إذا كانت السلطة هي قوة التأثير على مجموعة من الأفراد، أو على شعب من الشعوب ضمن مجتمع من المجتمعات، في نطاق دولة من الدول، أو أمة من الأمم، فان العبرة بما ينتج عن هذه القوة من آثار، بناء أو هدما، وتحت طائلة هذه الرؤية المحكومة بعامل النسبية، ليس هناك قيمة تتماهى معها روح السلطة وأدواتها وأطرها، أكثر من التزام السراط المستقيم الذي يفهمه الإنسان وفق معتقده أو رؤاه الفكرية ومنظوره إلى الحياة، أكثر من ذلك التحديد النابع من سلطة القيمة من أجل الاستجابة لسلطة الإنسان، مهما كان، وكيفما كان، وأينما كان، التحديد الذي غاب عن تحديد العلاقة وضبطها بين الإنسان وأخيه الإنسان، كانت القيمة حاضرة، فاعتبرها أحدهما، و لم يعرها الأخر أي اعتبار، اعتبرها هابيل والتزم بها، وأهملها قابيل فلم يلتزم بها، فتولد علي أثرها كل عمليات الهدم على مستوى عالم القيم على اختلاف درجاتها. ومثل هذا التحديد الضروري اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا لضبط سلطة الإنسان، أهمله كثير من الفلاسفة والمفكرين، و لم تلتزم به سوى القلة القليلة من الناس على مختلف توجهاتهم العقائدية والفكرية، ومثل هذا التحديد بحث موضوعه فيلسوف الحضارة و مهندس الثقافة، الأستاذ مالك بن نبي، حينما ناقش موضوع سلطة الشعب، وأجرى بخصوص نوعا من الحفريات، نفسيا وعقائديا واجتماعيا، وانطلق من معطيات التاريخ كجملة أحداث ووقائع، وتجارب وخبرات، ورؤى ومسلمات، فوصل إلى كلمة فصل بخصوص سلطة الإنسان، المعبر عنها منذ القدم بالديمقراطية، مستلهما صورة الإنسان الذي التزمها كقيمة اجتماعية وحضارية وفق ما يؤمن به من معتقدات، ويربو إليه من أمن وأمان، من دون أن يهمل تلك الآثار المترتبة عن انحراف الإنسان ذاته في تقدير سلطته تقديرا سالبا ونافيا لكل سلطة، فكان التحديد الذي اهتدى اليه مالك تحديدا إنسانيا نابعا من عالم القراءة وعالم الأفكار وعالم الحاجة إلى الاجتماع والتواصل وتبادل المنافع، فكانت الكلمة الفصل بمثابة اعتراف الإنسان بخطاياه المترتبة عن سوء تقديره و سوء فعلته، وهذا الاعتراف في حد ذاته هو ما يجب أن يتحمل تبعاته كل إنسان ويشعر بخطورة إهماله وتحاشيه، ولن ينفع الإنسان مع ذلك سوى تجديد العزم على استحضاره، مهما كان، وكيفما كان، وأينما كان. يعبر الأستاذ مالك عن ذلك بالحد الايجابي أو الحد الوسط الذي يقف بموجبه الإنسان، المعبر عنه بالرجل الحر، أو الإنسان الحر، موقفا ايجابيا، و حدا فاصلا بين نافية الأنا و نافية الأخر. هذا باختصار شديد .

* سلطة الشعب :

بناء على التحديد السابق، كرؤية في عالم القراءة، وعالم الأفكار، كلية ومتوازنة، يمكن أن أذكر بواحد من المفاهيم والمعاني الرائعة و الشيقة التي اهتدى إليها تعبيرا وترجمة، الإنسان منذ القدم، وأغفلها الإنسان كثيرا على مر الزمن، ونبع المفهوم أو المعنى من انشغال إنساني على مستوى مدينة أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، وجاء ذلك على لسان أحد عباقرة تلك المرحلة من عمر الإنسان، وواحد من رجال النخبة الذي رافق الشعب الأثيني و شعر بثقل التطلع إلى الحرية تحت وطأة الاستبداد، فقال رجل الشعب (بريكليس)، بلحمة لسانه ومضغة جسده “على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن” انتهى كلام بريكلاس .

يمكن أن أجزم أن لا أجمل ولا أدل ولا أهم من مثل ما ذهب إليه بريكلاس منذ ذلك الزمن قبل الميلاد إلى يوم الناس هذا، ولكم أن تبحثوا داخل الأرشيف في حدود أوربا وأمريكا، فلن تعثروا على شيء من هذا القبيل .

أعود لسلطة الشعب فأقول: سمها ديمقراطية، أو حكم الشعب، أو سيادته، أو حقه في اختيار من يشرف على إدارة شؤونه العامة، فان هذا لن يخرج عن دائرة الحكمة أنى وجدها الباحث عنها فهو أحق بها، وفي هذا الصدد بالذات يمكنني أن أساهم من موقعي في  إثراء هذا الموضوع  وفق ما تتطلع اليه شعوبنا من حرية و كرامة، وتواجهه من مكر ورداءة، وتعانيه من ضيق وأوجاع.  وانطلاقا من الوعاء الفكري والروحي الذي تميزت به مدرسة علماء جزائرنا الحبيبة ومفكريها، أمثال الشيخين عبد الحميد ابن باديس و البشير الإبراهيمي والأستاذين مالك بن نبي و حمودة بن ساعي، ومن صميم الحاجة إلى رؤية كلية سننية متوازنة، وبحثا عن أجواء النقاش الهادئ و الإثراء البناء، أقدم ما يمكن التعبير عنه بالمفهوم أو المعنى أو التعريف لسلطة الشعب أو الديمقراطية في حدود ما يمكن أن نصطلح عليه بالحكم الراشد .

