ترى ما هو المعنى الذي قدمه مالك بن نبي لمفهوم “العقل الإسلامي؟

إن غرض السمة الإسلامية للعقل ليس سببا في استنباط مفهوم جديد للعقل، إنما تحديد هدفه في عقليات المسلمين الحاليين، إن منهج تفكيره لا يندرج ضمن الفلسفة، على سبيل المثال، إيمانويل كانط(Emmanuel Kant)  الذي لم يسع فقط إلى تحديد أسس استعمال العقل في اثنين من كتبه ذات الشهرة البالغة، يحملان العناوين التالية: “كتاب نقد العقل المجرد”(1781-1787)، و كتاب “نقد العقل العملي” (1788)، بل وضع أسس مشروع تعليمي فكري.

ولكن،دعونا نتوقف لبرهة هنا،و نتساءل حول تفكير بن نبي عن العقل؟

إن أفكاره فيما يتعلق هذا الموضوع منتشرة في كتبه،مثلا في كتاب الظاهرة القرآنية انتقد ذوق الشاب المسلم المثقف بشكل يمكن أن نقول أنه مبالغ فيه نظرا تأثره بالنهج  الديكارتي.

و قد حرص شيخ الأزهر محمد بن عبد الله دراز إلى لفت انتباه القارىء في مقدمة الكتاب في هذا الصدد،خوفا من تشويه سمعة ديكارت نفسه،و قد كان خوفه هذا من العقلانية ،التي غالبا ما تكون غائبة عن النتاجات الفكرية و السلوك الاجتماعي لدى المسلمين ،و هذا خلال فترة كتابته للمقدمة.

أما بخصوص مالك بن نبي بطبيعة الحال،فلا علاقة له بهذا الخوف،و ميز بوضوح ديكارتية ديكارت و كتب في كتاب”وجهة العالم الإسلامي” :”إن النبتة القوية للروح الديكارتية انبتت حتى تغير أحيانا الديكارتية الخطيرة ”  حتى أنه يشير إلى حلف الديكارتية الخطير.

كما و أكد على تعيين درجة مطلقة للمنهج الديكارتي “نحن لا نعني بالغائية،إنما نعنى بالسببية”

و مهما يكن من شيء فإن هذا النهج يؤدي إلى تأليه العقل و إنكار أي مقاربة إبداعية تهدف إلى إضعاف المعرفة.

إن الثورة الفرنسية يجب أن تغلب كفة هذا الميل إلى نهايته، في ظل عبادة سخيفة لإله العقل،و لا غرو أن  توقعات بن نبي يجب أن تثبت النبوءة،لأن ما بعد الحداثة التي يعنيها  من شأنها أن ترى النور يوما ما بعد وفاة بن نبي،و نصل بعدها إلى تهديم أسس العقل و العلم كما ذكر محمد طاهر الموسوي في دراسته البارزة حول الظاهرة القرآنية المؤرخة بتاريخ 2006،و الذي كان بمثابة مقدمة لنشر الكتاب في عام 2008.

و انطلاقا من هذه الخلفية، كتب بن نبي في وجهة العالم الإسلامي ما يلي:

“عند قلب المعايير الأخلاقية التي لها مكانتها من الصرح الاجتماعي لا يمكن أن نأخذ  فقط التقنية و العلم و العقل ، لأن الروح هي التي تسمح للإنسانية بأن ترتقي و تمنعها من الإنحطاط”

و قد ذكر كانط في الكتب السالفة الذكر أن هناك اختلافا بين المعارف التي سبقت العلوم الدقيقة و الأخرى التي جاءت إثر الميتافيزيقا،إن الاختلاف جاء من إمكانية تجربة الحالة الأولى و استحالتها في الثانية و بالتالي فإنه يحدد من نطاق عمل العقل.

نعود الآن إلى المشروع الفكري لبن نبي حول العقل الإسلامي الذي بدأ من مفهوم”إحياء المهجور” للعقل في العالم الإسلامي،فإحياء المهجور يعود إلى تراجع الحضارة الإسلامية مما تسبب في ثقافة عقيمة للمسلمين رغم المحاولات العديدة التي لا تزال غير قادرة على تجديد جلودهم التي تملعت و تجعدت ، و تقديم كفاءة إجتماعية تفي بالغرض المنشود.

كما و قدم لنا أسس وضع نهاية لأحداث،من أجل بناء مسوغات جديدة.

“إن الإسلام هو الرؤية التي يمكن من خلالها بناء نظرية خاصة بالإنسان،و الحياة و العالم أجمع،و جميع المواد الأولية الضرورية،لتطوير نظرية المعرفة الخاصة بالإسلام،إنها شرط ضروري لخلق إبداعي أصلي و متفتح “

“إن نظرية المعرفة هي ليست فقط متاحة إنما هي قاعدة لتطوير الفكر النقدي و الإصلاح في إطار البيئة المسلمة، أي في ظل ظروف ذاتية و عوامل داخلية و ما يصطلح عليه اسم “الإسلام” و مجموع النتاجات الثقافية و البنى الاجتماعية التي تؤدي إلى تأويله.

