منذ خمس سنوات تقريباً، احتجاجات جماهرية أزاحت الطاغية حسني مبارك عن كرسي السلطة. اعتقد أغلب المراقبين المحليين والأجانب أن مصر تسير نحو مستقبل ديمقراطي، حتى أن البعض قد أعلنوا عن حلول الديمقراطية؛ ولكن انتخاب محمد مرسي وحزبه الإخوان المسلمين وحزب العدالة أدى إلى ظهور التيار القطبي وكذا العنف، وفي سنة 2013 وبعد المزيد من الاحتجاجات الجماهرية، استولى عبد الفتاح السيسي على السلطة بفعل الانقلاب العسكري. منذ ذلك الحين، قتل نظام السيسي أزيد من 1000 مدني، بالإضافة إلى سجن عشرات الآلاف منهم، وفرض إجراءات صارمة على الإعلام والمجتمع المدني. ليس ببعيد عن هذا، فلقد كان لتونس أداءً أفضل. بدأت موجة الانتفاضات العربية هناك سنة 2010، وصمدت الحكومة الديمقراطية التي مهدت لها ثورة تونس الطريق. لقد حققت نجاحا في إحدى المهام الحاسمة للمرحلة الانتقالية وهي الموافقة على دستور جديد، والتي اعترفت به لجنة جائزة نوبل كإنجاز حيث أنها منحت جائزة نوبل للسلام لربع منظمات المجتمع المدني الناشطة خلال المرحلة الانتقالية لتونس. ولكن ظلت ديمقراطية تونس هشة، يهددها العنف السياسي، إضافة إلى عمليات القمع ضد المنشقين واغتصاب حقوق الإنسان. الأمر ذاته في كوبا، فأخيراً، هناك آمال من أجل مستقبل ديمقراطي،حيث بدأ الحكام المتسلطين بفرض الإصلاحات. وفي ميانمار (المعروفة كذلك ببورما)، مرحلة انتقالية بطيئة وغير منتظمة من الحكم العسكري إلى الحكم الشامل الذي لازال في قيد التنفيذ، ولكنه يبقى محفوفاً بالمصاعب.

ما الذي يحدد ما إذا كانت محاولات التحول الديمقراطي ستنجح؟ تتيح التجربة السابقة بعض الرؤى (الأفكار). لقد أجرينا مقابلات واسعة النطاق مع 12 رئيس سابق ووزير أول سابق الذين لعبوا أدواراً أساسية في المراحل الانتقالية الديمقراطية الناجحة لكل من البرازيل، والشيلي، وغانا، واِندونيسيا، والمكسيك، والفيليبين، وجنوب إفريقيا وإسبانيا. كان البعض منهم قادة في الأنظمة الاستبدادية ومع ذلك فلقد ساعدوا في توجيه بلدانهم نحو ديمقراطية ناجعة. تفاوض ف. و. دي كليرك – بصفته رئيس – مع نيلسون مانديلا والمؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) لوضع حدٍ للعنصرية. ب.ج. حبيبي ، نائب الرئيس في عهد الديكتاتور الإندونيسي سوهارتو، أصبح رئيسًا بعد استقالة سوهارتو في مواجهة الاحتجاجات الضخمة. ثم أطلق حبيبي سراح السجناء السياسيين، وأضفى الشرعية على النقابات العمالية، وأنهى الرقابة على الصحافة، وسمح بتشكيل أحزاب سياسية جديدة، وغيّر قواعد السياسة الإندونيسية، مما مهد الطريق للديمقراطية الدستورية.

كان للقادة الآخرين دور بارز في حركات المعارضة التي أنهت الحكم الاستبدادي وساعدت بعد ذلك في بناء ديمقراطيات مستقرة. أصبح باتريسيو إيلوين – زعيم المعارضة للجنرال أوغستو بينوشيه – ديكتاتور تشيلي حكم لمدة طويلة – أول رئيس منتخب لبلاده بعد استعادة الديمقراطية في عام 1990. وقد أصبح تاديوش مازوفيكي، وهو مفكر كاثوليكي وزعيم النقابة العمالية “التضامن solidarity” أول رئيس وزراء لبولندا ما بعد الشيوعية.

