يضمّ مفهوم الوجهة تحت كنفه مسألتين هما: “شروط الحركة وانتهاء الحركة”.

لا يكشف بن نبي عن مفاتيح العنوان الذي اختاره إلّا بلفظ الكتاب آخر أنفاسه. فالانتهاء ما هو إلّا عبارة   عن سهم يشير إلى الهدف المخطّطِ بلوغه. أمّا الحركة فنكتشفها بمرور الزمن وبتغير الجدول الزمني بمعنى آخر عبر التاريخ.

وصف بن نبي في صفحات مثيرة إنسان ما بعد الموحدين وظروفه النفسية المتقهقرة والتي يراها مرحلة انحطاط على جميع الأصعدة. ومع ذلك فهو لا يكتفي بالبكاء على الأطلال بل العكس فهو يسطّر أهدافا ينير بها الدّرب إلى الخلاص.  

صحيحة هي حقيقة عدم وجود إنسان ما بعد الموحدين في الطليعة، إلّا أنّه أعلم من الإنسان المتحضر (أعني بذلك الإنسان الغربي، أنا مسؤول عمّا أقول) بالظروف النفسية  للإنسان الجديد، أو “مواطن العالم”، أو « الإنسان الكامل» وفقا لتعبير دوستويفسكي. من دون أدنى شك يحتاج إنسان ما بعد الموحدين إلى بلوغ المستوى المادي للحضارة الحالية، التي تنطوي على تنظيم كل مؤهلات التأقلم في النظام الزمني الخاص بالعصر الذرّي والذي مالت كفّته للروح التقنية على حساب كل شيء. بيد أن دوره يبقى روحيّا بالمقام الأول إذ يعتبر حصنا فكريّا ضد غلوّ التفكير المادي والأنانية القومية.

أعتقد أن أهم ما جاء في كتاب “وجهة الإسلام” هو هذه الفقرة. والتي تنبثق منها ثلاثة أفكار رئيسية.

تتطرق الفكرة الرئيسية الأولى لبوادر ظهور مرحلة انحطاط الحضارة الغربية، أو مرحلة تداعيات     ” غلوّ الفكر المادّي “. كما لا يستعمل بن نبي  في كتابه مفهوم الانحطاط بل يشير إلى الاضطراب الذي يقارنه باضطراب مجتمع مسلم تائه في غياهب الانحطاط. بالمقابل يثري شبنغلر  في كتابه ” تدهور الحضارة الغربية ” معارفنا بعرض عن مظاهر الوضع الجديد الذي تعيشه الحضارة الغربية. ويستعمل مصطلح “التدهور” بدلا من “الانحطاط” إذ يرى في هذا الأخير دلالة لسلوك أخلاقي في حين أنه يريد إضفاء صيغة علمية لتقييمه تفوق مستوى الأخلاق. فلو لم تلق معاييره الإجماع مع نهاية الحرب العالمية الأولى التي تزامنت مع ظهور الكتاب، فإنها أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية مؤكدة وفي منأى عن تطرق الشك إليها حتى وإن لم يلق تأويل هذه المعايير القبول من الكلّ. إذ ليس من السهل أبدا الحصول على موقف صريح وشفاف كالذي يمتلكه إبن خلدون إذا تعلق الأمر بتفحص هلاك حضارته.

المعيار الأول هو أفول الإبداع في كبرى مجالات الروح. فكان العقم نتيجة حتمية لوقوف الإنسان ساكنا يتأمل كل أشكال الفنون ، فلا الطريق أمام تأليف الموسيقى الكلاسيكية أو الأوبرا أُنيرت ولا لكتابة المسرحيات القديمة والهزلية عُبّدت ولا لرسم اللوحات الفنية الكلاسيكية و الانطباعية بُسِّطت. فمنذ الدرب النيّر الذي سار عليه فريدريك نيتشه لم تشهد الفلسفة أي تطور ملحوظ وهو ما يمهِّد الطريق للتكنولوجيا لتحتل صدارة العلوم.

