ما يجري على أرض فلسطين، وغزة خصوصًا، منذ 7 أكتوبر 2023، أي على مدى 5 أشهر دامية، جعل العالم كله يُصدم أمام روع المشهد ويُصاب بالذهول أمام الجريمة التي تُقترف بحق شعب أعزل محاصَر، وما يزيد من فزع هذا المشهد السريالي، أن العالم أجمع يشاهد في وضح النهار وفي أوضح الصور المشاركة المنقطعة النظير من قبل أغلبية عواصم العالم الغربي في الإبادة الجماعية التي يتابع العالم فظاعاتها لحظة اقترافها، ويرى الأشلاء المتناثرة للأطفال والنساء والعزل دون أن يستطيع التأثير على الحكومات وساستها لوقف هذه الإبادة. لكن الملفت للنظر إلى جانب هذه الفظاعات والخيانات للضمير الإنساني وللقيم التي تتغنى بها هذه القوى، هو أن ما يحدث في غزة جعل الكثير يستحضر مآسٍ أخرى جرت في بقاع مختلفة في العالم في حقب زمنية غابرة ظنوا أنها ولّت بلا رجعة، وتُذَكِرهم بأن نفس الأسباب التي أدّت إلى تلك الفظاعات في الماضي، تسبّب نفس الفظاعات اليوم، على الرغم من “تعهّد” المجتمع الدولي بالسعي لكي لا تتكرر أبدًا، وقد سُنّت قوانين ومواثق لهذا الغرض، لكن بات واضحًا أنّ هذه المواثيق والقوانين لا تنطبق على الجميع، وأنّ الجريمة “المقصودة” التي عزموا على ألا تتكرر لا تكون “جريمة” إلا إذا كان من اقترفها من المغضوب عليهم، وأنها لا تكون كذلك إذا كانت ضحيتها ممّن لا يُعتبرون ضمن “الفئات” المشمولة بهذه المواثيق، أما إذا كان الذي يقترفها “حليف” صاحب الشأن، عندئذ تكون القضية محلّ نقاش وتفسيرات وتسويفات، بل وحتى مساعدة له لإتمام ما “ينجزه خدمة للبشرية”، أو السكوت عليه على أقلّ تقدير، حتى ينتهي من المهمة. هذا الوضع العنصري الانتقائي جعل الصحفي جو جيل من ميدل إيست آي، يغوص في ماضٍ ليس بالبعيد ويستذكر ما كتبه فرانز فانون في كتابه “المعذّبون في الأرض” ويسقط عليه ما يجري حاليًا في غزة.
فرانز فانون، ابن المارتينيك الاستعمارية، الذي شعر بخيبة أمل متزايدة بسبب العنصرية المنتشرة التي واجهها في حياته وعمله، مما دفعه إلى مغادرة موطنه والانتقال إلى الجزائر حيث أصبح مؤيّدًا متحمّسًا لنضالها من أجل الاستقلال عن فرنسا، وألّف لهذا الغرض عددًا من الأبحاث المتعمّقة في سيكولوجية الهيمنة العنصرية والنضال من أجل الحرية. يقول جو جيل أنه عند قراءة كتاب فانون اليوم، شعر وكأن فانون يصف بشكل لافت للنظر نضالات الفلسطينيين في ظل الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، لا سيما فيما يتعلّق بما يتعرّضون له من قمع على أيدي جيش الاحتلال والمستوطنين، وممارساتهم المُمَنهجة الرامية إلى تجريد الفلسطينيين من الإنسانية.
وبعد مرور أكثر من 60 عامًا على وفاته، تبدو أفكار فانون ذات أهمية بالغة ووثيقة الصلة بكفاح الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني. “في كل الصراعات المسلحة هناك ما يمكن أن نسميه نقطة اللاعودة، تتميّز دائمًا بقمع مهول وشامل يجتاح جميع قطاعات الشعب المستعمَر”، يقول فانون في كتابه “المعذبون في الأرض” عام 1961، وهو ما يتجسّد كليًا في أوضاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023″. يقول، أنّ العالم الاستعماري عالمٌ مانويٌ، وتبلغ هذه المانوية في بعض الأحيان نهايتها المنطقية، في تجريد المواطن الأصلي (الذي تُسرَق منه أراضيه وثرواته) من إنسانيته، أو بكلمة أكثر صراحة، يُحوّل إلى حيوان، وقد استخدم المسؤولون الإسرائيليون، بما في ذلك وزير الدفاع، هذه اللغة بالذات عن الفلسطينيين، تمامًا مثلما فعل المستعمر الفرنسي إبان النضالات المناهضة للاستعمار في الجزائر، إلى درجة يبدو وكأنك تقرأ في كتاب فانون، عن فلسطين، منذ 1947 وحتى قبلها، أي منذ وعد بالفور، في 1917.