كما أجرينا مقابلات مع شخصيات بارزة: القادة الذين شاركوا في الاستبداد والديمقراطية، مثل ألكساندر كواسنيفسكي – وزير في الحكومة الشيوعية في بولندا – شارك في مناقشات المائدة المستديرة التي أدت إلى الانفتاح الديمقراطي لبولندا؛ لاحقاً، كرئيس، فلقد ساعد في بناء المؤسسات الديمقراطية لبولندا. انضم فيدال راموس – وهو مسؤول عسكري ذو رتبة عالية في الفلبين في ظل نظام فرديناند ماركوس الاستبدادي – إلى المعارضة خلال المظاهرات الجماهيرية الضخمة في عام 1986. وقد شغل فيما بعد منصب وزير الدفاع ثم الرئيس الثاني لديمقراطية ما بعد ماركوس.

على الرغم من أن القوى الاجتماعية والمدنية والسياسية الأوسع لعبت أدوارًا مهمة، إلا أن هؤلاء القادة كانوا مفتاحًا للمراحل الانتقالية الناجحة في بلدانهم؛ لقد ساعدوا في وضع حد للأنظمة الاستبدادية ووضعوا ديمقراطيات دستورية في مكانها، وتم إضفاء الطابع المؤسسي عليها من خلال انتخابات منظمة ونزيهة إلى حد ما.. إلى جانب وضع ضوابط وقيود هادفة على السلطة التنفيذية والضمانات العملية للحقوق السياسية الأساسية – ولم يتم عكس أي من هذه التحولات. تبقى الديمقراطية عملاً قيد التقدم في بعض هذه البلدان، لكن التحوّلات غيّرت بشكل أساسي توزيع السلطة وممارسة السياسة.

بالطبع ، لا يوجد نموذج واحد يناسب الجميع للتغيير الديمقراطي. حتى الآن، تقدم المراحل الانتقالية السابقة بعض الدروس القابلة للتطبيق بشكل أوسع. يجب أن يكون الإصلاحيون الديمقراطيون على استعداد لتقديم تنازلات لأنها تعطي الأولوية للتقدم التدريجي على الحلول الشاملة؛ يجب عليهم بناء تحالفات، والوصول إلى داخل الأنظمة التي يسعون للإطاحة بها، والتصدي لمسائل العدالة والانتقام. وعليهم وضع الجيش تحت السيطرة المدنية. يمكن للراغبين في بناء الديمقراطيات على أنقاض الديكتاتوريات تحسين فرصهم بإتباع أفضل الأساليب.

تبدأ المراحل الانتقالية الديمقراطية الناجحة قبل وقت طويل من تولي السياسيين المنتخبين السلطة. يجب أن تحصل المعارضة أولاً على دعم شعبي كاف لتحدي قدرة النظام على الحكم ووضع نفسه كمنافس معقول للسلطة. يتعين على قادة المعارضة تعبئة الاحتجاجات؛ التنديد بسجن المعارضين وتعذيبهم وطردهم؛ وتقويض شرعية النظام الوطنية والدولية.

هذا يتطلب غالبًا تضييق الخلافات العميقة بين المعارضة حول الأهداف والقيادة والاستراتيجيات والتكتيكات. لقد عمل معظم قادة المرحلة الانتقالية الذين قابلناهم بجد مع مرور الوقت للتغلب على هذه الانقسامات وبناء تحالفات واسعة من قوى المعارضة، وتوحيد الأحزاب السياسية، والحركات الاجتماعية، والعمال، والطلاب، والمؤسسات الدينية، والمصالح التجارية الرئيسية حول جدول أعمال مشترك. في بولندا، عملت النقابة العمالية “تضامن Solidarity” عن كثب مع المنظمات الطلابية والمثقفين وعناصر الكنيسة الكاثوليكية. أقنعت حركة المعارضة البرازيلية الصناعيين في ساو باولو بدعم قضيتها. وفي إسبانيا، تمكنت مجموعات المعارضة من حل الكثير من خلافاتها في المفاوضات التي أدت إلى اتفاقيات مونكلوا لعام 1977، حيث اتفقت على كيفية إدارة الاقتصاد خلال المرحلة الانتقالية.