المعيار الثاني هو التراجع الفاضح للنصرانية. فبعد الهجوم الكاسح المضاد للمسيحية الذي قامت به الثورة الفرنسية، تباطأت حدة هذا التراجع غير أنّ نقص الإرادة للقيام بالتغيير هو ما أدى إلى التّيهان مرة أخرى في المغامرة الاستعمارية. في حين تحول الإيمان إلى التديّن خاصة المذهب البروتستاني المبشّر والذي كان له ولقسّيسيه يد في نشر الكاثوليكية في بعض البلدان كأمريكا اللاتينية.

أما المعيار الثالث وهو أزمة المبادئ. حيث اختفت الأخلاق تاركة مكانها للائكية، فاستُبدلت الشيم الأخلاقية بأخرى دنيوية لا لشيء إلّا لهدف الوصول إلى مكانة مرموقة اجتماعيا بغض النظر عن الوسيلة التي تخوّل الوصول إلى هذا الهدف، و كان الرياضيون والممثلون السينمائيون هم خير من يحتذى بهم. وبالتالي لم تعد المعتقدات تستهوي التجمعات الشعبية الكبرى بل المنافسات الكروية على سبيل المثال هي من أخذت على عاتقها القيام بهذا الأمر. نتيجة لذلك انقلبت الهياكل الأسرية رأسا على عقب.

يتعلق المعيار الرابع بالمشهد السياسي أين أضحى ظهور القادة السياسيين مألوفا وكأنها ماركات للغسيل بالإضافة إلى امتلاكهم نفوذ لا يضاهى في المجتمع. بيد أنّ عدم امتلاكهم لرؤى مستقبلية واضحة يقودهم إلى الإمبريالية التي تؤدي لا لشيء إلّا إلى الفرار إلى الأمام، و هو وضع خطير ساهمت في ترسيخه أيضا السلبية التي تميزت بها شعوبهم الأمر الذي أدى إلى خلق وضع متأزم في المجتمع.

و تمثل المعيار الخامس من جهة أخرى في فرض العمل و الكدح على سكان المدن الكبرى ما أدى إلى انخفاض معتبر في كثافتها السكانية.

أما المعيار السادس والأخير فيتعلق بعولمة الاقتصاد و بقوة المال.

من منّا لا يستطيع الخروج باستنتاج على أنّ المعايير التي حددها شبنغلر منذ ما يقارب القرن، تميّز  الحضارة الغربية في مطلع القرن الواحد والعشرين؟

خرج إبن خلدون في حقبته بنفس الاستنتاجات، وهي حقبة غلبت عليها المعايير الثقافية. حيث رأى استنفاد القدرة الإبداعية في جميع مجالات العقل و لجوء المسلمين إلى الطرقية التي يتحدث عنها بإسهاب وتحسّر في مؤلفه المقدمة.

أيّد بدوره توينبي فرضيات  شبنغلر من جهة بيد أنّه كان ناكرا لطابعها العضوي (الفيسيولوجي) من جهة أخرى، “يبدو رغم ذلك معترفا أنّ حضارتنا كأي حضارة أخرى ستؤول إلى التفكّك، على النقيض من ذلك لا تخيفه هذه الاحتمالية لتيقنه من صمود المسيحيّة أمام هلاك الحضارة”. عوّدنا فيلسوف التاريخ الكبير” وريث التقليد الفلسفي البريطاني” على إعطاء تحاليل ذات حذاقة فكرية كبيرة. إذ لا يتعلق الأمر فقط بمنظوره الذي توسعت أفكاره عندما اعتبر أنّه ” كان للمسيحية دور فعّال لكن ثانوي” في نشأة الحضارة الغربية قبل أن يختم في كتابه دراسة للتاريخ أنّ ” الحضارات التي تتعاقب مع مرور الزمن تقوم اعتمادا على الدّين نفسه”. كما أنّ هذا التناقض لم يخف عن محللي المنظور التاريخي لتوينبي الذي استشهد بالفيلسوف الألماني كارل لوفيت متهما إياه بعدم ” إثباته لحقيقة المسيحية بحكم معرفته للإيمان”.