أما نحن فبعيدون كل البعد عن الإصلاح الضروري من قبل المحدثين،هؤلاء الذين تأثروا بالظروف الخارجية ، و هم ليسوا سوى نموذج غربي،حتى أنهم في تراجع مقارنة بأسلافهم، فالمحدثين الذين قام بن نبي بعمل دراسة حولهم في كتاب”وجهة العالم الإسلامي” هؤلاء كانوا بلا شك تحت تأثير العملية الاستشراقية و معرفة واسعة،رغم أنها أكثر من مجرد مقدمة طموحة.

و هؤلاء المتأثرين من كتاب المقالات،هم تحت تأثير ضغط غامض من الصحافيين و السياسيين و آباء الأهالي المحرومين من الفكر.

و لا ينكر أنهم يروجون لنماذج غير منطقية مثل الإصلاح البروتستاني ،و نقول غير منطقية لأنها تتبع هدف مخالف لنموذجهم،كما يحتجون ضد أشخاص هم أنفسهم متأثرين بالقرآن،الذين أكدوه كسلطة أخلاقية و روحية،تتطلع إلى النموذج الهرمي للكنيسة الكاثوليكية في حين أن الإصلاح نفسه ضد الكنيسة الرومانية و مطالبتها و ادعاءها بامتلاك لنسخة واحدة  لتفسير الكتاب المقدس،إن هذا الإصلاح نفسه يهدف إلى وضع النصوص المقدسة في أيادي أمينة ، فأول ترجمة كاملة بالألمانية قام بها أحد الآباء من الإصلاح،مارتن لوثر فاتحا الطريق لتنوع الترجمات و انتشار الكنائس التي تعارض بعضها البعض أحيانا،إلى أساطير و خرافات الماضي التي تناقلها أولئك الذين يرغبون في الاقتتال.

إنهم يستجيبون لأحلام التغريب(الغرب) في الوسط و دول المحيط التي تتكون من بعض الدول النائية، وإذا ما أمعنا النظر سنجدها لا تنتمي إلا الحقيقة لا من قريب و لا بعيد.

نحن لسنا على دراية تامة بتاريخهم،و نتوقف غالبا عند الحقائق،و لا ندخل إلى معناها العميق،التي من شأنها أن تتفرع في طريق مسدود و بلا حل وفق اقتراحات غير متناسقة.

و من الجدير بالذكر،أن بن نبي في أول كتاب له و هو:مشكلات الحضارة ،شروط النهضة” الذي كان تأريخه الهجري 1367 و ليس 1948 الميلادي،و أراد أن يقول أننا لن نستطيع فهم الوضع الحالي إذا لم نضعه في سياقه التاريخي،تاريخه الداخلي.

“…..إن المشروع الضخم يكمن في فهم العمل و شرح تاريخ الحضارة الإسلامية….”

فالتاريخ ليس مجرد معرفة إحصائية بسيطة لكنه نداء إلى الوعي و العمل الفكري الذي يؤدي إلى تقنيات اجتماعية جديدة.

و ترجم هذا الوعي في :”…ضرورة فكر جديد أو مسار جديد،هذا ليس بالإصلاح ،أولا ابتكار أدوات مفاهيمية بحيث تسمح لنا بتحديد السببية في الأمور التي حدثت في تاريخنا،و تقديم حالة الأماكن العلمية التي يجب العمل على إعادتها”

يتم مقارنة أزمة العالم الإسلامي الحالي بتلك التي عرفها الإسلام بالعودة إلى القرن الثامن و التاسع الهجري،و تلك الأزمة التي كانت سببها قراءة و ترجمة القرآن بمفهومه القانوني،فبعد وفاة النبي الكريم بحوالي قرنين،تغيرت الظروف الاجتماعية و أصبحت صعبة الاستمرار و فق فقه الماضي.

و هذا ما بينه الإمام الشافعي الذي اراد أن يستنبط من النص المقدس مبادئ القانون”أصول الفقه”

و قد وصف بن نبي هذا العلم بأنه”نوع من أنواع الذهاب و الإياب،و تقريبا عمل فني فالمكان و الزمان من جانب و النص من جانب آخر…..”

إنها مدفوعة بذكاء نقدي يعمل على النص من أجل اكتشاف معنى النص التركيبي،و العقل و المنطق الداخلي،و كلمة في روحه….”

و لاستعادة المفردات التقنية لأرنولد تويبني(Arnold Toynbee) من أجل تحدي أزمة الفكر التي يمكن أن يكون لها عواقب اجتماعية خطيرة،و كانت استجابة لتطوير علم جديد”

و استمرارا لتحقيقه التاريخي الذي له معايير كبيرة للعمل به اليوم.

“فإن المجهودات الأخرى المبذولة في مجالات أخرى بما فيها الفلسفة باسم ابن رشد الذي هو رمز…. و يمكن القول بشكل عام أن الأندلس هي أفضل مرجع لنضج المفكر المسلم من أجل بناء منهجي.

