لقد كانت و مازالت تركيا خلال عشر سنوات ونيف بمثابة مثال يُحتذى به في نظر العديد من المراقبين في الغرب. نظام معتدل متوازن، بلد عضو في منظمة حلف شمال الأطلسي، يحترم أصوات الناخبين، يرتكز الى اقتصادٍ يضجُّ بالحيوية والنشاط، وبالمختصر  المفيد: نموذج يضرب به المثل لدى جيرانه العرب الغارقين بالأزمة النفطية بل والمتخبطين في الحروب الأهلية.

أمام الأعاصير.. هل باتت المعجزة التركية سراباً؟

فهل تستطيع تركيا اليوم أن تصمد أمام الأعاصير التي تصب عليها حمم النيران من كل حدب و صوب، و هذا قبل أسابيع قليلة من موعد الاستفتاء الشعبي العام حول الدستور في نيسان /أبريل 2017 .. والحقيقة المرة أن تركيا تبدو في حالة صعبة للغاية لكنها صامدة.. نعم صامدة رغم الاعاصير، لكن إلى متى ؟

فتركيا اليوم وحسب بعض الخبراء وقعت في فخ يصعب الخروج منه بسلام،  وهي ضحية أزمة متشابكة رباعية الأبعاد: أمنية وسياسية ودبلوماسية وخاصة إقتصادية، وهنا يكمن التهديد الأكبر للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث بدأت علامات انتكاص السياحة واضحة للعيان، معلوم  أن التجارة السياحية تعد من أهم موارد الرزق للأتراك

مشروع من شأنه تحويل السلطة التنفيذية إلى الرئيس

أما في المجال السياسي، وبعد موافقة الجمعية الوطنية الكبرى والبرلمان لدى القراءة الثانية على مشروع الرئيس رجب طيب أردوغان بإجراء استفتاء حول تعديل الدستور تعديلاً بليغاً، وذلك بفضل التحالف الظرفي غير المتوقع بين “حزب العدالة والتنمية” (إسلامي محافظ) الحاكم وحزب “العمل القومي” الصغير (يميني قومي متطرف). حيث حاز المشروع على 339 صوت، أي بما يفوق بـ 9 أصوات الأغلبية المطلوبة، والتي تقدر بثلاثة أخماس الأعضاء، لِيُطْرَح على الاستفتاء الشعبي العام في 16 نيسان /أبريل القادم ويتضمن المشروع 18 مادة، من شأنها تحويل السلطة التنفيذية إلى رئيس الجمهورية، في حين كانت في السابق بين أيدي رئيس الوزراء، مما سيتيح له تعيين وإقصاء الوزراء، والتدخل في سير شؤون الدولة بأريحية كبيرة. وسوف تتم بموجبه الانتخابات التشريعية في نفس الموعد مع الانتخابات الرئاسية، أي كل خمس سنوات بدل أربع كما هي الحال الآن، وسوف يصبح عدد النواب 600 أي يزداد عددهم 50 عضواً جديداً. ولقد جاء على لسان رئيس الوزراء بن علي يلديريم، إثر عملية الاقتراع، تأكيد مفعم بالثقة حين قال :“ستتخذ أمتنا القرار الأَصْوَب، دون أدنى شك في ذلك”. بذلك تكون تركيا قد أتمّت المرحلة الأخيرة من عملية تغيير النظام التي بدأت بشكل خفيّ  و منهجي منذ صيف 2015، ثم احتدمت جراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تموز/ جولية 2016

