يتساءل المرء : هل ترامب ابن ملك ، أو ملكة الولايات المتحدة الأمريكية ، أو هو ابن إمبراطورها ؟ يمكن أن يختلط الأمر على الناس فيعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية هي صورة طبق الأصل لبريطانيا ، بكل تأكيد هي ليست كذلك لأن الأوربيين وعلى رأسهم الانكليز ، لم يريدوها كذلك ، فبدل أن يجروا تجاربهم داخل المجتمع البريطاني ، مثلا ، اختاروا أمريكا لذلك ، فكانت مستعمرتهم المفضلة . وربما كانت فرنسا تريد أن تجعل من الجزائر عالمها الجديد الذي يمكنها من إخضاع إفريقيا. أعود فأقول ، الولايات المتحدة لم تكن مملكة ، فهي لم تعرف هذا النوع من الحكم ولم ترغب فيه ، جربه الأوربيون في أوربا وتأكدوا من انتهاء صلاحيته ، جربوه فيما بينهم ولم يفلحوا ، لذلك تركوه للتاريخ وللذكرى ، لا أدري لماذا يتمسك به إخواننا في المغرب الأقصى إلى أيام الناس هذه ؟ هل تخفي النخبة في المغرب الشقيق بعض محاسن نظامهم وأفضليته ، أم أن المغاربة لا يصلح شأنهم إلا بهذا النظام وهذا الأسلوب ، المغاربة وحدهم أجدر باختيار ما يعود عليهم بالأمن والأمان . نعود لأمريكا ، فهي ليست آسيا أو إفريقيا ، السكان الأصليون لأمريكا كانوا مسالمين إلى حد بعيد ، غير أنهم أبيدوا وسحقوا على أيدي آباء ترامب وأعمامه الذين احتلوا الأرض واغتصبوا العرض ، ولم يعبأوا بمكارم الأخلاق . يمكننا مراجعة الذاكرة ، تصوروا لو أن الفاتح عقبة بن نافع عبر بجيشه مياه المحيط الأطلسي ووصل إلى أمريكا ،هل كان يومها هنود أمريكا سيهانون أو يذبحون ، وهل كان الأفارقة سيجلبون من ديارهم بغرض الاستعباد والقتل ؟ لا يمكنكم استحضار الصورة وإجراء المقارنة ، اسألوا الأندلس وسكانها الأصليين ، اسألوا الأتراك والأفغان والفرس ، اسألوا مفكري ألمانيا والنمسا الذين صحت عقولهم وصحت ضمائرهم ، ممن تعاملوا مع التاريخ مثلما تعاملوا مع الفيزياء والجبر والكيمياء ، هؤلاء وأمثالهم داخل أوربا كثير، سيدلوننا أن آباء ترامب وأعمامه أقاموا ( رأسماليتهم ) على حساب رأس مال الإنسان الأمريكي والإفريقي ، وحتى الآسيوي ، لقد أبادوا هنود أمريكا ، وجلبوا سود إفريقيا لملء الفراغ ، لاحظ كيف تعاملوا مع اللون ، فما بالك بالعرق والمعتقد ، فما قيمة رأسمالية قامت على إثر إبادة ملايين من الناس ، ما طعمها وما لونها ،وكيف هي رائحتها ؟ عند هذا الحد يمكننا أن نتساءل عن الأثر الذي تركته الكنيسة في نفوس أولئك الذين احتلوا أمريكا وإفريقيا ، ماذا علمتهم ، وبماذا زودتهم ، نفوس اجتهدت كثيرا في عمليات الحرق والقتل والنهب ، وكلهم هلع وجزع ومنع ، كل ذلك في سبيل بناء هيكلهم الذي سموه على بركة رجال الدين ( الرأسمالية الغربية ) ، اسألوا جهابذة الفكر والفلسفة والقانون في أوربا عن قاموس الرأسمالية هذه ، ماذا يحمل هذا القاموس من مصطلحات ومبادئ وقيم ؟ لذلك فإن ترامب اليوم ، لا يمكنه أن يشذ عن أسلافه ، ولعله يحمل وصية أو ما يشبه الوصية ، لعل أحد القساوسة أو الأحبار أسر له بذلك منذ صغره ، وكأن ترامب كان ينتظر هذا الموعد من قديم . الأمريكيون ، بكل تأكيد ، لا يشاطرون ، جميعهم ، رئيسهم الجديد ، رؤيته وما سيقدم عليه في المستقبل القريب ، لكن بكل تأكيد ، فإن هناك أقلية فاعلة تقف وراء ترامب ، وتحرص كل الحرص على ترويض الأكثرية خلال السنوات القليلة القادمة على أقل تقدير.

ماهي اهتمامات ترامب ؟

ترامب يريد أن يذهب أبعد من آبائه وأعمامه ، لقد رجعت به الذاكرة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى لم يبحث في الأسباب التي عصفت بأوربا وأدخلتها الحرب ، بل راح يتفقد وضع القوات البحرية ، كان ذلك في الخامس من شهر فبراير 2017 ، بعد تنصيبه رئيسا بأسبوعين ، لم يعجبه الوضع ، خصوصا بعد أن استمع إلى مقربيه من القادة العسكريين ، كان ينتظر منها أن تكون جاهزة لسحق الخصوم ، قال كلامه بخصوص القوات البحرية وهو يتفقد أحوال القائمين على قيادة القوات الجوية الأميركية ، سيكون الرئيس ترامب حاضرا في الشأن العسكري كثيرا ، أما ما هو غائب عن الرئيس وكثير من المهتمين ، هو وضع الشعب الأمريكي ، أو المجتمع الأمريكي ، بكل تأكيد ، لا يمكن استبدال لون بلون ، أو عرق بعرق ، أو معتقد بمعتقد ، لا يمكن ملء الفراغات وفق ما يتمناه ترامب ، أو ما يصبو إليه الفاتيكان مثلا هذا هو الأهم ، الأمريكي الأبيض ، كما هو الأمريكي الأسود ، المسيحي ، كما هو المسلم ، لا يمكن لطرف أن يبحث عن أمنه وأمانه في مجتمعه في غياب أمن وأمان الأطراف الأخرى ، لذلك فإن الأمريكيين ، مهما اختلفوا ، هم يدركون ، أكثر من الآخرين داخل أوربا ، أن مستقبلهم في نطاق الأمن والأمان ، وخصوصا الأمن من الخوف والأمن من الجوع ، لا يمكن أن يتحقق على أيدي بعض المغامرين في عالم السياسة والاقتصاد ، وأكثر جهة تعي ذلك هو جهاز الاستخبارات ، وكذلك مؤسسة القضاء الأميركية. إن بناء قوة أمريكا ، أو إعادة هيبتها ، لن يتم وفق ما يتصوره ترامب ويفكر فيه من أساليب ، الرجل ليس فيلسوفا ولا مفكرا ولا مصلحا ، فهو خريج المدرسة الرأسمالية ( الغربية ) ، وتحديدا شبكة الرأسمال الذي يعتمد على قاعدة استغلال الآخر من أجل فائدة ومنافع أكبر ( الغاية تبرر الوسيلة ) ، وكما يعلم الجميع ، فإن مثل هذه الشبكة لم تنطلق من رأس مال حلال ، بمعنى رأس مال مشروع ، مبني على جهد واستثمار يتضمن منفعة متبادلة . كما أن ترامب من أكبر المغامرين ، بل والمفلسين ، وأساليب هؤلاء معلومة ،وعواقبها كارثية.

من بين المقاربات

وقبل مقاربة بعض الملفات التي تتصل بإدارة ترامب للسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية ، دعنا نعرج على دراسة أعدها الدكتور عزمي بشارة المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ الدوحة ـ سياسات عربية ـ مجلة سياسات عربية العدد 23 ، نوفمبر 2016 ،تحت عنوان : صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل :حينما تنجب الديمقراطية نقائض الليبرالية
                                        
The Rise of the Right and the clash of civilizations : When Democracy Spawns the Antithesis of Liberalism
                                                        
ينطلق الدكتور في دراسته من فرضيات:

الفرضية الأولى : طبيعة الصراع الدائر في البلدان الغربية المتطورة.

يمكننا أن نتساءل : هل هناك صراع فعلي ، أو هو مجرد اختلاف في وجهات النظر ، أو ما يمكن تسميته احتكاك في المصالح ؟

الدكتور يسميه صراعا بين ثقافتين ذات مكونات طبقية وثقافية وسياسية وقيمية . الملاحظ هو أن الأستاذ الباحث كرر عبارة ثقافة حينما ذكر المكونات بقوله مكونات ثقافية ، مع أنه أشار إلى أن الصراع هو بين ثقافتين ، هل كان ضروريا ، أم أن مفهوم الثقافة غير واضح المدلول والمعالم ؟ خصوصا حين يشير إلى إمكانية تحول الثقافات نتيجة الصراع إلى هويات ، هل عامل الهوية بات اليوم في حدود البلدان الغربية ، وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ، عامل بناء ، أم عامل صراع ، عامل قوة ، أم عامل ضعف ، وأي جهة أكثر تأثرا بالأخرى ، أوربا ، أم الولايات المتحدة الأمريكية ؟

الفرضية الثانية :روسيا والصين في الصراع على المستوى العالمي ، فقد تبنتا ، حسب الدكتور ، عقيدة صراع الحضارات ضد انتشار الديمقراطية والليبرالية بوصفهما ثقافة غربية.

