إذا صمت الشعب وتوارى عن الأنظار بعد يأس من إمكانية تغيير الفساد ووقف الاستبداد، يُنظر إليه كنكرة لا وزن له ولا اعتبار، نظرة من إذا حضر لا يستشار وإن غاب لا يفتقد، وإذا خرج عن صمته وجهر برفضه للاستبداد والتعسف، أصبح “عميلا” يوظف من طرف جهات مشبوهة أو أجنبية لضرب استقرار الوطن وأمنه، أما إذا واصل تظاهراته ورفض العودة إلى بيت الطاعة، فيعتبر عدوا وجب القضاء عليه بكل الوسائل، الخشنة منها والناعمة المنومة، وفي كل الحالات يستكثر عليه أن يطالب بحقوقه بكل سيادة وإرادة.

هذه نظر الأنظمة المستبدة في الوطن العربي إلى شعوبها، أمر قديمٌ ومعلوم لدى العام والخاص، لكن الجديد عندنا في الجزائر، خاصة في هذه الفترة الأخيرة، أن فئة من المثقفين ورجال الفكر والقلم، أصبحت (دون أن نخوض في نواياهم) تتبنى هي أيضا هذه النظرة الدونية للشعب، وتكيل له نفس التهم. قد يعتقد البعض أنني أقصد فئة الأقلية الساحقة، من المتطرفين العلمانيين الفرنكو بربريست، من بقايا تلاميذ اسنيون وبيجار، الذين اختاروا على الدوام التموْقع إلى جانب آلة القمع لكسر عظام المواطنين والتحريض عليهم، فهذه الأقلية معروفة الحال والعنوان وقد عرفها الشعب وخبرها بما يكفي، ليست هذه هي الفئة التي أقصد، التي أقصدها هي مجموعة من المثقفين، تقع على نقيض الأولى، ويفترض أنها ارتوّت من ينابيع باديسة إبراهيمية نوفبرية أصيلة، وتشترك مع هذا الشعب في آلامه وآماله، لكن يبدو للأسف، أن ثورة الشعب السلمية أقضت مضجعها وعكرت صفوها وجعلتها في حرج وحيرة من أمرها، والسبب أن هؤلاء لم يستسيغوا أن يتمرد الشعب هذه المرة عن وصاية العقلية العسكرية المستوطنة، التي اكتشفوا فيها فجأة المنقذ والمحرر للشعب والمحارب للفساد، والحصن المنيع ضد الفاسدين و”أذناب فرنسا”، ولم يفهم حراس المعبد كيف تجرأ هذا العشب “الجاهل” في نظرهم، على رفض “الخلاص” وطوق النجاة الذي أصبحوا يبيعونه للناس، وقد اصمت هذه الفئة من المبشرين بالعهد الجديد، آذانها ورفضت سماع صوت الشعب وهو يطلب فقط بأن يعيش في ظل دولة القانون، لا يستجدي فيها أحدا ليمارس حقه المشروع بعيدا عن كل الوصايات. 

 هذا التوجه من الشعب لم يروق القوم فنزلوا عليه بالتهم الغليظة والاحتقار والقذف بل واعتبروه تافها لا يفقه التحديات الكبرى التي يواجهها الوطن ولا يقدر حق التقدير المخاطر التي تحدق بالبلاد مثلما يحاضرنا فيها القوم، ولا يعرف بحسبهم حتى مصلحته، وهم بذلك يكررون النظرة الاستعلائية للفئة الساحقة الأولى التي استباحت دمه قبل ربع قرن. الذين يحتقرون الشعب اليوم وينعتونه بالقاصر والمغفل، ويتهمونه بخدمة مصالح الدولة العميقة، وفرنسا وآل صهيون، وأرباب المال وكل الأشرار، ينظرون إليه نظرة دونية، كونه لا يرقى  في نظرهم إلى مستوى الوعي الذي يحرره من الوصايات، ويتوّجسون من كل حركاته ويعتبرونها مشبوهة، تسيرها جهات في الظلام ولا يمكنها أن تكون من تلقاء نفسه وتجسيدا لوعيه وقراءته للوضع، وفيه منهم حتى من خلص إلى أن حراك 22 فبراير تقف وراءه اليد…الصهيونية.