سيكون هذا بمثابة المنهج الذي ينوي بن نبي أن يتبعه حيث افتتح مؤلّفه بالظاهرة القرآنية أين يسعى من خلاله، بما يتناسب مع العلوم الإنسانية، إلى التأكيد على أنّ الرسالة القرآنية وحي منزّل من عند اللّه العليّ القدير.  

نصل بهذا إلى الفكرة الرئيسية الثانية للفقرة المذكورة أعلاه، لا يمكن لإنسان ما بعد الموحِّدين، الاسم الثاني الذي يطلق على المسلم حاليا، أن يكون ذلك الإنسان الجديد إلّا بالعودة إلى أصل الوظيفة الاجتماعية للإسلام، في سبيل الوصول إلى، “فكرة فعالة”، وفقا للصيغة التي استعارها  بن نبي من هنري ماسيس.

لا يعتبر الدين مجرّد معتقد إيماني من وجهة نظر بن نبي بل أكثر من ذلك فهو عبارة عن عدة ميزات اجتماعية أهمها ميزة التواصل، ميزة العمل و الفعالية وميزة التوجيه.

فالاتجاه الغربي أو كما يصنفه  بن نبي بالاتجاه الحديث، هو يبدي جاهزية أكبر وقابلية للتفكير بطريقة عصرية. كما تبيّن له أنّه مع مرور الزّمن “لم يصبح للدّيانات وزن في تلاحم المجموعات البشرية بل رجحت كفة الميزان للأرض والمنافع والعرق وحتى اللغة التي أضحت تُعدّ اليوم عاملا مهما في تحقيق ذلك “. كلمة “اليوم” هي مجرد صيغة اعتباطية بسيطة، واحتراز احتياطي أيضا في حالة ما إذا وقع اعتراض على هذه الفكرة تماما مثل صيغة “عامل مهم”. بالكاد يغطي هذا الغموض الفني إن صحّ التعبير الضعف الفكري لمعتقدٍ ما. وحتى “اليوم” نلاحظ أنّ لتراجع التديّن عدّة أوجه اختلاف عند الشرائح الرئيسية في المجتمع الغربي. تظهر هذه الحركة جليّا في أغلب المناطق الأوروبية وعلى النقيض من ذلك يتم الأخذ بالاعتبارات الدينية للفصل في أهمّ المسائل الاجتماعية والمؤسّسية وحتى الدولية، موازاة مع إجماع تام معادي للإسلام وسط متخذي القرار الغربيين. ففي بعض الأحيان يمثل نفس الأشخاص أوجه النخبة السياسية والإعلامية وأيضا الاقتصادية، ويهرعون لتضخيم الأمور إذا ما تعلق الأمر بالهجمات المعادية للإسلام. كما أنّ الاجماع الذي نادرا ما يتحقق في المجلس الوطني الفرنسي على سبيل المثال، يحدث بطريقة مذهلة بمجرد التصويت على قانون محتواه يكون معاديا للإسلام. وإذا ما كان هذا الإدِّعاء “اليوم” صحيحا فما هو إلّا دليل على أنّه كان باطلا فيما مضى. وهو ما يعتبر منطقا عقليا.

جاء القرآن لتخليص العقل من صراعه الدائم مع ما أطلق عليه اسم الجاهلية. لا تقتصر الجاهلية على الخطايا الغيبية فقط كتصديق وجود إله آخر مع الله بل تشمل أيضا تلك الخطايا المتعلقة بالنزعة القبلية والتي تحول كحاجز بين المرء وأخيه ونعني بها “الأرض، المصالح، العرق واللغة”. وبالرجوع إلى التاريخ يمكن أن نستنبط أنّ روح القرآن لم تتغلغل في نفوس المسلمين كل تلك المدة. إذ وخلال العدوان الصليبي الذي تزامن مع نهاية القرن الحادي عشر ضد الشام، الذي يضم كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ، فكانت ردة الفعل نتيجة ذلك قبليّة بما أنّ مجازر القوات الصليبية في بيت المقدس لم تحرك مشاعر إلا قليل من سكان دمشق. وعلى غرار ما نراه الآن من وقوف في وجه المجازر المرتكبة في غزة، تطلب الأمر انتظار قائد الموصل عماد الدين زنكي وبالأخص إبنه نورالدين أمير حلب ودمشق وملازمه الكبير صلاح الدين لإعادة بعث الروح القرآنية وتنظيم الجهاد الدفاعي من أجل القضاء على العصبية القبلية التي فرقت شمل المسلمين.