على عكس ذلك، عندما تفشل المعارضة في التوحيد، فإن فرص الديمقراطية ستتضرر. في فنزويلا، منعت الانقسامات الخطيرة حول كيفية المواجهة إزاء الحكومة حتى الآن المعارضة من الاستفادة الكاملة من سوء إدارة النظام الاقتصادي. وفي صربيا، تمكن سلوبودان ميلوسيفيتش الحكم بطريقة استبدادية على نحو متزايد بعد توليه السلطة في عام 1989، ويرجع ذلك جزئيًا إلى عجز المعارضة الصربية عن تقديم جبهة موحدة. أما في أوكرانيا، قلبت الثورة البرتقالية 2004-5 نتيجة الانتخابات التي اعتبرت مزيفة بصورة كبيرة. لكن الانقسامات بين الإصلاحيين أعاقت بعد ذلك التطوير الإضافي للمؤسسات الديمقراطية وسيادة القانون، مما أدى إلى عقد آخر من حكم الأوليغارشية والفساد السياسي.

تحتاج حركات المعارضة الديمقراطية أيضاً إلى بناء جسور مع أولئك الذين تعاونوا مع النظام في السابق، ولكن الذين قد يكونون الآن على استعداد لدعم التحول الديمقراطي. يميل التركيز على المظالم السابقة إلى نتائج عكسية، لذلك ينبغي على الإصلاحيين الديمقراطيين بدلاً من ذلك إبراز رؤية إيجابية وتطلعية للمرحلة الانتقالية لمواجهة الخوف السائد الذي تغرسه الأنظمة الاستبدادية، في الوقت نفسه، ينبغي عليهم تهميش أولئك الذين يرفضون نبذ العنف أو الذين يصرون على مطالب لا تقبل المساومة بالحكم الذاتي الإقليمي أو العرقي أو الطائفي.

لكن توحيد المعارضة لا يكفي؛ فيجب على القوى الديمقراطية أن تفهم وتستغل الانقسامات داخل النظام الحالي. من أجل إقناع العناصر داخل النظام بأن تكون منفتحة على التغيير، يجب على الإصلاحيين تقديم تأكيدات موثقة بأنهم لن يسعوا للانتقام أو مصادرة ممتلكات المطلعين على النظام. يجب على حركات المعارضة أن تعمل بجد لتصبح محاوراً سليماً لأجل من هم داخل النظام الاستبدادي الذين يرغبون في إستراتيجية الخروج، مع عزل أولئك الذين يظلون متشددين. على سبيل المثال، كانت الإستراتيجية الأساسية للمصلح البرازيلي فرناندو هنريك كاردوسو هي حث عناصر الجيش على الوصول بحثًا عن مخرج.

يمكن أن يتم الاتصال المباشر بين المعارضة والنظام سراً في البداية، إذا لزم الأمر، كما كان الحال مع الاتصالات الأولية بين المسؤولين الحكوميين وممثلي المؤتمر الوطني الأفريقي، التي عُقِدت خارج جنوب إفريقيا في منتصف الثمانينيات. يمكن للحوارات غير الرسمية، مثل مناقشات الطاولة المستديرة في بولندا، أن تساعد أعضاء النظام والمعارضة الديمقراطية على فهم بعضهم البعض، والتغلب على الصور النمطية، وبناء علاقات عمل. كما لاحظ دي كليرك “لا يمكنك حل النزاع دون أن تتحدث الأطراف المعنية مع بعضها البعض. . . . من أجل النجاح في المفاوضات، عليك أن تضع نفسك في مكان الطرف الآخر. يجب على المرء أن يفكر من خلال قضيتهم وتحديد. . . [ الحد الأدنى لمتطلبات الطرف الآخر ] لضمان مشاركتهما البناءة في عملية التفاوض. “