لكن هل نذكر بأن جزء كبيرا من هؤلاء المترفعين عن الشعب كانوا قبل 22 فبراير متوجسين من هذا الحراك المبارك أصلا، وشككوا فيه وفي “من يقف ورائه” وغمزوا في “عفويته”،  قبل أن يصبح موقفهم هذا محرجا لهم، تهمهم الموجهة للمشاركين في المسيرات المطالبة بالتغيير الجذري غير قابلة لتصديق، على غرار قائد الأركان الذي وصف المتظاهرين بالمغرر بهم، وذلك حتى بعد انطلاقة الحراك في 22 فبراير، وعندما تعاظمت حركة الشعب وأصبحت مليونية، أجبر على تغيير لهجته وخطابه، ليتحول إلى المشيد بالحراك “المبارك وبحضاريته”، لكن أمام إصرار الشعب في مطالبه وعدم رضوخه لأجندة قيادة الأركان ومواصلة حراكه، عادت السهام توجه إليه، بعد أن خابت آمال هذه الجهات التي كانت تعوّل على المناورات لإقناعه بالعودة إلى البيوت، والاكتفاء بالإجراءات السطحية المتخذة لحرف مساره المطالب بالتغيير الجذري والالتفاف عليه، فبدأنا من جديد نسمع من يهوّن من قيمة الشعب بل ويحتقره ويسفه خطواته وتفكيره بل ويحيل كل ما أجبرت السلطة على اتخاذه من إجراءات، منذ 22 فبراير إلى قيادة الجيش، الذي يصفونه بالحصن المنيع الذي يحمي الشعب من عصابة توفيق والدولة العميقة وأذناب فرنسا، وينكرون أن هبة الشعب هي التي قذفت الرعب في نفوس العصابة، في محاولتهم البائسة لتزوير التاريخ وكأننا بلا ذاكرة ولا قدرة على قراءة محطات التاريخ القريب والبعيد. ولرفع كل لبس، نذكر بهذه المحطات:

منْ وضع حدا للعهدة الخامسة الشعب أم الجيش أم منْ؟

هناك من يستغفلنا ويقدم لنا قيادة الجيش في صورة البطل في محاربة دولة آل بتوفيبقة وما علق بها من أباطرة الفساد السياسي والمالي والإعلامي. إذا تجاوزنا مسالة ما دخل الجيش في هذا المجال الذي يفترض أن يؤول إلى جهات وآليات معروفة مخولة نتساءل مع ذلك، ألم تكن قيادة الجيش مع العهدة الخامسة إلى غاية الأسبوعين الأولين من الحراك، وقد جمع بدوي بمباركة الجيش وتحت حمايته 5 ملايين  توقيع مزعوم لبوتفليقة؛ ألم تفشل كافة الجهات والأحزاب في وقف العهدة الخامسة واستمرت السلطة في مسارها لتحقيق ذلك؟ أليس الشعب في حراكه هو من وضع حدا لهذه المهزلة وأجبر السلطة الفعلية على وقف حماقتها، ولولا هبة الشعب لكنا اليوم في عهدة بوتفليقية خامسة بمباركة قائد أركانه، هذه هي الحقيقة التي لا يمكن لأي كان أن ينفيها مهما حاول المراوغة والتطاول على الشعب.

مَنْ واصل ضغوطه إلى أن أجبرت السلطة الفعلية على حل حكومة صاحب المهام القذرة؟ الجيش؟ ألم يكن جزء منها وباركها وعمل سويا مع صاحب المهام القذرة لعقود من الزمن؟ هل الأحزاب هي التي أجبرت الحكومة على الذهاب؟ ألم تكن هذه الأحزاب دائما ضمن أكلة القصعة. أليست استماتة الشعب في مطالبه ورفضه الوقوع في فخ المناورات، هي من أجبرت أويحيى وحكومته على الرحيل؟ كفى مكابرة، الفضل في ذلك يعود بعد الله سبحانه عز وجل إلى الشعب المتهم بالسذاجة والجهل وقصر النظر.

منْ واصل ضغوطه إلى أن فرض استقالة رئيس المجلس الدستوري؟ الجيش؟ لماذا لم يفعل ذلك من قبل رغم علمه بأن تعيين بلعيز كان غير دستوري بعد أن تولى هذه المهمة من قبل؟ الشعب هو من أجبره على الاستقالة.

