عبد الحميد شريف

وُلد إبن عمي الشباح رحمه الله عام 1947، أي سنة بعد وفاة جدنا الشيخ الشباح رحمه الله، وكان له شرف الظفر بإسم العالم الجليل. كان يكبرني بستة أعوام ولكن الفارق لم يكن ظاهرا نظرا لبنيته النحيفة. واستغل تلك الخاصية بحكمة وجرأة قبل الإستقلال، إذ كان يخادع الحركى أثناء زيارات العسكر لنا بابتسامته البريئة، ويطلب منهم بعض الخراطيش ويسرق كمية أخرى ليسلمها فيما بعد لعمِّنا السعيد رحمه الله. وكاد في إحدى المناسبات أن يستولي على مسدس لولا تفطن الحركي في آخر لحظة.

تحمُّسه الخارق للسلاح والدخيرة قاده بعد الإستقلال مباشرة لاكتشاف القنابل اليدوية التي تعمَّد الإستعمار في تركها في إحدى الشعاب جنب الطريق الرابط بين تاغيت وعين الطريف، هضبة عين الطريف التي شيّد فيها المستعمر مُدرَّجا للطائرات العسكرية خلال الحرب التحريرية.

تعززت صداقتنا في هذه الفترة وعرَّفني بالمكان الذي يبعد بحوالي كيلومتر عن البيت في منحدر جنب الطريق. القنابل كانت كثيرة وربما بالعشرات، ومن الواضح من مظهرها أنها حديثة التواجود هناك.

في كل مرة نزور الموقع نختار قنبلة ثم نفجرها بطريقة آمنة حيث نرميها في النار ثم نختبئ وراء حاجز ساتر. قمنا في تلك الصائفة بتفجير ثلاثة قنابل، الأولى والثانية في جبل “مالو الكوشت” بعد الوادي. أما الثالثة فأنا لحد الآن أرتعش لما أتذكر مكان التفجير، وراء الديار، ولم يخطر في بالنا أن شخصا قد يرى النار ويتجه نحوها. أما الرابعة فقد اكتَشف أمرَها الأخ الأكبر للشباح، علي رحمه الله، فأخذها وفجرها في الوادي بعد إخبار الجميع.

توقف نشاطنا التفجيري المكشوف إلى غاية أكتوبر، يوم 22 حسب ما علمته لاحقا. كنت في البيت فجاءني أحمد معلى رحمه الله عند العصر فأخبرني أن الأطفال يلعبون في عين الطريف لعبة “الكرُّوسة” (قيادة طوق). فأخذنا “كروسة” والتحقنا بالمجموعة التي تظم حوالي عشرين طفلا من بينهم محمد الطاهر عبيدة رحمه الله. كان في سن الشباح ولكنه قوي البنية وشجاعا، وكان الوحيد الذي يتحدى شامخا “الفَلَقَة”، أي الضرب العقابي من طرف معلم القرآن.

بعد مدة اقترح لي الشباح زيارة جماعية للموقع، فأخبر الجميع واشترط الإنضباط. إثنا عشر انتقلوا إلى المكان وتوجه نحو القنابل عدد أقل بعد إبعاد الصغار. أتذكر فقط أن الشباح إلتقط قنبلة بيضوية الشكل. وهنا فقدت الذاكرة ولم أسترجعها إلا بعد الواقعة. حسب البعض فإن محمد الطاهر أراد أن يفتك القنبلة من يد الشباح وتم هكذا سحب حلقة الأمان. وقيل كذلك أن الشباح طلب منا الهروب قبل أن يرميها.أعتقد شخصيا حسب الإصابات أن القنبلة انفجرت في الأرض بينهما أو غير بعيد، وكنت أنا وراءهما.

وأنا فاقد للوعي أتذكر كحلم سماع صوت انفجار بعيد وطويل كأنه يتكرر. لا أدري كم بقيتُ مُغمى عليَّ، ولما أفقت وجدت نفسي مطروحا لا أرى شيئا. أدركت ما حصل، خاصة لما سمعت محمد الطاهر يتوجع ألما والشباح ينطق بالشهادتين. لا شعوريا رحت أقتدي بابن عمي وقائدي مرددا معه الشهادتين. وبقيت على هذا الحال حتى أُغمِي علي مرة أخرى. ولما أفقت ثانية لم أسمع أي صوت. تمكنت من الوقوف وبدأت أصعد نحو الطريق. وبعد خطوات رأيت أحمد واقفا كأنه ينتظرني، ولما وصلت جنبه لاحظت أنه يحمل ببن يديه وبطنه أمعاءه الغليظة التي خرج الجزء الأكبر منها. بقدرة قدير شظية القنبلة فتحت بطنه دون أن تدخل. أتذكر أنه قال لي بالشاوية “أقل أقل” (أنظر أنظر). لم أجد ما أرُد ومشينا معا حتى وجدنا عبد المليك وحسان يناديان باسم أخيهما الشباح. قلت لهما لا تنتظران وطلبت منهما مساعدتي على المشي، ولكن بعد مسافة قصيرة لم أتمكن من المواصلة فطلبت منهما إخبار الأهل. أما أحمد فواصل المشي حتى التقى أفراد العائلة الذين فزعوا بعد سماع الإنفجار. وكانت زوجة عمي الطيب رحمهما الله سببا في إنقاذ حياته، إذ قامت بإعادة الأمعاء داخل البطن ثم خلعت “الشان” من فوق رأسها وربطته على الجرح المفتوح.