إذا كانت المسألة كذلك ، ما هو البديل الحضاري لدى كل من روسيا والصين في الوقت الحاضر؟ خصوصا إذا أدركنا أهمية العامل الثقافي والعمق الحضاري في بناء سياسات المستقبل ، أين هي اليابان من هذا كله ، أم أن اليابانيين صاروا جزءا لا يتجزأ من ثقافة الغرب ، إلا ما تيسر من بعض الطقوس أو العادات التي لا تشكل أساسا يمكن أن يأتي بالجديد في عالم الأفكار ، خصوصا ما تعلق منها بالبعد الإنساني وتأثيراته في هذا الوجود.

الفرضية الثالثة : وجود فجوة بين النخب التي تتبنى القيم الليبرالية في تحالف مع الفئات التي عانت التهميش ـ الأقليات والنساء من جهة ، والطبقة العاملة البيضاء والريف … أدت إلى إضعاف الرابط التاريخي الحديث بين الديمقراطية والليبرالية والانتقال إلى الصراع في حالات متزايدة.

ما سبب الفجوة ، أو الهوة بين تلك النخب ، أهو طبيعة العلاقة القائمة بين اصحاب رؤوس الأموال ، أو الملاك من جهة ، وبين الأقليات غير المالكة ، أو بين أقلية مالكة مستحوذة ، وأكثرية مهمشة ، أم السبب يكمن في طبيعة العلاقة القائمة بين النخب ذاتها من منطلق ثقافي و فكري ؟

بعد هذه الفرضيات ، يعود الدكتور إلى مسألة صعود اليمين ، فيشير إلى كلمات مفتاحية منها : ـ اليمين الشعبوي ـ دونالد ترامب ـ صراع الحضارات ـ الديمقراطية الليبرالية.

صعود اليمين الشعبوي وخصوصيته

يشير الدكتور إلى الصدمة التي صاحبت نتيجة الانتخابات الرئاسية داخل الولايات المتحدة وخارجها، خصوصا بالنسبة للمؤسسات الإعلامية ومؤسسات استطلاع الرأي العام ، بالنسبة للدكتور ، وكذلك المؤسسات الإعلامية مجتمعة ، فوز ترامب كان مستبعدا ، خصوصا حينما يشير الأستاذ إلى دهشة فئات واسعة من المثقفين في الغرب والشرق من سلوك الناس الانتخابي ، هل لأن الطبقة المثقفة وقطاع الانتلجانسيا ، لم يعد له تأثير على الرأي العام ، أم أن هناك طرفا أو أطرافا انفردت على حين غفلة من الطبقة المثقفة ، فصنعت رأيا عاما مغايرا للتوقعات ، وإلا ما طبيعة مثل هذه الصدمة التي يتحدث عنها الدكتور وكثير من المثقفين ، ألا يشبه هذا الوضع ما كان عليه الرأي العام قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى ؟ وإلا كيف نفسر استطلاعات الرأي العام من قبل مؤسسات أثبتت كثيرا من المصداقية في دائرة العالم الغربي ، أم أن الذي حدث يشبه الضربة القاضية التي فاجأت كثيرا من المتتبعين ، خصوصا حينما يقول الدكتور : ” وموضوع الاندهاش تساهل المصوتين مع ركاكة شخصية المرشح الذي أصبح رئيسا منتخبا والرداءة التي تتناوب على الفظاظة في أسلوبه ، وتعاطفهم مع مجاهرته بأفكار يفترض أن يخجل صاحبها من البوح بها في عرف ثقافة ـ اللياقة السياسية ـ الليبرالية ، فأفكار ترامب من نوع ـ العيب ـ السياسي إذا صح التعبير ” . ص 8 . هل تعاطف الأمريكيين مع من يحمل كل هذه المواصفات أو الأوصاف ، بلغ هذا الحد ، نسبة المصوتين على ترامب ليست بالعدد الهين ، الذي يمكن تجاهله أو التغاضي عنه ، فكيف نفسر مثل هذا الذي يسميه الدكتور عزمي بالتعاطف ، ثم هل الرداءة والفظاظة وما سمي بالعيب السياسي كان غائبا عن الأمريكيين إلى هذه الدرجة ، مؤسسات إعلامية ناطقة بالانجليزية ومتابعة لشؤون العالم كله ، مراكز بحث ودراسات وصناعة للرأي العام ، عمل استخباراتي على درجة عالية من المهارة ، تحكم كبير في تكنولوجيات العصر ، ما محل الغفلة واللامبالات والاستهتار والتواكل على مستوى مفاصل مجتمع أعطى أمثلة رائعة في مجال الحريات و حقوق الإنسان مجتمع لا يضيق بمعتقدات الناس واختلاف وجهات النظر ، مجتمع احتضن زخما كبيرا من الكفاءات.

يواصل الدكتور عزمي قوله : ” وقد سادت قناعة تامة في أوساط المندهشين أن الرجل لا يليق بمنصب رئيس الولايات المتحدة الذي لا يعقل أن يشغله شخص كهذا ، لناحية أهمية هذا المنصب وتأثيره في أكبر اقتصاد في العالم ، وفي السياسة الدولية بصورة عامة ، وكأن ما لا يعقل لا يحصل ، أو هو غير ممكن الوقوع ” . ص 8 . إذا راجعنا تاريخ العالم ، معطيات بدايات القرن العشرين ، التحولات على مستوى عالم الأفكار ، علاقة الإنسان بالعالم غير المنظور ، مستوى معيشة سكان العالم ، ثم طبيعة الصراعات التي كان يتخوف منها الإنسان وقتها ، لأدركنا درجة حضور الإنسان المثقف ، وقيمة النخبة وأثرها في حياة الناس ، ولأدركنا أن حال الناس اليوم لا يختلف إلا من حيث الشكل ، وإلا كيف نفسر سكوت الطبقة المثقفة ، في العالم الغربي عن شيء سموه حقوق المثليين ، على سبيل المثال ، والتغاضي عن آلة التقتيل بحق شعب أعزل بأرض الشام ، وكأن هذا الشعب استحق ويستحق مثل هذا المصير ، لم يعبأ لذلك الغرب والشرق على حد سواء ، وكأن العاطفة ، بدل أن تكون في جهة الأبرياء ، وجدناها في صف آلة الدمار التي تشحنها قوى كبرى في عالم اليوم ، استغربنا من مرور ترامب إلى الرئاسيات في أمريكا ، فلماذا لم نستغرب إهمال مجلس الأمن لما يحدث بحق البشر ، لذلك فإن الأمريكيين لم يعودوا يعبأون بالمثقفين ومؤسساتهم الإعلامية ومراكز استطلاع الرأي ، إذ كيف نبحث عن الأخلاق هنا ونهملها هناك، نستغرب من حضورنا وغيابنا في آن واحد ، إن ما لم يكن معقولا في بدايات القرن العشرين هو ذاته الذي لا نعتبره اليوم معقولا ، وما حصل بالأمس ، يمكن أن يحصل اليوم ، ذلك أن حضارة الغرب بالأمس لم تقنع أبدا بفداحة آثارها ، في عالم القيم والمبادئ ، وإذن فهي لا تعبأ بعواطف الناس وأذواقهم ومشاعرهم ، فكيف ننتظر منها اليوم أن تهتم لآرائهم ومواقفهم وآثار أعمالهم ، والأهم من ذلك أن لا بوادر على مستوى عالمنا الإسلامي توحي بجهد بشري على مستوى الأنفس والآفاق يمكن أن يمهد الطريق فكرة وعملا ، يفتح أعين الناس على فداحة المشروع الغربي الرأسمالي ، ويقدم البديل ، لأن الخوف الذي يسكن الأنفس اليوم من احتمال غرق السفينة التي يقودها الغرب ، ليس هناك ما يبعث في نفوسهم شيئا من الأمل بوجود سفينة للنجاة .وحتى العرب الذين لا يمثلون اليوم سوى عشرين بالمائة من مسلمي العالم ، فهم كمن دخل كهفا ليستريح ، وإذا به يستفيق على صخرة على مدخل الكهف لا حول لهم ولا قوة ، لم يهتدوا بعد إلى سبيل يخرجهم من محنتهم ، العرب في هذه الحالة ينتظرون على أمل قدوم سفينة ( الغرب ) لإنقاذهم ، من ، من المسلمين اليوم يعيد للعرب حريتهم وكرامتهم ، فيفهمون أن لا طائل من التعويل على السراب.

يواصل الدكتور بشارة فيقول : ” أثناء الحملة الانتخابية ، سمع خطاب ترامب السياسي كأنه وصل لتوه إلى الحملة الانتخابية من جولة في ( بارات ) نيويورك وحاناتها التي يؤمها الرجال بعد ساعات العمل ، ساعة احتساء بضع كؤوس من الشراب قبل التوجه إلى منازلهم ، وذلك في ساعات المساء المبكرة التي تسمى في الولايات المتحدة الساعة السعيدة ، إنها ثرثرة الرجال المحافظين المتحلقين حول البار ، إذا خطر لهم عرضا أن يعرجوا على السياسة الدولية بمناسبة ما يعرض أمامهم على الشاشة ، أو بعد وقوع عملية إرهابية ، وتباريهم في طرح الوصفات في كيفية تلقين الإرهابيين والدول التي ينحدرون منها دروسا . أما إذا تعرضت ثرثرتهم إلى السياسة الداخلية ، فإنها غالبا ما تختزل المشكلة في سوء تدبير البيروقراطية ، وفساد السياسيين ، وابتعاد المؤسسة عن ( الحياة الحقيقية ) ، وتردد الحكام ، وعجزهم عن الحسم واتخاذ القرار الصحيح ، والسخرية من النساء اللواتي يدعين المعرفة ، والتجرؤ على الإشارة بصراحة إلى لون البشرة والجنس والأصل والدين وغير ذلك ، والجملة السياسية الغاضبة المشبعة بثقة المتكلم بنفسه وقناعتعه أنه يمتلك الحلول لجميع المشاكل والمعضلات التي تحير السياسيين والخبراء . وتتألف الحلول السحرية المزعومة من وصفات غير ممكنة التنفيذ ، واقتراحات لا تفسير لها سوى الجهل بالمعطيات ، ومقولات متناقضة فيما بينها ” .ص 8.