يقول فانون أن العنف الذي امتهنه النظام الاستعماري، وكرّسه بلا توقّف بغية تدمير الأشكال الاجتماعية المحلية، كان من الطبيعي أن يدفع السكان المحليين نحو نفس العنف، في اللحظة التي يقرّرون فيها تجسيد التاريخ في أنفسهم، والاندفاع باتجاه “الأماكن المحرمة”، وعلينا أن نفهم، يقول جو جيل، أنّ فانون لم يكن يخاطب في كتبه جمهور أوروبي أبيض، بل كان يكتب للذين يخوضون النضال الثوري المناهض للاستعمار، ولذا فهو لم يحاول إخفاء معناه أو التخفيف منه. كتب جان بول ساتر في مقدمته لكتاب فرانز فانون أنّ “العنف في المستعمرات لم يكن يهدف إلى إبقاء المُستعبَدين تحت رحمة المستعمِر فحسب، بل كان الهدف منه تجريدهم من إنسانيتهم، أما عن عنف الثورة، يقول سارتر، فإنّ سلاح المتمرّد هو دليلٌ على إنسانيته، وتلقائيًا يتبعه رد فعل المستعمر لقمع المقاومة المسلحة، فتزداد شراسة جيش الاستعمار، فتشهد البلاد عمليات تطهير عرقي ونقل للسكان وحملات انتقامية ومجازر بحق النساء والأطفال.
الرجل الجديد (المقاوم للاستعمار) يعرف ذلك، ويعتبر نفسه جثة محتملة (مشروع شهيد بالمفهوم الفلسطيني)، وأنه سيُقتَل، ومع ذلك يقبل هذه المخاطرة، لكنه متأكد من انتصاره في نهاية المطاف”، وينطبق هذا الوصف على حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل في غزة. من الصعب جدًا قراءة ما كتبه فانون وسارتر دون أن يحيلك كلاهما إلى هذه الحرب الدائرة اليوم في غزة؛ لقد انتهى الصراع في الجزائر بهزيمة فرنسا واستقلال الجزائر، ونحن الآن في نقطة اللاعودة بالنسبة لإسرائيل وداعميها الغربيين؛ لا شك أنّ الفلسطينيين يتعرّضون لهيمنة العالم أجمع ويُحارَبون من قبل أقوى آلة عسكرية مسلحة من قِبَل الولايات المتحدة، لكن سياسيًا، في رقعة الجنوب من العالم وحتى وسط الجمهور في العالم الغربي، لم يسبق أن بلغت قضية فلسطين يومًا زخمًا وقوة وإدراكًا، مثلما هي اليوم، في حين لم تنحدر سمعة الغرب إلى مستوى أسفل ويفقد مصداقيته إلى هذا الحدّ، مثلما هو اليوم.
هذا التشخيص لانحدار منظومة الاستعمار الغربي العنصري، والتفاؤل بانتصار المقاومة بجميع أشكالها، عبّر عنه فرانك بارات، في حواره مع المناضلة الأمريكية أنجيلا دايفيس، عند تعليقه على صورة بالغة الرمزية (الصورة المصاحبة لهذا المقال) ، تلقاها قبل سنوات من المصوّر الياباني ريوتشي هيروكاوى، يقول بارات، كلما مرّتْ بي أيام عصيبة، او لحظات حرجة، عدتُ إلى هذه الصورة وأمعنتُ النظر فيها؛ ولم يسبق لي أن نظرتُ إليها بهذا الحرص والتمعّن مثلما هو الأمر خلال هذه الأشهر الأربعة الماضية (منذ 7 أكتوبر)؛ وفي كل مرة أنظر إليها، تزيدني قوة وطاقة وتحفيزًا؛ وسبب ذلك، أنها تُظهِر لي بجلاء وأمام عيني المجردة، هزيمة القوة الاستبدادية، وتظهِر لي جمال وقوة المقاومة، إنها تظهِر لي صورة القوة والثبات وطريق الإقدام، وترسم لنا ملامحه بكل وضوح؛ وتبشرنا بأننا سننتصر لا محالة، وأن الكلمة الفاصلة تكون لأهل الخير، مثلما قالته لي أنجيلا ديفيس مؤخرًا ” إننا نصنع أحلامنا ونستمدها من فلسطين.
تقول دايفيس، أصبحتْ فلسطين بمثابة رمز للمقاومة لجميع أشكال الاضطهاد، وإننا نعلم وندرك أن فلسطين حرّة سوف تساعدنا جميعًا، وندرك أيضًا أننا من خلال بوابة فلسطين، نطيح بعالم فاسد هالك برمته، ونعلم أنّ الكفاح من أجل فلسطين حرة هو كفاح من أجل عالم أفضل وأرحب وأجمل، عالم نقوم الآن ببنائه، خطوة خطوة، يومًا بعد يوم. وإننا نعلم أننا في يومٍ ما، سننتصر لا محالة، لا أعلم متى، لكنني أعلم بالتأكيد أن الرحلة باتجاه التحرّر سوف تكون مشوّقة حقًا وجميلة مؤكدًا؛ وهذا ما يمُدني بالقوة ويجعلني أمضي قدمًا بثبات ويقين.