خلال هذه العملية، يجب على الإصلاحيين ممارسة الضغط على النظام والمجازفة لتحقيق تقدم مستمر، حتى لو كان ذلك تدريجيًا. يجب عليهم أن يكونوا مستعدين لتقديم تنازلات حتى وإن كانت هذه الأخيرة تترك بعض الأهداف الحاسمة المحقَقَة بصورة جزئية. وبعض المؤيدين المهمين الذين أُحبِطوا. غالبًا ما يتطلب استبعاد المواقف المتطرفة، المزيد من الشجاعة السياسية أكثر من الالتزام بمبادئ جذابة ولكنها غير عملية. لا تعتبر المرحلة الانتقالية مهمة للتيار المتشدد.

في غانا، على سبيل المثال، رفض جون كوفور، زعيم الحزب الوطني الجديد، مقاطعة حزبه لانتخابات عام 1992، بحجة أن الحزب يجب أن يشارك في انتخابات عام 1996، بالرغم من احتمالية خسارته. أدى فوز كوفور اللاحق في انتخابات عام 2000 إلى انتقال سلمي للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وهو نمط استمر لمدة 15 عامًا. وفي المكسيك، أيد إرنستو زيديلو على الرغم من أنه عضو بارز في الحزب الثوري المؤسسي الحاكم (PRI)، الإصلاحات الإضافية في الإجراءات الانتخابية التي تم التفاوض بشأنها مع المعارضة في وقت بدا فيه الحزب الثوري الدستوري غير مرجح – بعد أربعة عقود في السلطة – للتنازل عن الحكم. في وقت لاحق، كرئيس، وافق على إجراء المزيد من التغييرات فيما يتعلق بتمويل الحملة ودعم الإصلاح لتعزيز السلطات الانتخابية التي ساعدت على فتح الطريق، في عام 2000، لنقل غير مسبوق للسلطة من الحزب الثوري الدستوري إلى المعارضة.

كانت المخاطر التي تكمن في رفض التسوية واضحة في مسألة مصر؛ خلال فترة حكم الإخوان المسلمين الوجيزة، أصرت الجماعة على أجندة إسلامية لأنها صاغت دستورًا جديدًا، مما أدى إلى عزل تجمعات كبيرة من السكان.

في تشيلي، تبنى الأعضاء اليساريون المتطرفون في المعارضة “جميع أشكال النضال”، بما في ذلك العنف ضد نظام بينوشيه. بحلول عام 1986 ، أدركت غالبية حركة المعارضة أنهم لا يستطيعون إلغاء الديكتاتورية بالقوة وأن هذا الارتباط باليسار المتطرف شوه المعارضة. لقد تحولوا بدلاً من ذلك إلى مسابقة سلمية وتعهدوا ببناء “وطن للجميع”. ساعد هذا المنهج المعارضة على الانتصار على أوغستو بينوشيه في استفتاء عام 1988، وهي انتخابات أراد الكثيرون في المعارضة مقاطعتها في البداية.

ضرب النظام الاستبدادي هو شيء؛ والحكم هو شيء آخر تماما. غالبًا ما يواجه القادة الانتقاليون ضغوطات لتنظيف المنزل (الحكومة) تمامًا والبدء من جديد، لكن يجب أن يقاوموا : يتطلب الحكم وجهات نظر وموظفين ومهارات مختلفة تمامًا عن تلك اللازمة للمعارضة. بمجرد أن تتولى المعارضة السلطة، فإن الخطوة الأكثر أهمية هي إنهاء العنف واستعادة النظام مع التأكد من أن جميع قوات الأمن تتصرف بموجب القانون. قدمت المقابلات التي أجريناها شهادات رائعة للتحديات المطولة التي تطرحها العلاقات المدنية-العسكرية. يتعين على الإصلاحيين إخضاع جميع الأجهزة الأمنية لسيطرة مدنية ديمقراطية في أسرع وقت ممكن، وفي الوقت نفسه الاعتراف بالأدوار المشروعة لهذه الخدمات واحترامها، وتزويدهم بالموارد الكافية، وحماية قادتهم من الانتقام الشامل للقمع الذي حدث في السابق.