حينما نتأمل وصف الدكتور للحالة الأمريكية ، وتحديدا الولايات المتحدة الأمريكية ، ثم نقرأ قليلا عن نفس المجتمع خلال العشرينيات من القرن الماضي ، أو حتى قبل ذلك ، يكاد المرء يجزم أن لا شيء تغير في نظرة الإنسان الغربي ، خصوصا فيما تعلق بالحياة والسعادة والبطولة والمال والأعمال ، باستثناء ما تعلق بالجانب الرقمي والشكلي ، كاكتظاظ المدن والأنواع الجديدة من المركبات والسكنات ووسائل لم تكن موجودة آنذاك ، أما النظرة للبيروقراطية والفساد السياسي والتمييز على أساس العرق واللون والجنس وحتى الدين واللغة باقية آثارها وحتى أسبابها ، فقط الدكتور عزمي لم يعرج على دور الكنائس ونشاطها وأثرها داخل هذا المجتمع العملاق ، المهم السفينة مثقلة بالأعطاب ، وكثير من ركابها يضيق بفئات أخرى ممن يشاركونه الهموم والأحزان والقلق وكثيرا من الهلع والجزع . هل المشكلة تكمن في أن من سبق ترامب من حكام الولايات المتحدة الأمريكية ، كانوا لا يحتسون الخمر ،هل كان يهمهم رأس مال الإنسان الذي هو إنسانيته ، هل كانوا يزنون حقوق الناس بميزان واحد ، كيف كانوا ينظرون إلى الأقليات داخل الولايات المتحدة الأمريكية ، خصوصا المسلمين ، هل استمع الكونغرس ذات يوم إلى آراء مفكري المسلمين وعلمائهم حول مشكلة الإرهاب ، وأسباب القتل وأدواته وأهدافه ؟ من ، من حكام الولايات المتحدة الأمريكية بحث مع مفكري المسلمين وعلمائهم مشكلة فلسطين ، ولم يساير تطرف الإسرائيليين ؟ لا أدري ما هو الجديد الذي أتى به  ترامب ؟ أما الإدعاء بامتلاك الحلول لجميع مشكلات العالم فليس جديدا على السياسة الأمريكية ، وأما غياب المعطيات أو الجهل بها ، أظنه نوعا من إخفاء المعطيات الصحيحة ، والعمل على تشويش قواعدها وأطرها إمعانا في التدليس بغرض خدمة مصالح محددة ، مصالح من ،هذه التي لا يهمها زخم المجتمع الأمريكي في التكنولوجيا والاتصال الذي كان يمكن أن يساعد على تخفيف معانات المرضى والجوعى، وحتى الخائفين ، مصالح من هذه التي تتلاعب بأرواح الأبرياء على مرأى ومسمع مجلس الأمن ومحكمة لاهاي ومنظمات حقوق الإنسان أي مصالح هذه التي يمكن أن ترهن مستقبل الأمريكيين الذين تجاوزوا نظرة أوربا إلى العرق واللون وحتى الجنس ، هل أن أصحاب هذه المصالح ، إلى الآن ، لم يعتبروا بآثار الحربين العالميتين من القرن العشرين ، من يستطيع تبرير ما صنعته الأيادي الخفية والنفوس المريضة والدوائر المغلقة ؟ من صور ، وعملت على إقناع الأمريكيين أن بلدهم ومجتمعهم مستهدف ، وممن هم مستهدفون ، هل يستطيع ساسة أوربا ، مثلا ، ومعهم باباوات وقساوسة الفاتيكان ، البرهنة على أن المسلمين هم مصدر الخطر الذي يهدد أوربا ، المسلمون يوحدون الله ، هل يضيرهم هذا ؟ يتخلقون بأخلاق خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، ولا يفرقون بين أنبيائه ورسله ومنهم سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهم جميعا سلام الله ، هل يخيفهم هذا ؟ إذا كان إسلام الآلاف من سكان أوروبا وأمريكا هو الذي يخيفهم ، فذلك شيء آخر ، إذا كان الفاتيكان يصر على تنصير العالم ، ولا يرضيه حرية المعتقد على الأقل ، لكل دينه ومعتقده وفق قناعته دون قهر ولا جبر ، فإن المجتمع الأمريكي يعتبر خير مثال يمكن أن تحذو حذوه أوربا ، المجتمع الأمريكي لا يمكن ( استعماره ) أو استعباده ، وكل محاولة للنيل من حرياته ، مآلها سيكون حتما الفشل . يقول الدكتور عزمي بشارة : ” هكذا يتكلم الرجال البالغون المتذمرون ، الغاضبون من تحولات العالم حولهم ، إذ يتملكهم شعور بأن بلادهم تصادر منهم حتى أصبحوا يجدون صعوبة في التعرف إليها ، رئيس أسود ، وامرأة مرشحة لرئاسة البيت الأبيض ، وفي حالة انتخابها سوف يصبح زوجها ـ السيدة الأولى ـ ، وزواج المثلين جنسيا ، وتأمين صحي يتذمرون من أنهم يمولونه للكسالى الذين لا يعملون، وهجرة غير منضبطة يشكون من أنهم يمولونها أيضا بضرائبهم . فمع أن الولايات المتحدة دولة بناها المهاجرون ، ينمي المهاجرون الذين توطنوا جيلا بعد جيل شعورا بأنهم سكان أصليون ، وأن فقراء العالم يتدفقون إليهم ليشاركوهم ثروات توافرت بجهدهم وعرق آبائهم وأجدادهم ” . ص 8.

إذن المسالة ليست وليدة البارحة ، أو هي مجرد خاطرة أو إطلالة انفرد بها رجل انتخبه الشعب الأمريكي بكل حرية لرئاسة البلاد ، هناك فكر وجهد ونشاط واجتهاد وأموال تصرف ، كل ذلك في سبيل صناعة رأي عام يقف وراء هذا التوجه الذي أخبر به  ترامب ، أو أنه قام بدور الناطق الرسمي ، لا أكثر . وإذن فالمسألة تخص المجتمع الأمريكي بالدرجة الأولى ، يمكن أن تدخل على الخط بعض الدول الأوربية ، فتصور المسألة بالخطر الذي يهدد الغرب كله ، وأن الخلاص يكمن في مواجهة هذا الخطر المسمى بالتطرف الإسلامي ، في غياب مرجعية دولية ، أو حتى سياسية ترد على مثل هذا الافتراء ، وكذلك من دون السماح لقيام رأي عام أوربي وأمريكي يعيد الأمور إلى نصابها ، إذن مسألة تخوف الأمريكيين على مستقبل بلدهم الولايات المتحدة الأمريكية ، يراد لها أن تكون شأنا أوربيا ، والتخوف من التطرف الإسلامي يراد له أن يتحول في أقرب فرصة إلى تخوف من الإسلام ، كل ذلك حتى تتاح الفرصة أمام بعض رجال الدين في أوربا ، وإلى جانبهم بعض الساسة المنبوذين شعبيا ، فيعملون على تبشير الناس بالخلاص ، والخلاص حسبهم يكمن في تنصير العالم ، لكن هؤلاء تناسوا أن مجتمعا اسمه المجتمع الأمريكي ، لا يمكن بحال من الأحوال مغالطته ، إن حرية المعتقد صارت حاجة ملحة بالنسبة للإنسان الأمريكي والألماني والبريطاني والبلجيكي والنمساوي والكندي… كحاجته إلى الماء والهواء فهل يعقل أن يمنع المحافظون الجدد الماء والهواء عن الناس.