الفتنة الكبرى بين الاشقاء الاتراك تنتقل للغرب

من جذور الازمة التي عكرت الصفو على الأشقاء الاتراك فيما بينهم، الصراع بين الرئيس أردوغان و الداعية المعارض فتح الله غولان، هذا الصراع الذي خرج اليوم بحدة إلى أوروبا مقلق لجاليتنا المسلمة عموما، فقد تناقلت وسائل الاعلام الأوروبية عموما و التركية خصوصا خبر مداهمة الشرطة الألمانية هذا الأسبوع، منازل أربعة أئمة أتراك  يشتبه بتجسسهم لصالح الحكومة التركية المسلمة، والأئمة الأربعة متهمون بالتجسس على أتباع الداعية الإسلامي المعارض فتح الله غولن الذي يُحَمله اردوغان مسؤولية انقلاب تموز / جولية الفاشل ضده. وذكر المدعون العامون بعد عمليات الدهم ان الأئمة نقلوا معلومات عن أتباع غولن الأتراك من خلال القنصلية التركية في مدينة كولونيا الى مديرية الشؤون الدينية التركية .. وذكر موقع “شبيغل” الألماني أن الائمة ينتمون الى “ديتيب”، وهي منظمة تسيطر عليها أنقرة وتدير شؤون نحو 900 مسجد او جماعة دينية في ألمانيا. معلوم أن حكومة أردوغان اتخذت منذ مدة اجراءات شديدة ضد أنصار غولن الذي ينفي انه كان وراء محاولة الانقلاب، وتم إلقاء القبض على أكثر من 41 ألف شخص بشبهة العلاقة مع حركة غولن، اضافة الى طرد أو تعليق مهام مئة الف آخرين أغلبهم من المدرسين و الطلبة ورجال الشرطة والقضاة والصحافيين..

حملات التطهير ضرورية لتنظيف الدولة من “فيروس” حركة غولن

ردا على أسباب هذه الحملة الشرسة، تقول الحكومة التركية ان حملات التطهير ضرورية لتنظيف الدولة من “فيروس” حركة غولن التي تشجع المنتمين اليها على العمل في وظائف الخدمة العامة، من جهة أخرى انتقدت مؤسسات و منظمات حقوق الانسان بشدة حجم عمليات التطهير، بينما اعتبرت بعض الجهات حتى الإسلامية منها أن حكومة أردوغان ذهبت أبعد من مجرد مطاردة المخططين للانقلاب، و قد تخسر تركيا طاقات إسلامية واعدة مسالمة قد تستقطبها قوى مغرضة، الامر الذي فتح الباب منذ أشهر لهجرة الاتراك بالآلاف هروبا من المجهول، حيث تقول إحصائيات أنه تقدم في الأشهر الأخيرة  الآلاف من المواطنين الأتراك في ألمانيا بطلب اللجوء السياسي، وذكرت تقارير أن بينهم جنودا أتراكا يخدمون في حلف شمال الأطلسي، وقد يسربون للعدو معلومات مهمة عن جيش بلدهم، لا ننسى أن اليوم في ألمانيا يعيش حوالى ثلاثة ملايين شخص من أصول تركية، وهي الجالية التركية الأكبر في العالم خارج تركيا..

الأزمة الألمانية التركية و الحل التوافقي المنشود

بغض النظر عن الأزمة الأوروبية التركية القديمة المتجددة، فقد انتقدت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل الحكومة التركية مرارا بسبب حجم الاجراءات ضد أنصار غولن، كما حثت أردوغان على ضمان الحريات المدنية وأثار تخلُّف ألمانيا عن تسليم مئات المشتبه بهم المرتبطين بالانقلاب وبحزب العمال الكردستاني واليسار المتشدد، غضب حكومة اردوغان ، وترغب ميركل في أن تواصل تركيا تنفيذ اتفاق وقعته مع الاتحاد الاوروبي للحد من تدفق المهاجرين الى أوروبا، بالرغم من تهديدات أردوغان بالانسحاب من هذا الاتفاق بسبب عدم موافقة الاوروبيين على السماح للأتراك بالسفر الى دولهم من دون تأشيرة دخول، كما أغضبت حكومة أردوغان برلين أيضا بسبب حملات انتخابية تتوجه الى الناخبين الأتراك في ألمانيا ويلقي رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم خطابا يوم السبت في أوبرهاوزن في شمال الرين-وستفاليا، لحث الأتراك هناك على التصويت “بنعم” في استفتاء 16 نيسان / أفريل الذي يعزز صلاحيات الرئيس  أردوغان عبر استحداث رئاسة تنفيذية