يسير العالم، مهما طال الزمن أو قصر، في طريقه إلى حضارة عالمية يتحمل “مواطن العالم” مسؤولية تحقيق هذه المهمة رغم صعوبتها وهذا هو مضمون الفكرة الثالثة. علما أنّ وجهة الإسلام هي المساهمة في تحقيق ذلك، وهذه الوجهة ما هي إلا تكملة تبيّن عراقة الإسلام. إذ نجح الإسلام قديما في وضع ثقافة إسلامية محترمة من الفكر اليوناني والإيراني والهندي وهو التحدّي الذي يجب رفعه اليوم بإبدال العولمة المدمرة للثروة الثقافية الإنسانية بأخرى تحترمها بدل تدميرها.

بالأمس نجحت اليابان ولحقت بها اليوم الصين في الارتقاء إلى مصاف الدول الغربية المتقدمة ومن الممكن أن تلحق بهما الهند في قادم الأيام، وكل هذا إلا أنهم لم يعملوا على التقليل من الإفراط في التفكير المادي و القومية الوطنية. في حين يمكن ملاحظة التطور الغريب الذي يسير الغرب في خطاه مستغلا نقاط قوته رغم وجود شوائب لا غبار عليها. من جهته يبقى إنسان ما بعد الموحدين مولعا بالنزعة الاستهلاكية، بمعنى يفهمه علماء الإجتماع، ومشتتا بسبب إسلاميته التي ترفض مبدأ ” كل شخص لنفسه أما الله والدولة فهي للجميع “، حيث لن يسعه تطوير مجتمعه إلّا إذا نجح في “التجدد”، أو تجديد النفس كما وصفه بن نبي. تجدد يمكن تحقيقه داخل منظمات اجتماعية جديدة تأخذ روح المبادرة القرآنية وعدالتها الاجتماعية في الحسبان مع  تعزيز أواصر الأخوة البشرية. كما سيكون للجاليات المسلمة في الغرب دورا أكبر وحاسم في محو فكرة أنّ الإسلام مجرد عامل بسيط في تحديد الهوية وأخذه على أنّه محرك قوي يدفع بهم للتعرف بأفراد مجتمعات أخرى، مع السعي من أجل تحطيم مصطلحات “هم” و “نحن” من عقل المسلم من أجل بناء مجتمع ذي مصير مشترك تماما كالذي نجح المسلمون الأوائل في بناءه.

تبيّن لنا من خلال التاريخ أنّ النخب هي تلك التي تتشبث بالمعتقدات القديمة لتحافظ على امتيازاتها. مثلما هو حال شرفاء العاصمة الإيطالية روما عند مواجهتهم للقيم الروحية التي هبّت من الشرق مثل الميثرائية، عجائب إيزيس، و مداوروش في كتابه “الحمار الذهبي” أو ما يعرف بتحولات المظهر كيفية رائعة لامتهان العقيدة، أو المسيحية. من الواضح أنّ النخب في البلدان التي تقبع تحت جناح الأنظمة الديمقراطية تدفع بكل طاقتها لإقامة حدود يتعذر عبورها بين الشعوب الغربية والإسلام. ويكمن السبب من وراء ذلك الصراع الفكري المعادي للإسلام.

خلص استنتاج إقبال إلى أنّ ” الظاهرة الأبرز في التاريخ الحديث … هي السرعة الهائلة التي يتحرك بها العالم الإسلامي روحيّا نحو الغرب”. فيما انتقد من جهته  بن نبي وبشكل صائب هذه الفكرة الخاطئة إذ ارتأى أنّه من الممكن أن تصبح حقيقة لا يمكن إنكارها.