يؤكد الدكتور بشارة أن هذا التوجه لا يقتصر على الولايات المتحدة الأمريكية ، فيقول : ” ليس هذا المركب الثقافي السياسي الخطابي إذا شئتم ، مقتصرا على الولايات المتحدة ، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان الاقتصاديات الغربية المتطورة جميعا ” . ص 8 . وإذن فالرأسمالية الغربية ، لم يهنأ لها بال ، تذكرون أنها لم تهتم لأرواح الناس وإنسانيتهم ، همها جمع الثروة واستعباد الخلق ، والإمعان في التمييز الطبقي ، فهي لم تسمح ولن تسمح بمساحات حرية الضمير والرأي والمنافسة الشريفة ، فهل هناك بديل  في أي جهة من العالم يمكنه مواجهتها بصورتها البشعة ، وأن يعيد للإنسانية كلمتها وبهاءها وجماليتها التي سرقت منها على حين غفلة . في حقيقة الأمر ، الدكتور عزمي لم يأت بالجديد ، فهو فقط أعاد بعض الصور الباهتة لبعض العمل المسرحي ذي البعد الشعبوي ، وحاول أن يحيطه بواجهة خطابية تجمع بين نبرة اليمين المتخفي وراء الليبرالية تارة والديمقراطية تارة أخرى ، وتقابلها نبرة يسارية لم تعد تقنع أحدا ، حتى وإن تزينت وحملت شعار المعارضة لما تسميه حضارة الغرب بثوبها الليبرالي . يشير الدكتور إلى الجانب الآخر المتوسم فيه كائنا حضاريا مغايرا تتصدره الصين وروسيا ، فيقول : ” تنظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا إلى انتشار الديمقراطية بوصفه تمددا للحضارة الغربية ، وأداة لهيمنة الغرب . وهذا يعني باختصار وأن من يتبنى نظرية صراع الحضارات حاليا على المستوى الدولي هو هاتان القوتان العظميان أن صراع الحضارات أصبح مذهبا روسيا وصينيا في العلاقات الدولية ” . ص 9 . هل فعلا ما يخيف المحافظين داخل دائرة الغرب ،  هو التوجه الروسي والصيني ، ما هي الأفكار لدى هاتين القوتين التي يتخوف منها الليبراليون مثلا ، هل شكلت الصين في يوم من الأيام عائقا أمام زحف قوات الدول الرأسمالية الغربية لاحتلال إفريقيا وأمريكا وأجزاء واسعة في آسيا ، هل روسيا والصين هما اللتان حررتا شعوبا عانت الويلات على يد الغرب الرأسمالي ، ثم هل يتخوف الفاتيكان من هاتين القوتين في سبيل ما يسميه تنصير العالم ؟ لا أدري أي صراع حضاري هذا الذي يمكن أن تتخوف منه أمريكا والغرب ، يكون مصدره الصين وروسيا ؟ الصين فعلا هو كيان ثقافي واجتماعي ، ليس بالأمر اليسير استيعابه واستغلاله وفق ما يخدم مصالح الغرب ، أما روسيا التي نجح الغرب في تقليم أضافرها يوم كانت تسمى بالاتحاد السوفييتي ، ليس مستحيلا ترويضها من قبل الليبراليين الرأسماليين ، فهم يملكون من البدائل ما يمكنهم من ذلك .وحتى اليمين المتطرف مثل الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان ، لا يعدو هذا التيار داخل أوربا ، سوى صورة مشوهة للممارسة الرأسمالية الغربية المتحالفة مع الكنيسة الكاثوليكية رأسا في مقاربة كل ما هو إنساني وكل ما هو حضاري ، لا يمكن الفصل كثيرا بين يمين ويسار أوربا حضاريا ، المسألة لا تعدو كونها إفرازات آلة التغيير على مستوى الداخل الأوروبي بعد الثورات التي شهدتها القارة وتطلب الأمر الاستجابة لمقتضيات عامل الاستقرار الذي بات حينها ملحا . واليمين المتطرف داخل أوربا وأمريكا لا ينتظر دعما من بوتين ، بل على العكس من ذلك فأشباه اليمين في روسيا هم في الأصل صورة باهتة طبق الأصل لما كان سائدا إبان القرن العشرين ، وخصوصا بعد الحرب العالمية الثانية ، وبقي ذلك التوجه يساير ما جد من أفكار شيوعية ، حملت أحيانا شعار الاشتراكية ، لكنها لم تصمد طويلا بعد أن فقدت مبررات وجودها أمام بشاعة الأنظمة الاستبدادية التي حكمت حيزا لا يستهان به من المعمورة ، لذلك فإن بوتين وأمثاله في حاجة إلى البعد الثقافي والحضاري الذي يختزنه اليمين في الغرب . أما الصين فهي لا زالت تبحث عن صورتها التي يمكن أن تظهر بها إلى العالم من دون الحاجة إلى ليبرالية الغرب وحتى بعض ممارساته في نطاق التوجه الديمقراطي ، الصين ككيان ثقافي اجتماعي يحمل من الأسرار والبدائل الكثير ، لا يمكن التنبؤ بوجهته على المدى القريب ، والبدائل الممكنة هي اقتصادية واجتماعية ، لكن من ناحية المعتقد ، فإن الصينيين في حاجة إلى من يجسد مبدأ الشهادة في هذه الحياة ، الشهادة التي تستمد روحها وأدواتها من الرسالات السماوية الخالدة التي ختمتها رسالة الإسلام التي وحدت الله في ملكه وملكوته .وإذا شئتم اسألوا رواد دور العبادة في الشرق وفي الغرب ، سواء منها المسيحية أو اليهودية ، ماذا يشغل الأحبار والقساوسة اليوم ، هل هي حالة الشعوب المسحوقة تحت طاحونة الاستبداد ، هل هي الجموع الغفيرة من المهجرين بغير حق ، هل هم اللاجئون المتدفقون إلى أوربا هروبا من الإبادة الجماعية ، هل يخيفهم الدب الروسي أو التنين الصيني ، اسألوهم عن أحداث 11 سبتمبر 2001 ، ماذا كسب الغرب من ورائها ، وماذا جنت البشرية عقبها ؟ هل تحررت شعوب العالم المتخلف من ربقة الاستبداد ، أي مساحة من الحريات اكتسبتها تلك الشعوب ، هل فعلا كانوا ديمقراطيين ، ويسعون من أجل دمقرطة الحياة العربية ، كيف تعاملوا مع نتائج الانتخابات في حدود الحيز العربي شرقا وغربا نهاية القرن العشرين وبداية القرن الذي تلاه ؟ ماذا أعطوا من ليبراليتهم التي لبست ثوب الديمقراطية ، للشعوب التواقة إلى الحرية والأمن والأمان ؟ وفي هذا الخضم بالذات يمكن أن نتساءل عن العرب والمسلمين من طنجة إلى جاكرتا ، أقول هذا في نطاق التموقع على مستوى الدولة الوطنية الحديثة والقوميات التي فقدت كثيرا من بريقها ، أي مرجعية حضارية لهذا الحيز الكبير ، هل تسمعون لهم من صوت ، وهل تميزون لهم من صورة ، أي موقف ، وأي وجهة نظر تحسب لهم في خضم الأحداث التي يمر بها عالم اليوم ؟ من يجتهد لفائدة هذا المحور ، من يسعى لتحريره من دائرة الاستبداد ، من يهمه مستقبل شعوبه وأعراضهم وأرواحهم ، من يسعى إلى توحيد كلمتهم ؟ ما هي الأفكار التي تشوه وجهتهم من يرعاها ، ولماذا يسعى إلى استنساخها ؟ أي نوع من أنظمة الحكم القائمة تعبر فعلا عن تطلعات شعوبها إلى الحرية والأمن والأمان ؟

يقول الدكتور عزمي بشارة ، في الوقت الذي يتساءل المرء عن هدف بحثه الذي تمحور أكثر حول فكرة اليمين الشعبوي داخل أوربا وأمريكا : ” تجمع بين الحركات اليمينية الجديدة في أوربا والولايات المتحدة خمسة عناصر أساسية متداخلة ، هي :

*العداء للنخب والمؤسسة ، وتحديدا لغة اللياقة السياسية ، وثقافة الليبرالية ، وفي الحقيقة تصوغ هذا الخطاب المعادي للنخبة الثقافية وتأثيرها السياسي نخب اقتصادية وثقافية أيضا بنبرة العداء الشعبي للمؤسسة الحاكمة ، وتستعين في عملية الصوغ بعناصر يمينية متطرفة كانت دائما من خارج المؤسسة.

*العداء للعولمة والتجارة الحرة ، بوصف الوطن هو الخاسر منها ، والمستفيد هو الأجانب ، والآخرون الذين يريدون أن يفرضوا إرادتهم . يأتي هذا العداء غالبا مع نزعات حمائية اقتصاديا ، تؤيدها فئات من اليسار أيضا لأسباب مختلفة .
*مخاطبة خوف الناس من الهجرة الوافدة وموجات اللاجئين.

*مخاطبة المشاعر القومية وخوف الناس من ضياع هوية بلدانهم عبر التعددية الثقافية ، وفقدان السيطرة الذكورية البيضاء بسبب تمكين المرأة والأقليات وغيرها.

*الإسلاموفوبيا وربط الإسلام بالإرهاب . والمثير أن فئات كانت معادية للسامية في الماضي استبدلت موقفها هكذا بكراهية الإسلام والمسلمين.

ولا تتردد هذه التيارات في نشر موقف شعبوي معاد للسياسيين عموما ، وغالبا ما يمارس العداء للسياسة والسياسيين موقفا معاديا للديمقراطية ، أما في حالة الفوز في انتخابات ، فغالبا ما تعبر هذه التيارات الشعبوية عن نفسها في مقاربات أكثروية  شعبوية مناهضة لتدخل المحاكم الدستورية في الحياة السياسية لحماية المبادئ الديمقراطية الليبرالية حتى بعد فوز اليمين في الانتخابات ، فتصور المحاكم وكأنها تفرض قيم الأقلية على الأكثرية . هنا ترتدي الشعبوية أقنعة ديمقراطية في الدفاع عن السياسة والسياسيين في صراع مع قيم الليبرالية التي تتولى المحاكم الدستورية الدفاع عنها ” .ص 9 ـ 10.

أولا القول بوجود عداء للنخب والمؤسسة ، أي للنخب الثقافية والسياسية الحاكمة ، مصدره نخب اقتصادية وثقافية لكن بنبرة شعبوية ، هذا الطرح لا ينفي وجود حاضنة شعبية وراء النخب الحاكمة ، كما لا ينفي أيضا أن النخبة الحاكمة لها باع قوي في عالم الاقتصاد ، بل هي صاحبة الكلمة الفصل في دائرة جماعات الظل ، إن التنافس بين دوائر المال والأعمال داخل السوق الرأسمالية الغربية ليس وليد اليوم ، أما مسألة الصراع الداخلي فالنخبة الثقافية بالنسبة للمحافظين ، لم تغب يوما عن التأطير والتوجيه بنظرة ليست بريئة بالمرة فيما تعلق بالعرق واللون ، وحتى الجنس ، كل ذلك من أجل المحافظة على التفوق والسبق اقتصاديا وسياسيا .أما ما تعلق بالسياسة الخارجية للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا ، فإن القول بالثقافة الشعبوية بعيد كل البعد عن الحقائق ، ذلك أن النخبة بالنسبة لمسالة الصراع مع الخارج تعتمد على الخبرة في مجال البحث والدراسات المعمقة داخل الحرم الجامعي ومراكز الدراسات التي أثبتت جدارتها ، فلا مجال في هذه المسائل للارتجال ، وما هو شعبوي ، لكن يبقى دائما أن من سمات التصور الغربي عموما هو عقدة التفوق والاستعلاء.

