أجل التذكير بها المرة تلو الأخرى دون كللٍ أو مللٍ، حتى لو اعتبرها البعض من باب تحصيل الحاصل، لأنه للأسف لا زال الكثير من مواطنينا، غير مدركين لها، ويقعون باستمرار ضحايا الأوهام وفريسة للتضليل المنظم. ما الذي أقصده بـ “البديهية” التي يغفل عنها الكثير من الناس؟

ليس كلُ منْ وقف ضد بوتفليقة على سبيل المثال، هو بالضرورة على حق، ومصيبٌ في موقفه، وليس كل منْ وقف إلى جانبه وسانده، بالضرورة على باطل، المشكلة ليس أن تكون مع أو ضد بوتفليقة أو غيره، المشكلة (والحل في الوقت ذاته) أبعد وأعمق من ذلك؛ وبالمثل ليس كل من كان ضد جنرالات العسكر وقادة المخابرات هو على حق وليس كل من كان مؤيدا لهم، على باطل، المشكلة هنا أيضا لا تكمن في موقفنا من هذه المؤسسات في حد ذاتها، وهي مؤسسات لها دورها المفترض أن تضطلع به كما هو الأمر في كل بلدان العالم، متمثلة في الدفاع عن الوطن وإجهاض كل عملية عدائية تروم إلحاق الضرر بأي شكل من الأشكال بالبلاد. بل إن المشكلة لا تتعلق حتى بالمسؤولين الذين يرأسون هذه المؤسسات، قد يأتون ثم يغادرون ويبقى الوضع على حاله، لأن جوهر المعضلة يكمن في تحريف مسار ووظائف ورسالات هذه المؤسسات وتوظيفهما من قبل أولغارشية تسعرها لخدمة مصالحها الخاصة على حساب مصلحة الوطن العليا.

يُمكننا توضيح الفارق بشيء من التفصيل. إذا أمعنا النظر قليلا ورجعنا بعقارب الزمن إلى الوراء، سنُسجل بذهول أن هناك فئة غير قليلة “استماتت” في مساندة بوتفليقة، ووقفت ظهرا إلى جانب قادة المخابرات والجنرالات في الدفاع عنهم وتبييض صفحاتهم وتبرئتهم من كل التهم بل ورفعتهم إلى مصاف منقذي الجزائر من “وحش الإرهاب والجريمة”، ثم نشاهد اليوم هذه الفئة نفسها، بنفس القدر من الحرص والاستماتة، تعارض بكل شراسة بوتفليقة ومختلف مؤسسات الدولة! ما الذي حدث من شأنه أن يفسر انقلابها رأسا على عاقبٍ؟ يكفي قليل من التحديق في الوضع وتتبع مسار وواقع هذه الفئة، ليتبين لنا بشكل جلي، أنها جانبت الصواب في الحالتين، أي عندما كانت “مع” ولمّا أصبحت “ضد”، لأنها في الحالتين، لم يكن اختيار معسكرها بناء على مواقف مبدئية خدمة لمصلحة البلاد والعباد، وإنما خدمة لمصالح ضيقة وطموحات فردية، والآن بعد انقلاب موقعها، غيرت وجهة مسارها، فقط بعد أن دارت الدائرة وأصبحت خارج نطاق الاعتلاف، ليس إلا.

في المقابل لم تكن معارضة الوطنيين الشرفاء، للنظام القائم ككل أو لجهاز المخابرات الجاثم على صدر الدولة والكاتم لصوت الشعب والمصادر لحقوق وسيادة الشعب، أو للرئيس بوتفليقة ومن قبله، بدءً من بوضياف إلى بزروال، معارضة لأشخاصهم ولا للمؤسسات التي كانوا على رأسها، وإنما كانت رفضا للطريقة المنحرفة لتي جيء بهم  إلى الحكم والطريقة الفاشلة التي انتهجوها في تسيير للبلاد، في انتهاكٍ واضحٍ للشرعية ولإرادة الشعب، وكان اعتراضا على الفساد المستشري الذي اعتمدوه كسبيل في الحكم وتدمير قواعد المؤسسات، ولم تكن يومًا معارضة لتجديد العهدات في حد ذاتها، لأن ذلك لا يعدو كونه إجراء شكلي لوضع خاطئ في الأساس، وما كان الشرفاء ليعترضوا على ذلك لو كان نابعا حقا وصدقا عن إرادة الشعب بشفافية ونزاهة.

ومثلما كانت معارضة الشرفاء، غير قائمة على الأشخاص، فإن الحل المنشود هو أيضا لا يعتمد على أشخاص مهما كان صلاحهم واستقامتهم وبلغت مواهبهم، ولا يتوقف هذا الحل على حزب بعينه او اتجاه دون غيره، ولا على فئة محددة حصرا، لأن الخراب الذي نخر جسم الأمة وانتشر في كافة أوصالها، لن ينفع معه سوى حل جذري تشارك فيه جميع فئات المجتمع، مع تضافر الجهود حول أرضية من القيم والمبادئ المشتركة، بعيدا عن كل إقصاء أو انتقام او تفرد في الحكم.  لقد ولى عهد الزعيم الملهم وعاف الزمن عن القائد الفذ صاحب الحل السحري، وما لم يتدارك القوم هذه الحقيقة- البديهية ، واستمر الوضع على حاله، فلن نحصد إلا مزيدا من الخراب والانحدار إلى درك يبعدنا كل يوم عن بصيص الأمل، لانتشال البلاد من هلاك محقق.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version