يُصنّف بن نبي مع خيرة المفكرين أمثال إبن خلدون، شبنغلر وتوينبي. هؤلاء هم فلاسفة التاريخ الذين أغدقوا على عقله من العلم الكثير. فتشبعت أفكاره في هذا المجال بالانتقادات التي أدخلها على نظريتهم وبالإضافة المبتكرة التي وصل إليها.

حمل بن نبي عن إبن خلدون مبدأ الدورة التي استوحاها عن الفيلسوف نيتشه في “العود الأبدي”. يؤيد نظرية الأجيال الثلاثة ويوسعها لتشمل كل جوانب الحضارة. لكنه اعتبر أنّ الدافع إلى “العصبية” (روح الجسد) ليس كافيا إذ لا يتطابق إلّا مع وظيفة التكامل بينما نراه يتجاهل الوظيفتين الأساسيتين الجهد والتوجيه.  

فمفهوم الحضارة عند شبنغلر لا يُحدِث نفس الأثر الاجتماعي و التاريخي، وهو نقيض ما يراه  بن نبي. حيث يعطي شبنغلر تسمية Kultur (والتي يعني بها الثقافات الثمانية الكبرى) للانبثاق والأوج الذي يسميه بن نبي  بالحضارة. فالحضارة عند شبنغلر هي مرحلة انهيار “الثقافة” وعلامة أكيدة على قرب فنائها، فهي تخضع لقانون الحيات و الموت كما هو حال أي كائن حي. من جابنه ينتقد  بن نبي  حتمية هذه الفكرة التي لا تتناول حسبه العوامل الرئيسية لنشأة “الثقافة”. لكن بن نبي ينتقد حتمية هذا الفكر الذي لا يتساءل عن الأهم، أي عن العوامل التي كانت سببا في نشوئها. رغم ذلك فإنّه يؤيِّد نمطيّة الحضارات التي وضعها شبنغلر حيث يصنفها إلى حضارات ذات طابع ثقافي مدني وحضارات ذات طابع ثقافي إمبراطوري. وللتفصيل أكثر يضرب لنا بن نبي مثال عن كل نمط أمّا الحضارات اليونانية والإسلامية فيضعها في الخانة الأولى ويضع الحضارات الرومانية والغربية في الخانة الثانية.

استعار بن نبي من توينبي مفهوم مجالات الدراسة، الرقعة الجغرافية أين تصبح الحقائق الحضارية ما متوافقة معها. و النتيجة هي عدم وجود حضارة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية على سبيل المثال بل هناك حضارة غربية تجمع الكلّ تحت كنفها. إذ يرى توينبي نشأة الحضارة وكأنّها عبارة عن رد فعل إزاء تحدٍّ ما. يعتبر بن نبي هذا التفسير غير مقنع كونه لا يشير إلى أصل و مبعث هذا الرد. و يبوح بن نبي بالمقابل بما لم يذكره توينبي، إذ يرى أن الفكرة الدينية ذات الطابع الاجتماعي بوظائفها الثلاث الجهد والتكامل والتوجيه والتي تعرض فكرة الوعد الأكبر والوعد الأصغر هي الدافع وراء نشوء أية حضارة.

كما يؤمن أنّ العوامل الفسيولوجية تتشكل وفقا لوضعها التاريخي قبل قيام حضارتها وفي أوج عطائها أو حتى بعد زوالها. حيث يفسّر في مقدمة كتابه “وجهة العالم الإسلامي” بأنّ المستشرق هاميلتون جيب محِقّ بتأكيده على ذرّية (مذهب فلسفي) مسلم ما بعد الموحدين، علما أنّ هذه السمة الشخصية غير قابلة للتعميم، بيد أنّه أخطأ في وسم مسلم ما قبل عهد الموحّدين بهذه السمة.

لا ينحصر دور التاريخ في فكرة “واجب الذاكرة” فحسب، مثلما ندّعيه الآن، ولا حتى في استخلاص التعاليم و الدروس المفيدة من أجل التطلّع إلى المستقبل.