يقول الدكتور عزمي بشارة : ” تنظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا إلى انتشار الديمقراطية بوصفه تمددا للحضارة الغربية ، وأداة لهيمنة الغرب . وهذا يعني باختصار أن من يتبنى نظرية صراع الحضارات حاليا على المستوى الدولي هو هاتان القوتان العظميان ، وبخاصة روسيا . وربما لو كان هنتنغتون حيا لصدم من الفكرة التي أقدمها الآن ، وهي أن صراع الحضارات أصبح مذهبا روسيا وصينيا في العلاقات الدولية . ولو فكر مليا لوجد الأمر منطقيا . ففي الولايات المتحدة تبنت نظريته عن صراع الحضارات قوى يمينية قومية محافظة تؤمن بسياسات القوة في العلاقات الدولية ، وهي بالضبط القوى التي تؤمن بهذه العقيدة السياسية وتحكم روسيا في المرحلة الراهنة ، إنها قوى قومية روسية يمينية محافظة . وهذه أيضا حال الصين وإن بنمط أداء اقتصادي سياسي مختلف ، وطموحات مختلفة على المستوى الدولي ” . ص 9 . المسألة الأولى ، هي أن هنتنغتون لو كان حيا واستمع للدكتور عزمي بشارة وهو يحاضر أمام نخبة من طلبة إحدى الجامعات الأمريكية بخصوص صراع الحضارات ، يمكنه فقط أن يقف على مدى الغموض في مقاربة مسألة الصراع هذه ، خصوصا حين يضم الدكتور بشارة الصين إلى روسيا وكأن مسارهما واحد ، ثم يجعل من روسيا الجهة الأساس في مسألة هذا الصراع ، رغم أن الدكتور يعود بسرعة ليقدم روسيا في صورتها الراهنة التي لا تختلف كثيرا عن توجه اليمين ، أو القوى اليمينية القومية داخل أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ، هذا هو الطرح السليم ، أي أن اليمين من حيث نظرته لمسألة الصراح الحضاري هي نظرة واحدة ، إلا في بعض التفاصيل أو ما يمكن تسميته بالتفاصيل الإجرائية ، لا أكثر ، وإن اختلف القوم ، فذلك لا يعدو اختلافا ضمن التنافس في حدود المنافع التي يحكمها الهلع والجزع الذي يسكن نفوسهم على الدوام ، ولذلك فالقوى اليمينية ، سواء في حدود الغرب الرأسمالي وعلى رأسه الولايات المتحدة ، أو روسيا اليوم ، هي طرف واحد في مسألة الصراع الحضاري الذي تحدث عنه هنتنغتون ، الذي لو كان حيا لرفض التقسيم الذي أتى به الدكتور بشارة . أما الصين فهي قوة اجتماعية واقتصادية ، لا تخيف الغرب الرأسمالي في مسألة صراع الحضارات ، ولكن الذي يخيفه هو مسألة ملء الفراغ ثقافيا وعقائديا داخل حدود المجتمع الصيني ، لأن الغرب يراقب هذه المسألة على مستوى مراكز البحث المتقدمة كثيرا ، وإذا كان قد اطمأن ثقافيا بخصوص اليابان وكوريا الجنوبية ، إلى حد ما ، فهو لم يطمئن بعد بخصوص الصين . وإذن فالطرح الذي ذهب إليه الدكتور عزمي بشارة محكوم إلى حد بعيد بمسألة البعد الأيديولوجي ، وليس البعد الثقافي الحضاري وفق رؤية صموئيل هنتنغتون .لقد سبقت أطروحة هنتنغتون ، أطروحة فرانسيس فوكوياما تحت ما سماه ـ نهاية التاريخ ـ التي بشر من خلالها الغرب الرأسمالي بانفراده بالريادة في العالم وانتصاره ، أو تفوقه على كل القوى الأخرى ، غير أن رؤيته لم تدم طويلا ، ليس أكثر من خمس سنوات ، الإنسان في الغرب كثير القراءة ، حتى وإن كان يعاني من عقدة التفوق والاستعلاء ، ويسكنه دوما جزع غير مبرر ، الغرب بسرعة تخلى عن طرح فوكوياما غير المقنع ، واصطفت نخبه الفكرية ونشطت في مقاربة ما جاء به هنتنغتون بخصوص صدام أو صراع الحضارات ، من خلال ربط الماضي بالحاضر واستشراف المستقبل ، فإذا ركزنا قليلا ، ولم تخنا ذاكرتنا ، فإننا ندرك ، لا محالة ، أن خيطا دقيقا يفصل حركة ومنشط ترامب عن حركة ومنشط جورج بوش الأب ، وأن الساسة الغربيين عموما ، يولون أهمية لمراكز البحث ، ويبتعدون في مسألة ما يرونه ضمن صراع الحضارات عما يسميه الدكتور بشارة ـ شعبوية ـ . إذا كان الأستاذ بشارة يقر بوجود صراع بين ثقافتين داخل حدود الغرب والولايات المتحدة ، على وجه الخصوص ، ولو أنه أشار إلى ذلك كفرضية من بين ثلاث فرضيات ، وعاد بسرعة ليؤكد ذلك بين النخبة والمؤسسة الحاكمة من جهة ، وبين نخب اقتصادية وثقافية ذات بعد شعبوي معاد للمؤسسة الحاكمة ، فإن ذلك لا يفسر ، كون الصين وروسيا هما من يتبنيان اليوم صراع الحضارات.

صموئيل هنتنغتون بروفسور ومفكر وباحث ، خصوصا في جامعة هارفارد ، لـ 58 عاما ، تخرجت على يده نخبة من العلماء والباحثين الذين يجتهدون اليوم في تتبع مسار أطروحته حول صدام الحضارات ، وهم متؤكدون كثيرا أن الاختلاف الأديولوجي بين اليمين واليسار لم يعد مشكلا اليوم ، وأن المسألة باتت من الماضي القريب ، وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية ونهاية تسعينيات القرن الماضي . تمحورت أطروحة هنتنغتون حول صدام مرتقب ، أو صراع جامع وشامل ، وكأنه يتوقع قيام حرب عالمية ، أو صدام من نوع خاص يشغل شعوب العالم جميعا . مراكز البحث داخل أوربا والولايات المتحدة ، بعيدا عن اهتمامات العرب وحضورهم ، اشتغلت كثيرا على ما يمكن تسميته ” إمكانية تجنيب ” ( الغرب ) أضرار صدام الحضارات ، ومن ثمة ، كيفية ضبط حدود أرض المعركة ، والتأكد من إبعاد المخاطر قدر الإمكان ، من خلال الزج بقوى غير غربية داخل أرض المعركة ، أو المحرقة ، حفاظا على القوة الغربية قدر الإمكان الوقت مهم بالنسبة للغرب قصد التحكم في مسار الصراع . لقد بنى هنتنغتون أطروحته ، بعد فترة الحرب الباردة والنجاح في تفكيك الاتحاد السوفييتي ، ليس من منطلق أيديولوجي ، أو حتى قومي ، أو اقتصادي ، ذلك أن اليسار الذي لبس ثوب اليمين أكثر من اليمينيين التقليديين ، هم جميعا داخل المنظومة الغربية الرأسمالية ـ بمباركة من الفاتيكان ـ لم يعد بينهما بخصوص وجهات النظر حول الصراع أو الصدام فاصل ، خصوصا أن الموجه للصراع اليوم هو الغرب الرأسمالي ذاته . وخلفية الصراع بالنسبة لهنتنغتون وقطاع واسع من النخبة داخل حدود الغرب، ثقافية ودينية ، وطغت هذه الخلفية على وجهة النظر السياسية والعسكرية ، وأنتج ذلك رأيا عاما واسعا داخل أوربا والولايات الأمريكية واليابان ، نتج عن ذلك تفضيل رجل اسمه ترامب عن امراة اسمها كلنتون ، لأن هذه الأخيرة لم تصل إلى التهدئة من خوف الكثيرين من آثار الصراع المرتقب ، خصوصا بعد أن تأكد الغرب من عدم جدوى أطروحة فوكوياما فرانسيس ( نهاية التاريخ ) التي تبنت فكرة عالم يقوده الغرب الليبرالي الرأسمالي من دون منازع ، جوهر ” العولمة ” التي اختفى بريقها بسرعة . لا أدري كيف خفي مثل هذا عن الدكتور عزمي بشارة ، أو لعل الدكتور يخفي ، أو هو لم يفصح عن حقيقة وأبعاد ما يحدث اليوم ، خصوصا حينما يقول : أن صراع الحضارات أصبح مذهبا روسيا وصينيا . إن مثل هذا الطرح لا يصح ، إلا إذا صنفناه من قبيل الدعاية من باب التدليس على حقيقة ما هو مخطط  فعلا بغرض الإمعان في تنويم قطاع واسع من عالمنا العربي والإسلامي ، إضافة إلى كثير من الشعوب الآسيوية التي لا تتوافق ثقافيا وعقائديا مع ثقافة الغرب ومن ورائه رؤية الفاتيكان لعالم اليوم والمستقبل. ألم يصدر مجمع الفاتيكان الثاني قراره المجمعي سنة 1962 بغرض العمل على تنصير العالم ، لقد وعد أتباعه بذلك ، وفرض مثل هذه المهمة على جميع كنائس العالم ، بل اعتبرها من أوجب الواجبات ، واقترب أكثر من ساحة السياسيين داخل أوربا وأمريكا قصد تذليل العقبات ،إن وتيرة الأحداث التي تلت مسرحية وسيناريو 11 سبتمبر 2001 ، لم تعجب الدوائر الغربية التي تراقب مسار الصراع الذي تحدث عنه هنتنغتون صموئيل ، سواء تعلق الأمر بغزو العراق ، وحصار إيران ، وإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي والطائفي داخل حدود العراق ، ولاحقا ، فك الحصار جزيئا عن إيران تحت غطاء الاتفاق النووي ، وإفشال مقاربات النظام الديمقراطي داخل حدود العالم العربي ، على وجه الخصوص ، وتحديدا ما تعلق بكل من المخاض الجزائري والمصري ، كل ذلك لم يأت بما كان متوقعا ، بمعنى أنه لم يشف غليل الدوائر المخبرية الغربية التي تراقب كل صغيرة وكبيرة، لذلك وجب تغيير بعض الخطط وبناء سيناريوهات جديدة ، والبداية من خلال ضبط أرض المعركة ، أو المحرقة من جديد التي هي أرض الشام وما يتبعها ويتناسب معها ، سواء تعلق الأمر بالعراق أو اليمن ،وحتى شمال إفريقيا ، المسلمون وحدهم هم من يجب إفناءهم ، ليس على أرض الغرب ، بل على أرض المسلمين ، والمجازر بحق السوريين والعراقيين وحتى اليمنيين ، ليست ببعيدة . لقد أبرم الغرب الاتفاق النووي مع إيران ، وقبل ذلك ساعدوا العراقيين طائفيا على التموقع ، ساعدوا الشيعة على الوصول إلى سدة الحكم بدعم أمريكي وفرنسي ، على وجه الخصوص ، ( تسليح ، تدريب … ) ، وعملوا على إذكاء نار الصراعات المصطنعة داخل بعض البلدان العربية ذات التوجه السني ، مثل ليبيا ومصر وسوريا ، كان يهمهم كثيرا البعد الطائفي والعرقي أحيانا ، ولم يعجبهم الهدوء داخل الجزائر ، وساعدهم على ذلك طبيعة الأنظمة الخليجية ، وتحديدا ، المملكة السعودية ، والإمارات المتحدة ، فكيف بالإمارات المتحدة التي كان بإمكانها أن تكون سويسرا العرب ، أقحمت نفسها في الشأن المصري والليبي ، وكان بإمكانها البقاء بعيدا ، خصوصا لما شاركت بعض مقاتلاتها في قصف بعض المواقع على الأرض الليبية . إسرائيل اليوم أكثر تفاؤلا بما يجري ، وهي تترقب المزيد ، خصوصا أن ( الغرب) سيحاول التعامل باحترافية مع الصراع لاحقا ، لاحظ كيف يشغلون العرب والمسلمين بمسألة الاستيطان ، وكأن الفلسطينيين في نظر الدول العربية ، لم يعد لهم من مشكل مع شيء اسمه الاحتلال ؟ إن ما قامت به روسيا على أرض الشام ليس سوى ضمن خطة الغرب لإدارة الصراع ، بعيدا عن كل شعبوية واستئنافية فكرية ، فإذا كان الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة ، لم ينخدعوا بأطروحة فرانسيس فوكوياما ( نهاية التاريخ ) التي تنبأت قصورا بحتمية انتصار الغرب الليبرالي الرأسمالي وتفرده بقيادة العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، واقتنعوا ، وخصوصا ساستهم المغامرين ومن ورائهم الفاتيكان ، بأهمية أطروحة هنتنغتون صوموئيل ، فإن العرب والمسلمين غارقون في أوحالهم الطائفية وأفكارهم الميتة والقاتلة ، والنخبة ( المثقفة ) لا يهمها سوى الظل الذي لم يعد يقنع أصحاب الأموال الطائلة التي أفرزت الكثير من اللعاب لدى الدوائر الغربية المفلسة.

