه سلامة الروح و راحة البال . من تختار أيها المراقب و المرافق لأحداث جزائرنا الحبيبة هذه الأيام ، مهما كنت ، كيفما كنت ، و أينما كنت !؟ لن تنفعك رتبتك ولا منصبك ولا مكاسبك ، احرص على التصفية و التحلية قبل فوات الأوان .
    * بين العصابة و سلطة الأمر الواقع :
    من دون شك فإن سلطة الأمر الواقع تريد أن تقنع مقربيها و مسانديها بجدوى براءتها من كل الذي فعلته العصابة ، و تريد أن تفهم الناس أن الاختيار واجب ، إما مع سلطة الأمر الواقع ، و إما مع العصابة ، لا طريق ثالث ، و مثل الذي بات يروج له بعض الأكادميين ، من حقوقيين ، و مؤرخين ، و متقاعدي الجيش ، و وزراء سابقين ، و متحزبين ، و ما إلى ذلك ، هكذا يسمون أنفسهم . لكن الحقيقة أن الطرف البارز الذي كشف العصابة ، و سلطة الأمر الواقع ، اللتين يفصل بينهما خيط أوهن من خيوط العنكبوت ، هو الشعب الثائر الذي عجل بتنحية رأس العصابة ، و حاصر سلطة الأمر الواقع في ركن باتت تتحصن فيه و تنعت كل من يطالب بالحرية و الكرامة في ظل دولة المواطنة و الحكم الراشد بالخائن المتحيز للعصابة . و على هذا الأساس يجب على كل جزائري و جزائرية أن يختار فله ذلك .

Exit mobile version