لنقرأ لبن نبي في مؤلفه الصادر سنة 1948 تحت عنوان شروط النهضة أنّ: “أوجه الاختلاف كبيرة بين المشاكل التي ندرسها في إطار دورة حياة العالم الغربي والمشاكل الناتجة عن دورة حياة العالم الإسلامي. حيث أني أحاول التركيز على مشكل وحيد والذي ظهر في 1367 (الفترة الهجرية، أنا من حدّد هذا) وليس في عام 1948 (بعد ميلاد سيدنا عيسى عليه السلام، أنا من حدّد هذا). من البديهي أنّه لن يسعنا أن نستوعب وجهة نظر كاتبنا بكل ما تحمله من معاني معقدة وقوية في نفس الوقت ما لم نتمكن من دمج هذا الفكرة الأساسية. وهو ما أدّى ببعض المثقّفين المهتمين بالفكر البنابي إلى تحليل فكره بشكل خاطئ.

سأختار من بينهم ثلاثة أشخاص، واحد من الغرب ومسلمين أحدهما جزائري والآخر أو بالأحرى الأخرى باكستانية.

نعود إلى فقرة أخرى تفسر ما ذكرناه آنفاً والتي نجدها في كتاب “وجهة العالم الإسلامي” الصادر سنة 1949 والموافق لسنة 1369 هجرية :” العالم الإسلامي اليوم هو ثمرة اختلاط بقايا موروثة من عصر ما بعد الموحدين مع إضافات ثقافية أخرى (…). تآلف عناصر عصور وثقافات مختلفة مع بعض، ومن دون أيّة روابط سواء طبيعية أو لغوية كانت، كان سببا في ظهور عالم يربط بين التاريخ الميلادي الموافق لسنة 1949 و التاريخ الهجري الموافق لسنة 1369 ليضرب صراط بين ظهرانيهم تمر عبره العصور العابرة.

سنة 1369 عدّها الكثير وكأنها مجرد تاريخ ميلادي ما خلف سوءا و اختلالا في الفهم.

للتوضيح أكثر، يبيّن المستشرق الأمريكي صاحب الأصول النمساوية، غوستاف فون جرونباوم في كتابه “الهوية الثقافية للإسلام”، أنّ مصطلح “ما بعد الموحدين” الذي يستعمله مفكرنا متصل بـ “سقوط الدولة الموحدية في إفريقيا الشمالية، وهو سقوط نسبه  بن نبي إلى السنة الإعتباطية 1369 (ربما الغرض من ذلك هو التهكم و المراد الإشارة إلى سنة 1269)” هذا أمر يندى له الجبين، إذ كيف يمكن لأي أحد أن يعتقد أنّ باستطاعة الإنسان الذي اختلق مفهوم “إنسان ما بعد الموحدين” أن يرتكب خطأ أقل ما يقال عنه أنّه فادح، و ألا يكون على ذراية بالتاريخ الذي شهد نهاية السلالة الموحدية وذلك بالإستيلاء على عاصمتها مراكش في سنة 1269 من طرف المرينيين. هذا المستشرق البارز الذي يُعرف بسعة إطلاعه وتبحُّره في مختلف العلوم من العجيب أن تخفى عليه فكرة تعد من بين الأفكار المبتكرة حديثا، لا تنظر لمشاكل العالم الإسلامي فحسب بل لها بُعد وصل إلى حد مواكبة التطور العالمي. إذ لا يمكن أن تطبّق الأدوات المحدِّدة للحضارة ولشبكة العلاقات الاجتماعية فقط على الإسلام بل و على كل حضارة إنسانية.

على النقيض من ذلك، وفي إطار المشاركة في أول ندوة منظمة بالجزائر العاصمة حول بن نبي وأيضا فيما يخص المقارنة بين أفكار  بن نبي و إقبال نوهت الجامعية الباكستانية أسماء رشيد في شرحها لمفهوم إنسان ما بعد الموحدين قائلة أنّ :” بن نبي  يعتبر سنة 1369 بعد ميلاد المسيح عيسى عليه السلام نقطة تحول في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية. و بما أن ذلك تزامن مع سقوط الدولة الموحدية في شمال إفريقيا، فإنّ المفكر يستخدم مفهوم إنسان ما بعد الموحدين للدلالة على حقبة التراجع الإسلامي “. الجامعية الباكستانية حرّرت تدخلها باللغة الإنجليزية، و الذي تُرجم إلى الفرنسية ، والمثير للدهشة هو أنّه بالنسبة لناطقة باللغة الإنجليزية، والتي لم تقرأ كتاب غوستاف فون جرونباوم المهم، رغبة منها في دراسة وجهة العالم الإسلامي بشكل معمق وقامت بترجمته من الفرنسية إلى الإنجليزية سنة 1988 مانحةُ إيّاه عنوان ” Islam in history and society”.