واليوم ، وبعد انتخاب دونالد ترامب ، ماذا تغير ، هل غير الغرب أفكاره ، هل هناك ما يبطل أطروحة هنتنغتون وتأثيرها على مراكز البحث داخل أوربا والولايات المتحدة ، ويهدئ ولو قليلا من هلع أمثال جورج بوش وترامب ؟ لا بديل ، لم تتغير القناعات ، ولم يهنأ بال خبراء السياسة والحرب والسلم والاستشراف ، الجميع منكب على الدراسة والبحث . أما ما يسوقونه للعالم العربي والإسلامي ، هو أن المسألة ، لا تعدو هفوة ارتكبها الأمريكيون داخل ولاياتهم المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية التي أتت برئيس اسمه دونالد ترامب ، ماذا لو وضعنا ترامب إلى جانب بوش ، ما الذي تغير في السياسة الأمريكية ، أكاد أجزم : أن أطروحة هنتنغتون والتعامل معها على مستوى مراكز البحث هي التي أفرزت هذه النتيجة ، وليس الشعبوية التي تحدث عنها الدكتور عزمي بشارة ، إن عملية الشحن ضد كل ما هو إسلامي ، وربط الأعمال الإرهابية بالإسلام ، أو الانتماء الإسلامي من طرف الجهات الرسمية في الغرب ، هي التي هيأت الأجواء داخل أوربا والولايات المتحدة لتمرير مثل هذه المشاريع ، وتصوير شخص مثل ترامب بالسياسي المشاكس وربما المغامر ، حتى يظهر للناس ، وخصوصا الرأي العام العالمي أن المسألة لا تتصل بسياسة الغرب ونخبته التي تقف وراء مشاريعه الآنية والمستقبلية بخصوص إخضاع العالم . يصورون لنا ترامب وكأنه نزل من كوكب آخر غير الأرض ، مع أن الرئيس المنتخب أمريكي وابن أمريكي من العائلة الأمريكية الواسعة المحافظة ، لم يستقدموه من أحياء السود الفقيرة ، ولا هو آت من أرض اسمها المكسيك ، إنه محافظ وابن محافظ ليبرالي رأسمالي جرب كثيرا الإفلاس في عالم المال والأعمال ، فما بالكم اليوم مع عالم السياسة ؟ فهو الشخص المناسب اليوم لإجراء عمليات تجميلية للعرب ، وتحديدا بعض الأنظمة ، الملكية على وجه الخصوص ، وجلب المزيد من الأموال ، لذلك فهم يريدونه ظلا لأنظمة قائمة ، لم تعد تقنع الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة بأدائها مع الشعوب الإسلامية المستضعفة والمسحوقة أصلا ، لم يكف الغرب المحرقة في بلاد الشام ، ماذا يريدون أكثر ؟ يجب أن يكون الثمن أكبر ، لذلك فكلام دونالد ترامب عن روسيا وبوتين ، ليس من قبيل اختيارات ترامب ، أو بناء على أهواء الرئيس ، إتباع الأهواء غير مسموح به ضمن ما هو من سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الخارج ، مراكز البحث ، المدعومة من اللوبي الصهيوني والفاتيكان ، اليوم ، غير مطمئنة على مسار عملية الصراع أو الصدام ، خصوصا بعد فشل العملية الانقلابية ضد تركيا ، التي كانت تهدف إلى خلط الأوراق أكثر ، التي كان ينتظر مباركتها من قبل الكيان الصهيوني وبعض الأنظمة العربية بالدرجة الأولى ، ليستلم السلطة الانقلابيون ، المعول عليهم كثيرا ، خصوصا فيما تعلق بتنويم العرب والمسلمين ، وإشغالهم أكثر بالصراعات المصطنعة وتطعيمهم ـ إذا صح التعبيرـ بمزيد من الأفكار الميتة والقاتلة ، ليس إمعانا هذه المرة في استمرار قابليتهم للاستعمار ، وإنما إمعانا في قابليتهم للفناء بواسطة محرقة تلو الأخرى لا تبق ولا تذر ، ومن بقي منهم ينبغي أن يكون فيه قابلية للإستعباد لم يسبق للبشرية أن عرفتها . لقد انتظر الغرب كثيرا تركيا كي تنجر إلى ساحة المعركة وفق الأجندة المعدة سلفا ، ومن ورائها الدول الخليجية برمتها ، لا شك أنكم تذكرون يوم أبدت المملكة العربية السعودية استعدادها لإرسال طائراتها إلى قواعد تركية وحتى قوات برية ، يمكن أن تشمل جنود التحالف العربي ، أو الإسلامي الذي ترأسه السعودية في نزاع اليمن ، وكان يراد أن تشتبك تركيا ومن ورائها عرب ومسلمون ـ سنة ـ مع إيران  ومن ورائها عرب ومسلمون ـ شيعة ـ فتشتعل نار الحرب الطائفية أكثر وتحرق الأخضر واليابس على حد سواء ، ما كان متوقعا ومخططا له لم يحدث والحمد لله ، تركيا ـ دون ريب ـ تفطنت وفوتت الفرصة على المتربصين الذين اغتاظوا كثيرا . أما وأن تركيا لم تمتثل ، وهي اليوم لها مسارها الخاص بها في مسألة الصراع ، ويراها الغرب الليبرالي الرأسمالي عقبة في طريق مساره الخاص به ، ينبغي حسب ( الغرب ) إجراء بعض التغييرات ، ليس بخصوص أرض المعركة ، ولكن بخصوص العلاقة مع إيران وتركيا . لن أسترسل بعيدا ، أترك  هذا للمستقبل ، لا شك أن كلا من تركيا وإيران ، له مشروعه بخصوص الصراع القائم ، وله دوائر بحث ودراسات ، والحاضر الغائب هم العرب ، لكن الخوف أن تنخدع كل من تركيا وإيران بمسرحية الغرب اليوم تحت عنوان ـ ظل دونالد ترامب وأضاليله ـ من ،من العرب والمسلمين يحتمي بظل دونالد ترامب وينخدع بأضاليله ، التي ليست سوى أضاليل السياسيين المغامرين في حدود الغرب الرأسمالي الذي لا يهتم سوى لهلعه وجزعه ومنعه منذ مئات السنين ؟