تعليق واحد

  1. تحية رمضانية أخي شريف ، من خلالك أحاول أن أقرأ ، لأن من يقرأ للٱخر في حدود ثقافة أخرى ، هو كمن يبحث عن مخرج بسبب حالة العفن التي يعيشها عالمنا العربي اليوم ، و هي تعبير عن ذات المشكلة المتجذرة التي سبق الاستاذ الخالد مالك بن نبي رحمة الله عليه و سلام عليه ، إلى تسميتها بالمشكلة الثقافية ، بخلاف المقاربات التجزئيئية التي ذهب إليها كثير من الكتاب و الخطباء و ( رجال الدين ) ، للأسف الشديد ، حتى في حدود عالمنا العربي ، بات هناك رجال دين ! لعلك أخي شريف ، قد وجدت متنفسا في مقاربة ” فرانز فانون” لمشكلة العنف في حدود مستعمرات الأمس و اليوم ، لفهم و تصوير حالة “غزة” اليوم ؟!
    لقد باتت المعالجة السياسية غير مجدية في حدود الجامعة العربية ، منظمة التعاون الاسلامي ، منظمة الوحدة الافريقية ، هيئة الأمم المتحدة ، مجلس الأمن الدولي ، محكمة الجنايات الدولية ، و كل المنظمات الحقوقية ، بما فيها الأونروا باتت جزءا من المشكلة في نظر رجال السياسة!
    و في خضم مختلف المقاربات ، يركز المتابع و المهتم و المتعاطف ، و حتى ( الباحث) أو ( الكاتب) أو ( رجل الدين ) ، على ما تقوم به إسرائيل في حق الفلسطينيين داخل حدود القطاع و الضفة و في ذات الوقت ينتظر من محكمة الجنايات الدولية أن تجرم إسرائيل ، و تعتبر ما يحدث إبادة جماعية! و حتى و إن حدث ، و لن يحدث سوى بالكيفية التي يرضاها الكيان الصهيوني ، فإن تفسير المسألة ، سواء من حيث الفرضيات و النتائج ، سيشكل معضلة أخرى ، لا لشيء سوى أن عمليات التفسير ، لن تكون سوى سياسية ، و وفق المنظور الغربي البحت!
    أخي شريف السؤال يتصل بالمشكلة الثقافية في جميع أبعادها و مراميها زمانا و إنسانا و ترابا ، لعلك تذكر الحوار الذي دار بين الأستاذ مالك و الرئيس هواري بومدين إبان ستينيات القرن الماضي ، حين استشار بومدين مالك ، بخصوص خارطة الطريق ؟ قال مالك: عليك بقطع دابر الخونة ، و تخصيص أكبر قدر من الميزانية للتعليم ( القراءة) ، رد بومدين بالقول: الشعب يجوع ، أكبر قدر من الميزانية نحتاجه لبناء جيش يحمي الوطن حتى لا يستعبد ، رد عليه مالك بالقول: شعب يقرأ شعب لا يجوع ، شعب لا يستعبد.
    أخي شريف ، أصبت في وضع العنوان ، من حيث حلم الإنسان العربي المتعاطف مع فلسطينيي غزة، على وجه الخصوص ، و ما نتمناه من مخرجات . أما من حيث مسؤوليتنا الفردية و الجماعية و المصير الذي ينتظرنا جميعا ، يتصل أولا و أخيرا بمقاربة مسألة العنف في أبعادها الداخلية( الحدود الوطنية) التي صنعها الاستعمار ، و على مستوى عالمنا الممتد من طنجة إلى جاكرتا.
    إن دور المقاومة الفلسطينية اليوم رائد و متفرد في مقدماته و مخرجاته على المستوى البعيد ، أما على المدى القريب فيتوقف على سؤال مقاربة مشكلة العنف.
    أخي شريف ، حياك الله و تقبل منكم الصيام و القيام ، خصوصا ما اتصل لعالم القراءة و السؤال .
    لقد تابعت مداخلة الأيام الفارطة بخصوص ما يقدمه اليمنيون و يفعلونه على مستوى البحرين ، الأحمر و العربي ، و حزب الله اللبناني على مستوى الحدود الشمالية لفلسطين المغتصبة ، يجيب واحد من العرب المسلمين ( المتعاطفين) بالقول: ” بعض النظر عن نواياهم…” بمعنى نوايا الحوثيين و حزب الله ! هذه زاوية مظلمة في حدود مقاربتنا لمسألة العنف ! هذا المتعاطف يعيش في حدود الجزائر و ليس داخل حدود دولة خليجية مثل البحرين!

Exit mobile version