* ماذا تعني بسلطة الشعب أو الديمقراطية ؟ 

الديمقراطية أو حكم الشعب، أو سلطة الشعب هو سلوك حضاري ينظم نشاط الحاكم والمحكوم في المجتمع على سبيل الإلزام.

* كيف يمكنك أن تفسر ذلك؟ 

–   الديمقراطية سلوك حضاري، كونها لا يمكن أن تتحقق سلوكا و ممارسة في واقع أي مجتمع إنساني بالمعنى الحقيقي والصارم إلا إذا رسمنا خطها البياني وفق ما يعتقده الإنسان ويراه سببا في تحريره وتكريمه وتأمينه من كل إكراه، و حفظه من كل مكروه، يتسبب فيه الإنسان ذاته، والحاجة إلى كل ما من شأنه صيانة عقل الإنسان من كل عجز أو قصور في مواجهة الأهواء، ويقتضي ذلك اعتماد أي مشروع في ظل حكم الشعب وسلطته وسيادته على عالم المجتمع الثقافي و عمقه الحضاري . 

– وهي كذلك لأنها تلغي، ولو تدريجيا، السلوك البدائي فكرة وممارسة، إذ تنتقل بالإنسان من دائرة الفرد في القبيلة وما شابهها من ظواهر اجتماعية وثقافية، إلى دائرة الإنسان الشخص في المجتمع، والإنسان المواطن في الدولة، وصولا به إلى الشعور الديمقراطي كبذور محفوظة في ضميره، وهو الإنسان الحر في ظل الحكم الراشد، تتحوّل تلك البذور عن طريق التحلية والتصفية والتدريب المتواصل إلى طاقة فعالة تترك أثرها على الفرد والجماعة، كل ذلك في نطاق عملية من التقويم التي ترافق كل الأجيال ما استمرت الحياة.

وحكم الشعب بهذا المعنى يخدم الإنسان بغض النظر عن معتقده وعرقه وجنسه ولونه.

وسلطة الشعب بهذا المعنى، تنتقل به من دائرة ردود الأفعال، فتخرجه من حلبة الصراعات المصطنعة والمفتعلة، لتضعه على طريق الفعل الحضاري فكرا وممارسة .

وسيادة الشعب بهذا المدلول تثمن القدرة والكفاءة والتواضع والقبول كخلاصة للاستثمار في القدرات الذاتية في نطاق تنمية المهارات وتنويع التجارب والخبرات وتفعيلها بغرض تحرير المجتمع من دائرة العجز فكرا وممارسة. 

والديمقراطية سلوك ملزم بسبب تسليم الجميع بقصور العقل الإنساني وعدم كفايته في مواجهة الأهواء والنزوات والنزعات والتطرف، وهو سر القول المأثور “يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقران”. 

*كيف يمكنك أن تدعم ذلك أكثر؟ 

ببساطة لأن الهدف من هذا السلوك هو تحقيق مجتمع إنساني صالح، خصوصا إذا أدركنا الأتي: 

١-استحالة الفصل بين الطمأنينة الروحية و اليقظة الفكرية .

٢-استحالة الفصل بين الحقوق و الواجبات .

٣-استحالة الفصل بين العدل و الحرية و الإخاء والمساواة .

٤-حاجة الإنسان إلى القانون كضرورة من ضرورات الأمن والأمان .

٥-التعيين في مناصب إدارة شؤون المجتمع العامة واجب و تكليف أكثر منه حق وتشريف. 

*سلطة القيم :

بناء على التحديد السابق لمفهوم سلطة الشعب، كمعنى حقيقي وصارم للديمقراطية، يمكن القول أن الممارسة أو السلوك الإنساني لا يعبر عن فكرة مجردة محفوظة في عالم الأفكار، بقدر ما يعبر عن قيمة الإنسان داخل حدود هذا المجتمع أو ذاك، لأن الفكرة، مهما كانت قوتها، تبقى بذورها محفوظة في ضمير الإنسان، تحتاج من المجتمع والدولة أن يتعهدها بالرعاية الدائمة قصد ترجمتها إلى سلوك ونشاط وممارسة تعكس توظيفاتها في شتى ميادين الحياة، وعلى هذا الأساس نصل إلى أن سلطة الشعب، لا معنى لها ولا أثر، في غياب سلطة القيم بصفتها الرحم الطبيعي للحد الايجابي، وهو الحد الوسط الذي يجب أن يصطبغ به المواطن في حدود دولة الحكم الراشد .

هذه مجرد إطلالة من صميم ما يتطلع إليه الشعب الجزائري المجيد من خلال حراكه المبارك المتفرد، وما يمكن أن يصل إليه من حسم حضاري متميز، على طريق الحرية والكرامة والوفاء للتضحيات الجسام التي تدعونا إلى مزيد من التواضع والمثابرة في ظل هذه الصحوة الاجتماعية الخالدة التي تزخر بكثير من الدروس والعبر .

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version