تركيا تصفع العلمانية وتسمح للجنديات بارتداء الحجاب

أمام كل هذه الأعاصير  التي تصب صبا من كل حد و صوب، تباغت تركيا الرأي العام العلماني خصوصا، وتوجه حكومتها الأنظار بإعلان وزارة الدفاع التركية، يوم الأربعاء المنصرم عن إلغاء قرار منع الحجاب في الجيش، ليصبح بإمكان الجنديات الموظفات ارتدائه من الآن فصاعدًا، إن رغبن بذلك حيث أصدرت الوزارة بيانًا يسمح للنساء من الضباط وصف الضباط، ارتداء الحجاب، بعد أن كان ذلك ممنوعًا سابقًا منعا باتا، ويعد هذا القرار سابقة من نوعها بالنسبة للجيش التركي الذي يوصف أنه “علماني خالص”، منذ أيام الجمهورية بدايات القرن العشرين، وأُرسلت تعليمات وزارة الدفاع بخصوص القرار إلى قيادة القوات والجيش التركي للبدء بتنفيذه فوريا، وكانت دراسة بدأت حول السماح للنساء الموظفات من الضباط وصف الضباط في الجيش التركي بارتداء الحجاب، كما يشمل القرار الموظفات والطالبات الجنديات في العسكرية، ويسمح لهنّ أيضًا بارتداء بما يتناسب مع لون البدلة العسكرية التي يرتديهنّ إلى جانب الإبقاء على وجوههنّ مكشوفة وإمكانية وضع “السيدارة” والقبعة العسكرية

تركيا تفتح عهدًا جديدًا في تاريخ جيشها

وهذا الإجراء الذي يكتسي رمزية كبرى بسبب وضع الجيش التركي كحامي العلمانية في البلاد منذ تأسيس الجمهورية من قبل مصطفى كمال أتاتورك، إذ كانت تركيا واحدة من أكثر الدول تحفظًا على ارتداء الحجاب، وكان يمنع ارتدائه من قبل الطالبات الجامعيات وموظفات الدولة أيضًا .. وصدر قرار منع الحجاب في الجامعات ومؤسسات الدولة أواخر ثمانينات القرن الماضي، بالتزامن مع صراع اليمين واليسار في البلاد ، إلا أنه في عهد حكومة حزب “العدالة والتنمية” عام 2008، وبقرار من رئيس الوزراء وقتها، رجب طيب أردوغان، بدأت تركيا تشهد تسهيلات تدريجية وصولًا إلى اليوم

ضمن قيادات الحلف الأطلسي جنديات جنرالات محجبات

أمام هذا الزلزال للعلمانية في عقر دارها ، كانت أصوات معارضة قد نددت بالسماح للمحجبات بالعمل في الدرك والشرطة كجزء من زيهن الرسمي منذ سنوات إلا أن الحكومة التركية الحالية عللت هذا القرار بأن دولا ككندا واسكتلندا  و بريطانيا و غيرها تسمح للشرطيات المسلمات بارتداء الحجاب خلال أدائهن لوظيفتهن و هن في دول غربية، مذكرين بأن هناك دول عربية و إسلامية لازالت لحد اليوم ترفض الحجاب للشرطيات و الدركيات في دولها المسلمة في المشرق كما في المغرب.. ومادامت تركيا عضو في دول حلف الأطلسي فإنه بات الآن  أمرا حتميا، و بداية من يوم الناس هذا سيلحظ العالم بعجب و إكبار في صفوف قيادات الحلف الأطلسي جنديات جنرالات محجبات ممثلات لتركيا من بنات “العلماني” مصطفى كمال أتاتورك يتخذن قرارات تهم مصير الدنيا، بل جالسات على نفس طاولات التدبير السياسي  أمام  جنرالات فرنسا الذين يعتبرون الحجاب لباس رجعي !

سبحانك ربي مغير الأحوال، ما بين غمضة عين و إنتباهتها يغير الله من حال إلى حال!

محمد مصطفى حابس
4 مارس 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version