هرول العرش للمكان وجاء مسعود برحايل رحمه الله بشاحنته لحمل الجرحى الأربعة لمستشفى أريس. الشباح ومحمد الطاهر فارقا الحياة رحمهما الله، ونحسبهما من الشهداء عند الله، فأما الجريحان الآخران فهما بلقاسم عبيدة الذي فقد عينا وعبد الحميد عبيدة الذي أُصيب في الساق.

لما وصلنا أريس طلب الأطباء تحويلنا مباشرة لباتنة في سيارة إسعاف، وعانى أحمد كثيرا في الطريق حتى ظننت أنه سيموت.

خضع أحمد وبلقاسم لعمليات جراحية، أما أنا فغسلوني بسائل خاص ثم قاموا بخلع الشظايا ما استطاعوا. اتضحت إصاباتي كثيرة (حوالي عشرين) بينما رفاقي يبدو أنهم أصيبوا بشظية واحدة فقط ولكن إصابة كل من أحمد وبلقاسم كانت جد خطيرة.

لأيام عديدة لم أتمكن من الوقوف وكان أحمد يزورني في غرفتي. وفي إحدى الأيام (ربما أول نوفمبر) حصلنا على ألعاب خارقة، عبارة على شاحنة لي ودبابة بقذائفله. ترك أحمد لعبته عندي وكان يزورني ونستمتع بها معا. يوم بدأت أمشي ساعدني على الخروج من الغرفة، فلما رجعنا وجدنا الدبابة قد سُرقت، وكم كانت خيبتنا عميقة، ولعلي تأثرت أكثر لكونها سُرقت من غرفتي بعدما تكرَّم بتركها عندي. أصبحت تلك الحادثة الراسخة طرفة بقينا نتذكرها.

حسب تقديري، غادر عبد الحميد عبيدة المستشفى بعد أقل من أسبوع، بلقاسم مكث حوالي أسبوعين وأحمد حوالي عشرين يوما. أما أنا فغادرت المستشفى بعد ما يقارب الشهر. بعد خروجي لاحظت أن عددا كبيرا من الشظايا بقي في الساقين دون أن أشعر بأي إزعاج.

في الربيع من سنة 1963، انتقلت إلى مركز أبناء الشهداء بدالي ابراهيم. ولما عَلِم المدير بأمر الشظايا أخذني للمستشفى. خضعتُ للأشعة وأنا واقف وتقاجأت لما رأيت عظام الساقين وعدة نقاط بيضاء متفاوتة الحجم. سألني الطبيب هل تؤلمني فقلت لا، وسعدت لما سمعته يقول للمدير أنها غير ضارة ولا حاجة لإزالتها.

ولكن بعد سنوات بدأت أكبر قطعة (في حجم حبة حمص) تؤلمني وتتحرك نحو الجلد إلى أن تمكنت من إخراجها بواسطة مِدور معدني في سنة 1971. وفي أواخر الثمانينيات بدأت أشعر بألم بسب قطعتين في الفخذ. فطلبت من فوزى نجاحي، بروفيسور في جراحة العظام، أن يخلع ما تبقى من الشظايا. كنتُ أدله عليها واحدة تلو الأخرى وهو يحقن المخذر ثم يشق ويخلع. أخرج ستة قطع وظننت أني تخلصت منها نهائيا. ولكن بعد سنة أو أكثر لاحظت بقاء حبتين صغيرتين، إحداهما في القدم فأما الثانية فنادرا ما تظهر ولا أتذكر مكانها.

تساءلت مرارا وتكرارا عن سلوكنا الغريب والخطيرفي تلك الفترة الخاصة حيث كنا نغامر بأرواحنا ونفجر القنابل كأنها ألعاب.هل هو جنون أو جهل أو غباء،أم هو تأثير عميق لأحداث فوق العادة ؟

هذه شهادتي لمن لم يعش تلك الفترة في مثل تلك الديار، تقتصر على ما رأت عيني، وهو جد محدود بحكم سني.

فضلا عن زيارات شبه يومية للعسكر، وزيارات أقل لعمي السعيد رحمه الله ورفاقه، وإلى غاية ترحيلنا لتيغزة سنة 1961، لا يكاد يمر يوم دون أن أرى دبابات ومدرعات، بل كانت هناك دبابة تأتي كل صباح للمراقبة قرب البيت. رأيت قذائف الدبابات تمر فوق المنزل في تبادل ليلي للنار بعد خروج عمي السعيد ورفاقه، ورأيت طائرات تلقي قنابلها في جبل اللوح والجبل الأزرق، وأتذكر الأضواء الليلية وطائرات معركة “احمر خدو” الشهيرة التي شارك فيها الحلف الأطلسي في أكتوبر 1960 والتي استشهد فيها والدي رحمه الله.

من المرجح أن تلك المشاهد وتوالي استشهاد أبطال العائلة والقرية، هم أسباب تعاملنا مع القنابل كمجرد مفرقعات، وتُفسِّر كذلك عدم شعوري بالخوف أو الندم لما أدركتُ ما حصل مع القنبلة وأنا أردد الشهادتين. لم أذرف أي دمعة يومها، ولم أبكِ الشباح إلا في الكبر كما بكيته وأنا أكتب هذه الشهادة. ذلك المستوى من السكينة والرضى بقضاء الله وقدره، أنا أتوق إليه الآن، ولكن يبقى أهمما أتضرع به إلى الله هو أن يوفقني للإقتداء مرة ثانية بابن عمي الشباح رحمه الله، والنطق بالشهادتين عند الرحيل.

تعليق واحد

Exit mobile version