فلسفة المجتمع المنغلق

وحتى دعوة دونالد ترامب لبناء جدار يفصل بين الولايات المتحدة والمكسيك ، أو يحد من هجرة أو دخول المكسيكيين إليها ، لا تفسر ما ذهب إليه الدكتور بشارة وسماه ثقافة قومية منغلقة ، ثقافة ، أو رؤية المجتمع المنغلق ، والأخلاق المنغلقة ، بذورها من صميم فلسفة الذين أقاموا المجتمع الإسرائيلي على أرض فلسطين المغتصبة ، والانغلاق هنا الغاية منه التفرغ لإدارة عملية الصراع بعيدا عن الديار ، حفاظا على المجتمع المغلق ، أو المنغلق ، ومن ثمة فإن الأمريكيين كمجتمع ، لم يعرفوا مثل هذه الأفكار ، ولم تتحدث نخبهم بمثل هذه الفلسفة . يقول الدكتور عزمي بشارة : ” وتنتشر ثقافة القومية المنغلقة الإثنية غير القائمة على المواطنة في أوربا والولايات المتحدة لدى البالغين ممن يقارنون الوضع الحالي بمراحل سابقة . لقد كانوا يملكون البلاد . ومع زيادة أعداد المهاجرين المسلمين في أوربا ، وأولئك من غير البيض البروتستانت في الولايات المتحدة الأميركية ، يتفاقم الشعور بأن هذه البلاد ، كانت بلادهم ، وسلبت منهم . هنا تبرز بقوة مسألة العلاقة بين مركبات هوية الجماعة القومية وهوية الدولة ” . ص 13 . إن المقدمات التي انطلق منها الدكتور ، خصوصا ما تعلق بفكرة الانغلاق ، لا تتوافق مع النتائج التي توصل إليها بخصوص الهجرة إلى الولايات المتحدة ، لأن الدكتور لم يذكر السبب الرئيس من تخوف النخبة على مستوى اليمين القومي من المسلمين ، هل لأن المسلمين ، وتحديدا المواطنين الأمريكيين المسلمين ينافسون المحافظين الليبراليين الرأسماليين ، اقتصاديا ، ويشكلون عليهم خطرا في سوق المال والأعمال ؟ هل لهم إيديولوجية تتهدد إيديولوجية الغرب الليبرالي الرأسمالي ؟ ما يقلق النخبة على مستوى اليمين المحافظ ، هو الجموع الغفيرة من الأمريكيين والأوربيين الذين اعتنقوا عقيدة التوحيد ، وغسلوا أيديهم من التثليث وكل شرك بالله عز وجل ، خصوصا تسعينيات القرن العشرين ، ألم تظهر أطروحة هنتنغتون صموئيل نهاية التسعينيات ، بعد التأكد من بطلان أطروحة فرانسيس فوكوياما فيما سماه ـ نهاية التاريخ ـ إننا في حدود العالم المتخلف ـ تحت وطأة ـ القابلية للإستعمار نتعامل ، للأسف الشديد ، مع الأفكار ، كما يتعامل الكثير منا مع كأس القهوة ، أو الشاي . من هم أكثر القوميات داخل المجتمع الأمريكي ، تهتم لبعدها الثقافي والحضاري ، وانتمائها إلى أمة بعينها ، وتهتم أكثر لبعدها العقائدي ، وتضع مسألة المواطنة في المرتبة الثانية ، دون أن ترفع لذلك شعارا ، أو حتى تهتم بالجانب الخطابي ؟ لماذا يستهدف المسلمون ، هذه الأيام ، في كندا ، وفي بيت من بيوت الله يؤدون الصلاة ؟ عملية إرهابية نوعية ، كان بالإمكان أن تحدث بفرنسا ، والمنفذ فرنسي الأصل ومتدين أو حتى داخل الولايات المتحدة الأمريكية ، لماذا تحديدا بكندا ؟ من هنا يمكننا فهم فكرة الانغلاق ، ومسألة الانفتاح ، وعلاقة ذلك بفكرة صدام الحضارات التي تشغل بال النخبة في حدود الغرب الليبرالي الرأسمالي أكثر.

 تتابع الدكتورة زينب عبد العزيز تذكيرها للمسلمين بخبايا خطط الفاتيكان ، فتقول في مقالة نشرت يوم 16 فبراير 2017 عبر منبر حر ـ معهد الهوقار ـ جنيف ـ تحت عنوان : تبشير المسلمين في فرنسا : ” تحت عنوان يقول : ( يسوع المسيح ، إعلان النبأ السعيد للمسيح للمسلمين ) ، وهي الصياغة الملتوية لقول ( تنصير المسلمين ) ، أقيمت في مدينة ليون بفرنسا يومي 4 و 5 فبراير 2017 ندوة تتخللها حلقات نقاشية امتدت طوال اليومين ، تناولتها الجرائد الفرنسية والكنسية تحت عنوان واحد له مغزاه : تبشير المسلمين : زمن الحصاد قد حان . وهو العنوان الذي أسفل صورة مبنى الكنيسة .. أي أنهم يحصدون نتيجة ثمار تبشيرهم بدخول المسلمين دينهم القائم على الشرك بالله … ” إلى أن تقول : ” وهذه الندوة هي ثمار دورات تعليمية تدريبية تقام طوال العام ، بدأت منذ عشر سنوات يتعلمون فيها كيفية التعامل مع المسلمين وكيفية تفنيد القرآن الكريم وتكذيبه في كل ما يتعلق بكشفه التلاعب الذي تم في المسيحية بكل دقة من شرك بالله عز وجل أو من تحريف للنصوص . وتنتهي هذه الدورات التعليمية ، القائمة على الغش والتلاعب ، بذلك اللقاء الذي يسهم فيه أحد من تم تنصيرهم . ويقول جي ستريمدورفر أحد هؤلاء : ّ نحن لسنا في معركة صليبية ، وإنما في طريقنا إلى الأمان ، والأمر يتعين علينا أن نتعرف على الآخر ونتقبله كما هو لنقوده إلى الأمن والإيمان .. إنهم ليسوا فريسة نقتنصها ّ .. أي إن الأمن والأمان بات في المسيحية بعد أن تم تشويه صورة الإسلام باختلاقهم منظمات داعش وتدعيم الغرب الصليبي المتعصب لها بالسلاح والمعدات والتدريبات اللازمة ، بعد القيام بعمليات برمجة لعقولهم .. وما أكثر ما بات يفضحهم من كتابات دامغة .. والجدير بالذكر أن تقام هذه اللقاءات وخاصة الأخيرة منها بتضافر جهود كاثوليك وبروتستانت ، تطبيقا لقرار توحيد الكنائس .. فعلى الرغم من انقسام الكنائس المسيحية إلى 349 كنيسة مختلفة عقائديا ، إلا أن البابا يوحنا بولس الثاني قد طالب بتوحيد الكنائس ، تنفيذا لأحد قرارات مجمع الفاتيكان الثاني ، لكي يتصدوا للمد الإسلامي ( راجع كتاب السياسة الجغرافيا للفاتيكان ) .. والغريب أن يقوم باباوات ما بعد المجمع بحث المسيحيين على تنصير المسلمين مستخدمين لأتباعهم عبارات  ّلا تخافوا ّ.. ّ لا تخشوا شيئا ّ. ولعل تلك الرهبة الدفينة التي تدفعهم إلى استخدام مثل هذه الكلمات هو إدراكهم للجرم الذي يقترفونه بفرض الباطل الذي يفر منه الأتباع حتى باتوا يلقبون ذلك الخروج من المسيحية بعبارة : ّ النزيف الصامت للكنيسةّ .. ” انتهى كلام الأستاذة.

المسلم المدرك لمهام رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين ، لا يضيق بمسيحية النصارى ، ولا بيهودية اليهود  ولكنه يضيق بشرك الناس بالله عز وجل ، سواء كان بعبادة الأصنام ، أو تثليثا ،أو إتباع الأهواء ، المسلم يوحد الله ، فيحب أن يوحده الناس من دون دجل أو إكراه ، لا يرى فاصلا بين الإنسان وخالقه ، لله أنبياء ورسل وحدوه ، ورسموا مسار التوحيد الذي لا غبار عليه ، المسلم لا يفرق بين رسل الله لأنهم جميعا عباده موحدون ، ويعبدوه دون سواه ، هل هذا الذي يضيق به صدر الفاتيكان ، إذا كان ولا بد من مهمة تنويرية يضطلع بها الفاتيكان اليوم ، فليعمل على توحيد نصوص الأناجيل المتضاربة ، ويجتهد لتوحيد عقائد 349 كنيسة مختلفة عقائديا ، أما أن يضيق بالمسلمين لأنهم يوحدون الله ، وما أكثر الأوربيين والأمريكيين بيضا وسودا توحدوا لأنهم فقط وحدوا الله ، فإن جهودا تهدر وأموالا تسرف من غير طائل ، نسأل الله لنا ولهم الهداية . إذا كان ولا بد أن تضيق صدورنا ، فليكن ذلك بسبب إبادة الناس ظلما ، وترويع الآمنين جورا، وتزوير حقائق التاريخ مكرا، والاستعلاء على خلق الله جحودا.