لتحقيق ذلك، يجب فصل الشرطة والمخابرات المحلية عن القوات المسلحة. يجب على القادة غرس مواقف جديدة بين الشرطة تجاه عامة الشعب من خلال التأكيد على مسؤولية قوات الأمن في حماية المدنيين بدلاً من قمعهم، دون تقليل قدرة القوات على تفكيك الجماعات العدوانية. ينبغي للإصلاحيين إقالة كبار الضباط المسؤولين عن التعذيب والقمع الوحشي، ووضع كبار القادة العسكريين تحت السلطة المباشرة لوزراء الدفاع المدنيين، والإصرار على امتناع الضباط العسكريين في الخدمة الفعلية عن المشاركة السياسية بالكامل.

إن خطوات مثل تلك أسهل للوصف والنص من أن يتم سَنُّهاَ؛ وتنفيذها يتطلب حكمًا سياسيًا لامعاً وشجاعة. في بعض الحالات، يمكن معالجتها مبكرًا؛ أما في حالات أخرى، يستغرقون وقتًا طويلاً. لكن يجب أن يحصلوا على أولوية عالية من البداية، وكذلك اليقظة المستمرة. كما أوضح “حبيبي”، أثناء مناقشة العلاقات المدنية-العسكرية في إندونيسيا، “أولئك الذين يقودون المرحلة الانتقالية. . . يجب أن يُظهِروا أهمية السيطرة المدنية لا بالحديث أو الكتابة، ولكن من خلال العمل”.

كما يتعين على قادة المرحلة الانتقالية الموازنة بين الرغبة في محاسبة النظام السابق والحاجة إلى الحفاظ على انضباط ومعنويات قوات الأمن. يتعين عليهم تعزيز القبول السلمي المتبادل بين الأعداء السابقين – وهو ليس بالأمر الهين. عندها فقط سيبدأ المواطنون في الوثوق بدولة رفضها الكثيرون بطريقة غير مشروعة وعدائية، وعندها فقط ستتعاون قوات الأمن تعاونًا تامًا مع المواطنين الذين كانوا يعتبرونهم في السابق مخربين ومتمردين.

إن إخضاع الأجهزة الأمنية للسيطرة المدنية هو أحد التحديات التي أطالت أمد الديمقراطيات الجديدة. يكمن استمرار التفوق الذي يتمتع به الجيش المصري على أي مؤسسة منتخبة في قلب المرحلة الانتقالية الديمقراطية الفاشلة في مصر. وفي بلدان متنوعة مثل غامبيا وميانمار وتايلاند، يظل غياب السلطة المدنية على قوات الأمن أهم عقبة أمام التحول الديمقراطي الناجح.

التحدي الدستوري

إن وضع الجيش تحت السيطرة المدنية يمكن أن يساعد قادة المرحلة الانتقالية على إلهام الثقة المحلية والشرعية الدولية. وكذلك، هل يمكن لتطوير الإجراءات الانتخابية التي تعكس إرادة الأغلبية والتي تطمئن أولئك الذين يخسرون الانتخابات أن مخاوفهم الأساسية سيتم احترامها بموجب حكم القانون؟ في معظم البلدان، تعد صياغة دستور جديد أمرًا ضروريًا، على الرغم من احتفاظ إندونيسيا بدستورها لعام 1945 ببعض الأحكام المعدلة، ولم تعتمد بولندا دستورًا جديدًا كاملاً إلا بعد عدة سنوات من انتهاء الشيوعية.