من طالب “بتتحاو قاع”، وصرخ بصوته “يا سراقين كليتو البلاد”، حتى بدأت الرؤوس تسقط، ولم يكتفي بصغار القرابين؟ هل هو الجيش الذي كان من قبل يعتبر مطالب الشعب تعجيزية؟ أبدا، لم يتحرك الجيش وكان عونا فعليا وضمنيا للفاسدين، ألم  تكن قيادة الجيش هب التي أسست لكل الفساد بدء من جلت كافة الرؤساء بدء من بن بلا إلى بوتفليقة، هل ينفي عاقل هذه الحقيقة؟ وهي التي فرضت الحكومات المتتالية وكافة الولاة وكبار المسؤولين وسمحت لرجال نهب المال بالاستيلاء على ثروات هائلة من أموال الشعب، دون حسب أو رقيب، حتى وصلنا إلى هذا الوضع، وبعد أن شعر الجنرالات الماسكين بزمام الأمر، باقتراب لهيب الغضب منهم، قاموا بعملية استباقية، فبدؤوا تقديم الحيتان الكبار قبل أن يطالب برأس قيادة الأركان باعتبارها جزء لا يتجزأ من منظمة الفساد والعصابة. لولا الشعب لما رأينا حداد وربراب والإخوة كويناف ولويزة حنون وطرطاق وتوفيق وغيرهم أمام المحكمة ويلقى بهم في السجن، وكل من يدعي غير ذلك، إما مغيب أو مفتري.

يكذب على نفسه وعلى الناس من يدعي أن الفضل فيما يجري يعود لقيادة الأركان، لأن لولا الشعب في ثورته السلمية واستمراره في النضال، ما رأينا ولا شيء من كل ما يحدث، وبدل من إحالة الفعل إلى غير أهله، حري بقيادة الأركان أن تشكر الشعب على نهضته الحضارية التي حررته من قبضة الفاسدين المفسدين، وبدل المناورة واستثمار الوقت، لغير صالح البلاد والعباد، حري بقيادة الأركان تدارك الوضع والإنصات جيدا إلى الشعب وعدم الانقلاب على مطالبه المشروعة والتعويل على شق صفوفه وإنهاكه وتضليله، قبل الانقضاض عليه. للأسف أصبحت موضة وحجة مفحمة لدى بعض “الوطنيين” الذين جعلوا من احتقار الشعب واتهامه بالعجز والقصور والغفلة، نياشين على صدورهم يتقربون بها إلى سدة باب القايد “العريق” في مكافحة جنرالات الدولة “العميقة”. هؤلاء أصبحوا دون حياء أو ضمير يتهمون كل من لا يقدم الولاء لعقلية العسكر، بأنه يتطاول ولا يقدر الخدمة والرسالة الجليلة التي تقدمها له “قيادة الأركان” في تخليصه من الدولة العميقة. وهناك من يذهب في احتقاره للشعب وتسفيهه، إلى درجة اتهامه بأنه لا يعرف حتى ما هي الدولة العميقة، وبأنه يوّظف من طرفها دون أن يدري، وبأن قيادة الأركان “العريقة” هي من خلصت الشعب من هذه الدولة العميقة، وهنا أيضا أكرر السؤال لماذا الآن فقط؟ ألم تكن هذه الدولة “العميقة” موجودة منذ عقود في حماية دبابات الدولة العريقة، أليس الشعب هو من خرج بالملايين لينهي هالة البعبع، ويقول كلمته ويبرهن عن وعي، يفتقر إليه حتى هؤلاء الذين يحاضرونه الآن في ثنائية الدولة العريقة/ العميقة؟ من هو إذن الجدير بالتقدير، الشغب الذي أعاد للبلاد كرامتها وسمعتها، أم الجهة التي تعايشت مع الدولة العميقة سنوات في حجرة واحدة وأكلت من قصعتها؟ في الواقع أكبر خدمة يمكن لقيادة الأركان أن تقدمها للوطن وللشعب، وربما تسجل لها لتنسينا سجلها المخزي عبر عقود من التدخل لكسر عظام الشعب، أن لا تتدخل هذه المرة في المنازلة الحضارية التي يخوضها الشعب ضد الدولة العميقة فعلا وكل أقطاب الفساد، فالشعب قادر على مواجهتها بطريقته وبكل وعي وعبقرية، ويمكنه تحقيق النجاح ما لم تتدخل الأجهزة الأمنية والعسكرية مثلما فعلت من قبل، فلتترك الشعب وسترى أنه قادر على تحقيق المهمة، وهو لا يحتاج إلى الدبابة لحمايته داخل وطنه، بل أن توجه فوهاتها إلى الخارج لحماية الثغور وألا تطعنه في الظهر ككل مرة.

تعليق واحد

  1. الأستاذ رشيد ، بوركت ، من ذكرتهم ، من غير الدوائر الممسوخة ، و الذين أحسنت بهم الظن ، ممن أطلوا دون حياء ، يرمون أبناء الشعب بالشرذمة بسبب موقفهم من بيت العسكر ، هم ضحية الغزو الفكري ، الذي حدثنا بخصوصه مهندس الثقافة و فيلسوف الحضاره يوم كان يكشف خباياه أيام الاستعمار ، فما أشبه اليوم بالبارحة ! و ما أخطر مثل هذا الداء العضال ؟

Exit mobile version