يكفي أن نلقي نظرة عابرة إلى العالم لنتأكد أن التطرف يكاد يغيب في كل بقعة أو دولة من دول العلم التي تنعم شعوبها بالحرية وتسمح لمختلف الفئات المكونة لنسجيها السكاني بالتعبير الحر عن نفسه وتطلعاته مهما كانت أو بدت متطرفة او شاذة طالما التزمت بالنهج السلمي في تبليغ أفكارها ورؤيتها دون اللجوء إلى العنف والإكراه لفرضها على الناس، بالطبع هذا يقتصر على شعوبها دون غيرها من الشعوب، كما أن لا ينفي عاقل بروز في هذه البقع من العالم جماعات وأحزاب وتنظيمات متطرفة، لكن التعامل معها لا يتم عن طريق الحظر ولا القمع (هذه السبل تقوي شوكتها ولا تقضي عليها) لأن مثل هذه الكائنات المتظرفة الشاذة تحمل بذور الفناء في أحشائها، فتتلاشى من تلقاء نفسها عندما تجد نفسها مُحاصَرة بأفكار أخرى تدحض مزاعمها وتعري زيفها، ولا تجد التربة “الضرورية” التي تمكنها من الانتشار. الحرية تتكفل بها.
بالمقابل نجد أن جل الجماعات والتنظيمات المتطرفة، تبرز وتترعرع وتنمو وتنتشر كالهشيم في النار في الدول المستبدة وخاصة في العالم العربي، كتنظيم داعش وقبلها القاعدة والجيا عندنا في التسعينات، والسبب وراء ذلك أن في هذه الدول تغيب الحرية وينتشر القمع مما يعبد الطرق للأفكار والجماعات المتطرفة، بما يسمح لها بالنمو والانتشار على حساب الفئات الأخرى من المجتمع. هذا الترابط ليس بمحض الصدفة ولا عارضا. إن تمركز التطرف، أفكارا وجماعات في الوطن العربي له ما يفسر انتشاره:
– تستخدم الأنظمة العربية الحاكمة هذه الجماعات لتبرير سياساتها الأمنية القمعية لِمنع المجتمع المدني من تنظيم صفوفه (خارج الإطار المفروض والكيانات المشكلة داخل دهاليز السلطة) ومنعه من التعبير عن نفسه وطموحه وانتقاداته للسياسات السلطة المتحكمة أو تقديم البديل عنها؛ 
– تجد هذه التشكيلات المتطرفة كل السبل والأموال والوسائل التي تسمح لها بالنمو على حساب المجتمع المُحاصر، بل الأخطر هو أن في الكثير من الأحيان تكون هذه الدول نفسها تستخدم هذا التطرف سلاحا توظفه لإحكام قبضتها على بقية المجتمع مثلما ثبت من شهادات عدة التي كشفت أن العديدة من الجماعات المتطرفة هي صنيعة الأنظمة المستبدة، أو ظهرت إلى الوجود بإيعاز منها أو بفضل دعمها المباشر او غير المباشر، أو سكوتها عنها في أقل تقدير لأنها تخدم مصالحها في تحييد المجتمع وإبقائه رهينة حالة من لخوف والترهيب؛ 
– لم يعد سرا أن هذه الأنظمة تستخدم التطرف، أفكارا وجماعات، وسيلة لإجهاض كل سبل ونسف كل جسور الحوار والتقارب بين فئات المجتمع المختلفة، لإبقاء المجتمع مشتتا في حالة ذعر، رهينة بين “السلطة” من جهة، والجماعات المتطرفة من جهة أخرى، كقدر مقدور، بحيث تكون هي الحامية للمجتمع والبديل الوحيد المطروح أمامها للخلاص من البعبع المخيف، وهو ما يذكرنا بالتصريحات الكثيرة الصريحة أو المبطنة، المهددة بإطلاق البعبع، على غرار استفزازات أويحيى وسلال وقايد صالح لترهيب الشعب وإدخالهم بين الطاعة، كلما شعروا أن العملاق المكبل يتململ ويهدد بالتمرد على السلطة التي تجثم على صدره.
تفيدنا تجارب التاريخ والأمم أن الأفكار المتطرفة والهدامة لا تحارَب بالقمع والحظر والحرمان، بل تلقى حتفها تلقائيا في مناخ الحرية ومناكفتها بالأفكار الحية وأن الاستبداد هو من يولد التطرف وينميه ويرعاه، بل ويستفيد منه إن لم يكن هو صانعه. الحرية التي جعلها الله شرطا للمسؤولية، كفيلة لوحدها بخنق التطرف وانتشار الإبداع وتنوع الأفكار، وليس مستغربا ولا مفاجئا أن نجد معظم الأنظمة الشمولية والمستبدة في العالم العربي، سواء كانت عسكرية أو “مدنية” صوريا، تحارب الحريات العامة وتخنق صوت المطالبين بها وتوزعهم بين السجون والقبور، بل تجد هذه الأنظمة العربية المستبدة الدعم حتى من الدول الغربية المدعية زعما رعاية الديمقراطية والحريات، وقد رأينا كيف وقفت أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، من الانقلاب في مصر وقبله في الجزائر، والسبب بسيط لأن هذه الدول تدرك إدراكا جازما وفق ما تبينه لها مراكزها البحثية، أن الخيار الحر في هذه الدول يتمخض عنه تلقائيا نظام راشد متشبع بقيم حضارية تحرره من التبعية لغيره ومستفيدا من تجارب عالمية، نظام سيدي يحرر قراراتها من الابتزاز العالمي الذي ساد في ظل الحكام المستدين الذين فرضوا أنفسهم داخليا من خلال زرع ودعم التطرف لقهر الشعب، وخارجيا من خلال الاستقواء بتواطؤ الدعم الخارجي الذي مكنهم من البقاء في الحكم رغم جرائمهم ولا شرعيتهم