يجب إشراك مجموعة واسعة من المشاركين في صياغة دستور يعالج الشواغل المركزية للقطاعات الرئيسية ، حتى عندما يعني ذلك قبول الإجراءات التي تقيد الديمقراطية، على الأقل مؤقتًا. النظر في النظم الانتخابية المتحيزة التي تم الحفاظ عليها في شيلي لمدة 25 سنة بعد انتهاء نظام بينوشيه لاسترضاء الجماعات العسكرية والمحافظة ومنح منصب نائب الرئيس لزعيم المعارضة في جنوب أفريقيا. قد يتطلب بناء دعم واسع لدستور جديد أيضًا دمج التطلعات السامية التي تحتاج إلى تقليصها لاحقًا أو تنفيذها بشكل تدريجي، مثل الأحكام الاجتماعية والاقتصادية الطموحة في دستور البرازيل لعام 1988، والتي دعت إلى الحقوق العمالية الشاملة، والإصلاح الزراعي، والرعاية الصحية الشاملة.

على الرغم من أن الصياغة الدقيقة للدستور مهمة، إلا أنه قد يهم أكثر كيف ومتى ومن يتم تبني الدستور. يجب على واضعيها تحقيق قبول واسع والتأكد من أنه ليس من السهل للغاية أو المستحيل عملياً تعديل الدستور عندما تستدعي الظروف ذلك. انتقد الكثيرون صياغة آيلوين التي مفادها أن لجنة الحقيقة في شيلي لا يمكنها أن توفر العدالة إلا “بقدر الإمكان” – ولكن ما تم توسيعه على مر السنين. يجب أن يكون الهدف الرئيسي هو تأسيس قبول واسع للقواعد الأساسية للمشاركة الديمقراطية. كما لاحظ ثابو مبيكي، رئيس جنوب إفريقيا الثاني بعد انتهاء الفصل العنصري، “من المهم أن يكون الدستور مملوكًا لشعب جنوب إفريقيا ككل وبالتالي أن تكون عملية صياغة الدستور شاملة”.

يجب أن تشمل العملية مؤيدي النظام السابق، الذين سيحتاجون إلى ضمان بأن حقوقهم سيتم احترامها في ظل سيادة القانون. الإدعاءات الشاملة للمسؤولين السابقين هو تصرف غير حكيم. يجب على القادة الجدد بدلاً من ذلك إنشاء عمليات قانونية شفافة للبحث عن الحقيقة بشأن الانتهاكات التي حدثت في السابق، وتقديم اعترافات وربما تعويضات للضحايا، ومتى أمكن ذلك، تقديم الجناة الرئيسيين إلى العدالة. على الرغم من أن المصالحة الكاملة قد تكون مستحيلة، فإن التسامح المتبادل هو هدف أساسي. تُعَدُّ الحلول الوسطى، مرة أخرى، ضرورية.

الموازنة مع صمود المراحل الانتقالية الديمقراطية،

 يلوم الجمهور في كثير من الأحيان القادة الديمقراطيين – وأحيانا الديمقراطية نفسها – على الفشل في تلبية التوقعات الاقتصادية أو السياسية. عادةً ما ترث السلطات الجديدة أنماطًا عميقة من الفساد وعدم الكفاءة. ومن المحتمل أن الحركات التي أتحدت في معارضة النظام الاستبدادي قد تتفتت. إن منظمات المجتمع المدني التي ساهمت في حركات المعارضة المناهضة للسلطوية تتحلل أحيانًا أو تتبنى مواقف تخريبية أحيانا أخرى، خاصة بعد أن يدخل العديد من قادتها الأكثر مهارة في السياسة الحكومية أو الحزبية.

بناء علاقات بناءة بين حكومة جديدة ومعارضة جديدة هو تحد مستمر. إن التنافس بين الحكومة ومعارضتها هو أمر سليم بالنسبة للديمقراطية، لكن من الممكن أنّ العائق التام الذي تُحدِثه المعارضة أو قمع كل الانتقادات من جانب الحكومة أن يدمر هاته الديمقراطية بسرعة. يمكن للقضاء المستقل الذي يحاسب السلطة التنفيذية دون عرقلة الكثير من المبادرات الجديدة ووسائل الإعلام الحرة والمسؤولة أن يساعد في ترسيخ الديمقراطية المستدامة.