ذلك أن الإرث الثقافي للأندلس كان من الممكن أن يكون نقطة انطلاق لبناء عقل إسلامي حقيقي لم يتم حتى الآن.

و ليس يغيب عن بالنا أن الأزمة العالمية الحالية في العالم الإسلامي هي أكثر خطورة من تلك التي حدثت في القرن الثامن و التاسع هجري، لأنها أزمة فكر تضاف إلى أزمة الإنسانية.

ففي  زمن الشافعي كان الانسان في عهد حضارة بالفعل،التي كانت مرجع رغم ما حل بهم من تدهور و انحطاط، بعد عصر محمد.

إن وجهي فترة ما بعد محمد المؤثر،و السلفية التي تحولت بشكل استثنائي إلى الماضي والأسطوري والحداثي المفتون بالغرب،حيث فشل كليهما و أصبحوا فريسة سهلة لوهم سهل الأمور وغموض حلوله المكدسة.

فإذا كانت الحداثة وليدة على حد تعبير الفيلسوف الإسباني خوسيه أرتيغا إي جاسي،فإن السلفية قامت بتحديد الهوية الإسلامية، في حين أنه يؤازر بكل حسن نية و يتجاوز جميع أخطاءه الفادحة عن طريق تجديد فكر المسلم.

فحسب اعتقاده فإن استمرارية الاسلام يجب أن تؤدي إلى تحنيط المسلم بجميع تصرفاته،و أن التجديد الدائم يشمل عقله و مظهره الخارجي كشخص و مجتمع.

و في دراسة رائعة للفيلسوف الألماني كارل جاسبرز كمقدمة لنيتشه و فلسفته،التي تسمح لنا بفهم النوعية النفسية الأكثر انتشارا مما كنا نعتقد،حتى لو كانت السلفية هي محددة وفق صورة كاريكاتورية.

و الإنسان ليس مجرد بضع أشياء غير متطابقة،و جوهر من شأنه تكراره من جيل إلى جيل، فهو ما عليه من تاريخه،و هي حاصلة في حركة دائمة،إنها من المهام القديمة التي تؤدي إلى جلب الحركة إلى الوعي.

و في الوقت الذي كتب بن نبي مقاله حول الأزمة في العالم الإسلامي،المصطلح الإسلامي خرج لتوه من مغابر الصراع الإيديولوجي من أجل السماح بكشف مستقبل أولئك الذين وضعوا نظرتهم الإسلامية في لب اهتماماتهم الفكرية و الاجتماعية،السياسية و الاقتصادية و وضع حاجزا ضد هذه العلامة و التسمية معتبرا إياها تصنيفا خاطئا في العقل الإسلامي نسميه الحركات الاسلامية…..”

إن الحركات الاسلامية التي اختارت الحقل السياسي كمكان لتنشط فيه،حتى من الداخل فهي ترمز إلى مصدر للوعي،و ليس إلى الجوهر،و الحفاظ على الوهم،ما أسميه أساسا و يترجم هذه القدرة التاريخية القادرة على توليف الماضي و الحاضر و المستقبل” و سوف يولفون قادتهم،بالعودة إلى مصطلحات إسلامية،علماء الدين في الإسلام.

فمثلا الحركات و هذه الخطابات في العموم تحمل مشروع اجتماعي،لأنها في واقع الأمر استمرار للتعليم الإسلامي القديم،الذي كان يتطلع للحفاظ على الهوية الإسلامية من هجوم الثقافة الغربية.

هذا الانسحاب الذي كانت له أسباب كثيرة عند الاحتلال الأجنبي سمحت بتسهيل الوصول إلى  الجوهر،و الحفاظ على إيمان المسلم الضروري من أجل إعطاءه الفرصة ليصبح حقيقة فاعلة فعندما تسمح الظروف،تصبح النتائج عكسية في البناء الإجتماعي.

“أولئك الذين يتجهون إلى النشاط السياسي خاصة ،لا يملكون القدرة على مواجهة هذا النوع من التحدي(دستور مشروع اجتماعي)

إن شجب التقليد الأعمى للغرب ذلك التقليد الذي و بشكل عام لم يسفر عن أي شيء مثمر ينتفع به،و يسير جنبا إلى جنب مع الاعتراف أن هذا الأمر من بين معالم الإنسان الأكثر أهمية،فالعلوم الاجتماعية اخترعت لتكوين”احتياط معرفي لا مهرب منه”بالنسبة للمشروع الفكري لبن نبي.

إن الاستحواذ على هذه العلوم،يمكن أن تكون فعالة إذا تميزت بجانب تقني خالص : فمظهر مطيع خاضع لرؤية معين في العالم،و ثقافة خاصة بإنسان الغرب.

صفوة القول أن هذه المحاولة التي أتينا على ذكرها ، السابقة في الغرب الذي شرع في افراده منذ منتصف القرن الحادي عشر،فالعلوم ولدت و طورت في العالم الاسلامي.

عبد الرحمان بن عمارة
11 سبتمبر 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version