غير أنّ المفاجأة الكبرى كانت شروع نور الدين بوكروح في تأليف سيرة موسعة عن حياة  مالك بن نبي وأفكاره. حيث أعدّ في كتابه تقريرا مطولا عن جميع أعماله المنشورة، وحتى عن الأعمال التي لم تنشر بعد بل وذهب إلى أبعد من ذلك بتقديمه لمقتطفات عن إصدارات غير معروفة لكتبه المنشورة.

مثله مثل المستشرق الأمريكي والجامعية الباكستانية، لم يستوعب إذا أنّ كلام بن نبي  جاء بلسان فرنسي مختصرو دقيق، مفاده أنّ سنة 1369 هي سنة هجرية.

لا يشير بن نبي في وصفه لدورة الحضارة العربية الإسلامية إلى تاريخ نقطة التحول، أي الانتقال من مرحلة العقل إلى مرحلة الغريزة الطبيعية بمعنى آخر بداية الانحطاط. فإذا كان تحديد تاريخ نشأة جميع الحضارات بالأمر الصعب نظرا لطول مسارها ، فإنّ هذا لا ينطبق على الحضارة العربية الإسلامية لأنّ تاريخ نشأتها تحدّد بنزول الوحي على النبي (صلى الله عليه و سلم). هي وحدها الحضارة العربية الإسلامية، في تاريخ البشرية، التي تمتلك زاوية ألفا، أي الزاوية العليا التي تشكلت خلال دورة الحضارة عن طريق الإحداث السيني للوقت و إحداثية القيم النّفسية المؤقتة. أمّا الحضارة الغربية المنسلخة من الفكرة الدينية المسيحية في المقابل، والتي ظلت من ثمانية إلى تسعة قرون حتى تتمكن من أن تتصلب وصلت إلى مستوى ضعيف جدا مقارنة بمستوى ألفا. بالنسبة لجميع الحضارات، يصعُب تحديد بداية انحطاطها. و لا يمكن ذلك إلا بالتقريب. وفيما يخص انحطاط العالم الإسلامي، استعمل بن نبي  مؤشرات إنسان ما بعد الموحدين (أي بعد عام 1269)، “تقريبا في عصر إبن خلدون” (1332-1406) فترة تعرف بما بعد الخلدونية، أو سقوط غرناطة عام (1492).

فيما يخص دورة الحضارة الإسلامية، يضيف نور الدين بوكروح  للرّسم التّخطيطي الذي وضعه بن نبي ، أمرا أو بالأحرى تصحيحا يظن أنّه لم يخطر ببال بن نبي واضعا تاريخ 1369 كتاريخ لبداية الانحطاط. تاريخيا، لم يشهد بالمغرب العربي خلال هذه السنة أيّ حدث كبير، ليضيف بشكل حذر، بين قوسين، قرن إبن خلدون دون أن يتساءل عن حقيقة هذا التاريخ بالتحديد، إلّا إذا قرأه بدون أن يستوعبه في كتاب “وجهة العالم الإسلامي”.

لا أعتقد أنّ خطأً كهذا لن تنجرّ عنه عواقب وخيمة، كونها أوقعته، و هو الذي يعد من الأشخاص الأكثر كتابة عن بن نبي، في سوء تقدير و فهم لتاريخية أفكار بن نبي. ثم يعود في مقال له ليرجع تاريخ زوال الحضارة الإسلامية إلى زمن الأشعري (أوائل القرن التاسع) أو لزمن الغزالي (القرن الحادي عشر) مقترفا تذلك خطأ في فهم فكر مؤلِّفنا.

عبد الرحمان بن عمارة
15 أوت 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version