تلعب الأحزاب السياسية أيضًا دورًا مهمًا، طالما أنها لا تصبح مجرد أدوات لأفراد معينين ولأصدقائهم. توفر الأحزاب الديمقراطية المنظمة جيدًا والبرنامجية أفضل طريقة لإشراك الأشخاص من جميع الطبقات، وتعبئة الضغط الناجع، وتنظيم الدعم المستدام للسياسات، وتوجيه المطالب العامة، وتحديد القادة ذي المهارات وتشجيعهم. يتطلب تطوير الأحزاب القوية الاهتمام الدقيق بالإجراءات والضمانات المتعلقة باختيار المرشحين وتمويل الحملة والوصول إلى وسائل الإعلام. تعود التحديات المستمرة للحكم الديمقراطي في غانا وإندونيسيا والفلبين جزئيًا إلى الأحزاب السياسية الضعيفة.

على الرغم من أن التحولات عادة ما تكون ناجمة عن أسباب سياسية وليست اقتصادية، فإن التحديات الاقتصادية سرعان ما تصبح أولوية للحكومات الجديدة. قد يتعارض الحد من الفقر والبطالة مع الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتعزيز النمو طويل الأجل واستقرار اقتصاد كلي. قبل تآكل الدعم الشعبي القوي، يجب على الحكومة تنفيذ تدابير اجتماعية تخفف من المصاعب التي نتحملها أضعف الفئات، لكنها تحتاج أيضًا إلى ممارسة المسؤولية المالية. لقد تبنى قادة جميع التحولات التي دارسناها نهجًا موجهة نحو السوق وسياسات مالية ونقدية حكيمة للاقتصاد الكلي، لكن معظمهم فعلوا ذلك بحذر لتجنب تأجيج المخاوف الشعبية من أن المصالح العامة قد بيعت للمتميزين. حتى أولئك الذين كانوا في البداية معادين للأسواق الحرة قبلوا أن الأسواق ضرورية في اقتصاد متزايد العولمة، إلى جانب سياسات اجتماعية قوية يمكن أن تنتج تنمية اقتصادية أكثر إنصافا. كما يوضح التاريخ الحديث للتدخلات الغربية في الشرق الأوسط، فإن الديمقراطية ليست سلعة تصدير. لكن يمكن للجهات الفاعلة الخارجية، الحكومية وغير الحكومية، أن تدعم بشكل فعال المراحل الانتقالية الديمقراطية إذا ما احترمت القوات المحلية وانخرطت في دعوتهم. في بعض الأحيان، يمكنهم توفير الظروف اللازمة للحوار الهادئ بين قادة المعارضة وبين المعارضة وممثلي النظام. يمكنهم تقديم المشورة بشأن العديد من القضايا العملية، من كيفية إجراء حملة إلى كيفية الاستخدام الفعال لوسائل الإعلام، وفي نهاية المطاف كيفية مراقبة الانتخابات. يمكن للعقوبات الاقتصادية أن تساعد في كبح القمع، كما فعلت في بولندا وجنوب إفريقيا. ويمكن للدول الأجنبية تقديم المساعدات والاستثمار لدعم التحولات الديمقراطية، كما فعلت في غانا والفلبين وبولندا. يمكن أن توفر المساعدة الاقتصادية الدولية خلال الفترة الانتقالية مجالًا للإصلاح السياسي عند تقديمها استجابة للأولويات المحلية وبالتعاون مع الجهات الفاعلة المحلية. التدخل الدولي لا يمكن أن يحل محل المبادرات المحلية. من المرجح أن تكون الجهات الفاعلة الخارجية فعالة عند الاستماع، وطرح الأسئلة التي تنشأ من تجربتها مع التحديات المماثلة، وتشجيع المشاركين المحليين على النظر في قضايا من وجهات نظر مختلفة.