3 تعليقات

  1. إذا كانت بريطانيا ، أمريكا ، فرنسا ، و من سار من دول الغرب على دربها ، تعتمد على بيانات مراكز بحثها ، في هندسة سياساتها تجاه عالمنا المستضعف ، خصوصا ما تعلق بالتبعية ، و تمديد عمر أنظمة الاستبداد التي تتغذى أصلا على مادة التطرف التي تستخدمها مثلما تستخدم المواد المتفجرة لإلحاق الأذى بشعوبها المتطلعة منذ أمد بعيد إلى الحرية و الكرامة ، فهل يكفي في المقابل ، الشعوب المستضعفة ترديد نشيد الحرية إلى أن تلحق هذه الأخيرة الهزيمة بالتطرف ؟ ثم ، هل نستطيع القول أن مساري الحرية و التطرف خطان متوازيان ، أم أن العلاقة تقتضي وجود نقاط مشتركة بينهما ؟ و أكثر من ذاك هل نستطيع تحديد المسافة أو المسافات الفاصلة بين كل من التطرف و العنف ، تلك الفواصل التي يصل من خلالها الغرب الليبرالي الرأسمالي الاستعماري ، الرافد الأساسي لأنظمة الاستبداد و الفساد ، إلى منعنا من انتزاع استقلالنا و استرجاع سيادتنا على طريق الحرية و الكرامة ؟

  2. الأحرار فقط حينما يحكمون ، و حكمهم هو الحكم الراشد ، يستطيعون مواجهة الفكرة أو مقارعتها بالفكرة ، أما المستبدون فهم من يستخدمون القمع و يغتصبون حقوق الناس و يسلكون سبل التطرف ، و أكثر من ذلك يتحولون جيلا بعد جيل إلى ما يشبه الأوثان ، لذلك و لذلك فقط وجب ، سواء عن طريق منهج التخلية و التحلية ( التصفية و التربية ) ، أو عن طريق حركة الشعوب و ثوراتها ، ضمن مسار واحد يتجدد و يتمدد ، الرفع من وعي رجل الشعب الذي يفهم خطابا واحدا ، ألا وهو خطاب الضمير الكفيل بتحديد الفارق بين خط الأحرار ، و خط العبيد ، بين مسار الحرية ، و مستنقع الوثنية، الوعي الكفيل بتحويل سلمية الشعوب إلى قارب للنجاة وسط الأمواج العاتية ، يشق طريقه إلى شط الأمان ، و ما ذلك على الله بعزيز .

Exit mobile version