قد يعاتبني البعض ورُبّما يكون تشخيصي فعلا مُجانبا للصواب، ولكني لا أقصد إلا الإرشاد والإصلاح بنقد ظاهرة الحشو اللغوي التي أراها أصابت الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة. وأرى كذلك أن تَميُّز مالك بن نبي رحمه الله يعود لتفطنه لهذه العلة التي ندد بها بشدة في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، وإعتماده أسلوب علمي غير معهود.

الحياة لا تُدار كلها بالرياضيات أو النماذج الحسابية ولا يمكن إيصال كل الأفكار بإثبات فاصل لا يدَع هامشا للطعن والجدل، إلا أنه بالإمكان إعتماد منهجية البرهنة العلمية كأسلوب للتعليل والإقناع في كل مجالات الحياة.

لتدعيم الفكرة المبنية على حجج متينة وإستدلال عقلاني يجب عرضها بأسلوب نظرية الرياضيات، بالإكتفاء بالعبارات البسيطة الضرورية، وعدم الإنصياع وراء إضافات مغرية ببلاغتها.

الأسلوب الأدبي له مجاله الواسع، لكن في معرض الأفكار والتحليل يُعتبر الحشو اللغوي إضعاف وتمييع للفكرة مثل ذلك المسحوق الثمين المُمزج في سائل غزير. مهما كان الإسهاب اللغوي جميلا ومبرزا للثراء الأدبي ومهما كان السائل صفيا ونقيا فإن التمييع سيضعف وربما يلغي تماما المفعول التوعوي للفكرة والعلاجي للمسحوق.

إذا كانت الأفكار الواضحة يسيرة التعبير فالسبب الرئيسي للإسهاب هو الإلتباس الفكري وضعف الحجة.فكل كلمة أو جملة أو حتى آية تضاف قصد التأثير والتوضيح لا تزيد إلا غموضا وإلتباسا، فضلا عن الإنتقاص في عيون العارفين.

إن الجمال اللغوي لا يتصدر الأولويت في المقالات العلمية الهادفة، غير أنهم كثيرون من يُنصِّبون الجانب اللغوي كغايتهم الأولى على حساب المحتوى الفكري، ثم يزعمون أنهم ينتهجون بذلك أسلوبا علميا صريحا.

التكرار في القرآن ليس من الحشو

قد تكون ظاهرة الحشو والإسهاب مرتبطة بالثراء الإستثنائي للغة العرب وبتاريخهم الأدبي العريق ولكن لا يمكن أبدا وصلها بالتكرار القرآني الموجود في كتاب الله لعدة حِكم أبرزها “وذكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين”. بعيدا عن الحشو اللغوي، إن التكرار القرآني يراعي النفس الضعيفة ويحترم العقل البشري ويتحدى بلاغته.

النوع الأول هو التكرار اللفضي المقتصر على حالات إبداعية كقوله تعالى : “وفعلتَ فعلتك التي فعلتَ”.

القسم الثاني هو تكرار لبعض الآيات منها “تلك أُمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عمّا كانوا يعملون” (مرتان في سورة البقرة). والآية الأكثر تِكرارا هي “فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان” (31 مرة في سورة الرحمن).

النوع الثالث للتكرار يتعلق بقصص الأولين من الأنبياء وأقوامهم وغيرهم. وهذه الفقرات تشمل عدة حوارات موصوفة ببلاغة فائقة حيث يكتفي كلام الله بتكرار كلمة “قال” بعد تقديم طرَفي الحوار مرة واحدة في البداية. أواخر سورة “ص” تصف في أكثر من عشر آيات نموذجا مطولا لهذه الحوارات. مثال أقصر تعطيه الآية التالية من سورة البقرة : “وإِذِ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلماتٍ فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذرّيّتي قال لا ينالُ عهدي الظَّالمين”.

كلام الله مُنزّه من الحشو والإسهاب لأن الخالق أدرى بقدرة العقل وبضعف النفس عند مخلوقاته. بقدر ما يتكرر الترغيب والترهيب والحث على التأمل والإعتبار بقدر ما يُحترم الإدراك البشري والربط المنطقي بين الأسباب والنتائج في العالم الطبيعي حتى يستعيبها ويتقبلها العبد لمّا تمتد لعالم الغيب والحياة الروحية كقوله تعالى : “إنّ اللّه لايُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم”.

نصائح لإعداد الماقالات العلمية والثقافية الهادفة

المقال عبارة عن فكرة رئيسية تبرز بوضوح في العنوان. عليك بتفكيكها إلى عدة أفكار أو فقرات هامة منها المقدمة والخاتمة. ومن الطبيعي أن تتطلب هذه المرحلة الجوهرية أكبر مجهود.

في المجال الفكري والثقافي نصيحتي الأولى هي الإلمام بالقيود الشرعية إن وجدت. النصيحة الثانية أن يبذل الشخص مجهودا فرديا بتأمل عميق في الموضوع قبل مطالعة أفكار الغير. التدبر يُمَكِّن من إستيعاب أفكار الآخرين وغربلتها. كثيرون ممن يعتمدون على أفكار الغير فقط يقدمونها كأنها مُتداعمة بينما قد تخفي تناقضا لا يدركونه ويكون واضحا لغيرهم.

أما في ميدان البحث العلمي يُفترض أن التقسيم إلى فقرات تحدده نتائج البحث المتوفرة.

كل فقرة تتكون من أفكار جزئية عليك تدوينها ومراعاة تسلسلها. بعد تحرير كل الفقرات تأكد أولا من ترتيبها. في كثير من الحالات التمعن في العلاقة بين العلة والمعلول يقتضي تغيير الترتيب، وهذا ما يغفل عنه الكثير. تأكد كذلك من وجود تواصل واضح بين الفقرات. في بعض الأحيان تحتاج إلى جُملة إظافية لتربط مع الفقرة التالية.

بعد الإنتهاء من كل الفقرات راجع بدقة المقدمة والخاتمة. غالبا ما تكون هذه المراجعة عميقة ومهمة شكلا ومضمونا.

وهنا فقط نصل إلى مرحلة التدقيق اللغوي. المراجعة اللغوية تشمل تعديلات وتغيير بعض العبارات وقد تتطلب إضافات، ولكن أهمها هو التخلص من الفائض.

أن تكون مقتنعا غير كاف لإقناع الغير، فإن الفكرة الهادفة تأتي أكلها أفضل لما يتم التعبير عنها بأسلوب علمي واضح ومُبسَّط. أي خطأ في ترتيب الجُمل أو الكلمات وأي عبارة أو فقرة غير ضرورية تُميِّع وتُضعف المفعول وقد تهوي بكل المجهود الفكري بعيدا عن أهدافه.

عبد الحميد شريف – بروفيسور في الهندسة المدنية

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version