عالم متغير

غيّرت الجهات الفاعلة الجديدة، والتقنيات، والضغوط الاقتصادية، والديناميت الجيوسياسية السياق الذي ستحدث فيه التحولات الديمقراطية الحالية. فيمكن لأيّ شخص لديه هاتف محمول الآن إثارة احتجاجات جماعية عن طريق تسجيل عنف الشرطة. ويمكن لوسائل التواصل الاجتماعي إعادة تشكيل الرأي العام بسرعة والسماح للمنظمين بتجميع أعداد كبيرة من المتابعين. لكن هذه التقنيات الجديدة لا يمكن أن تحلّ محل العمل الشاق لبناء المؤسسات. وكما لاحظ المصلح البرازيلي كاردوزو (Cardoso) الذي أصبح رئيسًا فـ “المشكلة هي أنه من السهل التعبئة للتدمير ولكن إعادة البناء أكثر صعوبة. والتقنيات الجديدة ليست كافية في حدّ ذاتها لاتخاذ الخطوة التالية إلى الأمام. هناك حاجة إلى المؤسسات، إلى جانب القدرة على الفهم والتحليل وممارسة القيادة المستديمة مع الوقت.” كما قال كوفور ( John Kufuor رئيس غانا بين 2001 و 2009) “لا يمكن للجماهير بناء المؤسسات. لهذا السبب فالقيادة مهمة”.

في السنوات المقبلة، ستضغط الحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني، التي تعزّزها الشبكات الرقمية، على الأنظمة الاستبدادية في كثير من الأحيان وبفعالية أكبر مما كانت عليه في الماضي. لكن هذه الحركات لا يمكن أن تحلّ محلّ الأحزاب والقيادات السياسية. يجب أن تقوم هذه الجهات الفاعلة في نهاية المطاف ببناء المؤسسات، وبناء تحالفات انتخابية وحاكمة، وكسب الدعم العام، وإعداد وتنفيذ السياسات، وجلب التضحيات من أجل الصالح العام، وإلهام الناس للاعتقاد بأنّ الديمقراطية ممكنة، والحكم بفعالية.

من الصعب بناء ديمقراطيات فاعلة ومستديمة في البلدان التي لا توجد فيها تجربة حديثة للحكم الذاتي، حيث تكون المنظمات الاجتماعية والمدنية هشّة، وحيث تكون مؤسسات الدولة الضعيفة غير قادرة على توفير الخدمات والأمن الكافيين. قد يكون من الصعب إقامة الديمقراطية في البلدان التي بها انقسامات عرقية أو طائفية أو إقليمية حادّة. ويمكن للحكومات المنتخبة ديمقراطيًا أن تحكم بشكل استبدادي من خلال تجاهل أو إضعاف القيود التشريعية والقضائية التي يتطلبها الحكم الديمقراطي. ومع ذلك، فإنّ جميع هذه البلدان هي بالتحديد التي تحتاج إلى التغيير الديمقراطي بشكل عاجل. وتوضّح الأمثلة من غانا وإندونيسيا والفلبين وجنوب أفريقيا وإسبانيا أنه يمكن مواجهة هذه التحدّيات في ظلّ العديد من الظروف المختلفة، حتى في البلدان شديدة الانقسام. يمكن تعبئة الشباب المتعلّمين أكثر من أيّ وقت مضى اليوم للتظاهر في الساحات العامة من أجل الديمقراطية، لاسيما عندما تكون فرص العمل نادرة. لكن التحدي يتمثّل في إشراكهم بشكل مستمر في بناء أحزاب سياسية دائمة ومؤسسات أخرى. فالديمقراطية لا تخرج مباشرة أو حتمًا من الحشود في الشارع. بل يتطلّب بناء الديمقراطيات الرؤية والتفاوض والحلّ الوسط والعمل الجاد والمثابرة والمهارة والقيادة وبعض الحظ. وعلى الرغم من كل العقبات، إلا أن التحولات الديمقراطية نجحت في الماضي. التعلّم وتطبيق

الدروس المستفادة من التحولات الناجحة By Abraham F. Lowenthal and Sergio Bitar   ترجمة الطالبة إ.هشام وعبد الرحمان دبه

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version