لسنا بحاجة لمتابعة تحليل الدكتور عزمي بشارة ، لأنه لم يصل إلى بيان الأسباب ، أو الدوافع الواقعية التي أدت إلى انتخاب دونالد ترامب ، ولا حتى إثبات طبيعة شعبية الرئيس المنتخب ، سوى الدوران بين ما يسميه صراعا بين ثقافتين ، أو معسكرين غير منسجمين ، لم ينجح في تحديد ملامحهما كفاية ، خصوصا حين يقول : ” الشعبوية خطاب سياسي مرتبط غالبا بأيديولوجيا سياسية معينة ( يسارية أو يمينية أو علمانية ) ، ولكن العلاقة بينهما مركبة كما أسلفنا . فالشعبويون غالبا أقل التزاما بالأيديولوجية ويبدون براغماتية ومرونة إذا لزم .”  ص 18 . وقوله : ” ويحتاج المرء إلى صبر ليتابع تقلب تصريحات ترامب بشأن فلسطين من تأييد ما يسمى ّ عملية السلام ّ والتحمس لها ، وادعاء القدرة على الحياد في الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين حتى خطابه أمام إيباك وإعلانه أن المستوطنات ليست عقبة أمام السلام ، وانه سوف ينقل السفارة الأميركية إلى القدس اعترافا منه بالسيادة الإسرائيلية عليها ” . ص 18 ـ 19 .

حقيقة إن تجارب الغرب الليبرالي الرأسمالي متنوعة من خلال مراكز البحث والدراسة ، كيف ينتقلون بيسر داخل حلبة الصراع الحضاري ، ها هم اليوم وبسرعة لم يتوقعوها ، هم أنفسهم ، ينجحون في خلط الأوراق من جديد ، وكأن الذي حدث للبشرية من ترويع وحرق وقتل وتشريد ، لا دخل لهم فيه ، ليصنعوا للبشرية تمثالا من نوع جديد ، ليس لراحل فارق الحياة ، بل لرجل له روح وظل ، وحملوه فوق ذلك أضاليل الغرب كلها ، وقدموه للذين يبحثون لهم عن ظل ، وعن مهدئ لمن ضل الطريق ، خصوصا إذا كان هذا الضال للطريق نظاما يائسا من شدة أعباء الاستبداد ، لا أخال الحيلة تنطلي على خبراء الغرب الذين يدركون حتمية فناء حضارة قامت على إبادة البشر ، وطمس القيم ، ولم تتفطن بعد وتقنع أن الظلم مؤذن بخراب العمران ، لا أخال الغرب يخلوا من مفكرين يهتدون إلى قراءة متأنية في مسألة  ّ صدام الحضارات  ّ ، البشرية تكره كل صدام ، هل من ثورة على مستوى النخب الحية داخل أوربا والولايات المتحدة الأمريكية ، ليس لتضليل الناس أو التدليس عليهم ، فقد ملوا من تزوير الحقائق، هم في حاجة إلى إعادة قراءة لأطروحة  ّ صدام الحضارات  ّ مع الأخذ في الاعتبار قاعدة : ّ الظلم مؤذن بخراب العمران  ّ ، لم يقلها ابن خلدون من فراغ ، إذا كان ولا بد ، فلنتعاون من أجل إعادة الروح لدور ورسالة الإنسان الحر في بداية قرننا الجديد ، ونحن ننطلق من أن الإنسان الحر ، هو الإنسان الذي اهتدى إلى توحيد الله ، ونزه الخالق عن كل شريك ، الإنسان الحر هو الذي يقف حدا فاصلا بين نافية  ّ الأنا ّ ونافية  ّ الآخرين  ّ ، مثل هذا الإنسان الذي يعطي طينته وجبلته حقهما ، ولا يسرق من الوقت روحه ، فيحيلهما إلى جثة من دون روح ، إن فيلسوف الحضارة ، مالك بن نبي ، لم يضبط عقارب ساعته ، ليجعل من المسلم عند نهاية القرن العشرين آلة ، ينتظرها صاحبها كي تعطيه ما يريد ، لقد نبه إلى عامل الزمن وأهميته بالنسبة للذين ينتظرون على قارعة الطريق وقد أعيتهم وأنهكتهم الأضاليل ، ولم يهمل أبدا طبيعة الإنسان الذي ينبغي أن يشحن الزمن بما يحتاجه من روح ، الإنسان الذي يدرك معالم الطريق حينما يعي ما يقرأ ، وهو يقرأ قول الله عز وجل : ” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ” . الآية 55 من سورة طه . إن الذين يقدرون الأزمنة في غياب حضور الإنسان هم الذين صوروا للناس أن مالك بن نبي قد أخطأ في مقادير الأمور ، وأنها لا تعدو زلة  مفكر أخطأ في مسألة التقدير ، إن مالك لم يهمل أبدا عامل الحضور والغياب ، فأنت حاضر اليوم بين الناس ، ولكن حضورك هذا قد يكون غيابا ، أي حضورك يساوي غيابك ، هل حضورك مثل حضور قائد عظيم اسمه عقبة بن نافع يوم شهد شهادته بين الناس . أو حضور ملك من ملوكنا اليوم كحضور عظيم اسمه عمر ابن عبد العزيز شهد شهادته بين بني أمية ، ولذلك فإن الذي اهتم له الأستاذ مالك هو تنبيه المسلم وهو يقترب من نهاية القرن العشرين لما يمكن أن يكون حضورا رساليا ، يدل الحيارى على ضلالات الغرب الرأسمالي الراعي ( الأمين ) للاستبداد ، وفي الوقت نفسه يشهد بالحجة والدليل ، ليس كلاما مجردا بطبيعة الحال ، على قرب نهاية دوائر الظلم ، بن نبي كان يهمه حضور بمعنى الحضور وشهادة بمعنى الشهادة ، أما وأن السفينة لم تنل حقها من الإتقان ، فإن الزمن سيذهب ويعود ، ولن يكون في صالحنا ما دمنا في عداد الغائبين.

وجهة إيران

في عهد الشاه ، كانت إيران حليفة للغرب والولايات المتحدة الأمريكية تحديدا ، هل فكر العرب حينها في معاداة إيران والتحذير من خطرها ، أو التفكير في محاربتها ، ماذا حدث بعد الثورة ، صعد إلى سدة الحكم أناس مختلفون ، إيرانيون بطبيعة الحال ، ليسوا بأي حال من الأحوال من المرتزقة . حاولوا بناء أنفسهم تدريجيا على أساس مشروع ، لا يخدم الغرب الليبرالي الرأسمالي ، ولا حتى التوجه الشيوعي الاشتراكي ، ماذا كان يمنع الإيرانيين ، أو حكام إيران من موالاة الغرب ، ويفعلون بالعرب ما يحلو لهم خصوصا إذا كانوا فعلا يهدفون إلى استعادة أمجاد امبراطورية الفرس ، هل كانوا في حاجة إلى معاداة إسرائيل ، أو التلويح بشعارات ضدها ، وما دامت إيران حملت مشروعا خاصا بها ، لا يتوافق ، لا مع الغرب ، ولا مع آفاق الأنظمة الخليجية ، فقد اجتهد العرب  من خلال وسائل الإعلام  الموجه في صناعة رأي عام عربي يتخوف كثيرا من توجهات إيران ، هل قامت الثورة في إيران فقط ، لانتزاع السلطة من الشاه ، ثم الاصطفاف وراء أنظمة عربية وإسلامية رهنت مصير أمة التوحيد ومستقبلها في مقابل الحفاظ على عروش لا تملك صك الخلود ، وإذن ، فمن هذه الزاوية يمكن تفهم مواقف العرب ، ليس من باب الترضية ، ولكن كواقع قائم لذاته ، كما يمكننا تفهم مناورات الغرب الليبرالي الرأسمالي تجاه العرب وإيران على حد سواء من أجل الاستثمار في تفعيل الصراع بين المسلمين ، من خلال التعويل على العامل الطائفي . إيران لها مشروعها الخاص بها وبحلفائها ، وهي تسعى لتخطي الخطر الغربي المتمثل في القوة العسكرية الضاربة ، وخصوصا التفوق الجوي والتكنولوجي ، لذلك نجدها تستثمر في التناقضات القائمة على أساس المصالح بين الغرب وروسيا ، وبدرجة أقل الصين ، لأن السياسة فن الممكن ، وعامل الزمن جزء من الحل . الذي يدهشني حقا هو عدم اكتراث إيران لمسألة جوهرية في دائرة الصراع بين الحق والباطل ، ألا وهي مسألة الظلم ، هل غاب على الإيرانيين أن ” الظلم مؤذن بخراب العمران ” كقاعدة تستمد روحها من توجيهات القرآن الكريم ، كيف أمكن أن تنخدع إيران فتقف وراء أنظمة عربية مستبدة وظالمة ، كيف نبرر قتل وحرق نساء وأطفال وشباب سوريا بدم بارد ، ماذا يمكن أن نجني ؟ أرضا نحتلها ، هل يمكن الوصول إلى قلوب ملايين السوريين بهذا الأسلوب ، هل نبرر كل هذا ، كون دول الخليج تقف وراء الثورة السورية ؟ هل قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو الإمام علي ، أو الإمام الحسين عليهم جميعا سلام الله ، في يوم من الأيام حربا طائفية كالتي نشهدها اليوم ؟ لا تنسوا عواقب الظلم ، الظلم ظلمات يوم القيامة ، وفي الدنيا مؤذن بخراب العمران ، الأحرى بدولة إيران أن ترقب في المسلمين على أرض الشام وجه الله سبحانه ، فتجنح إلى الصلح بين الإخوة المتحاربين ، وأن تمد يدها من غير شروط إلى تركيا ، ودون انتظار وقف القتال ،ثم السعي إلى بناء جسور الثقة بين الإخوة المتحاربين ، إن شخص الرئيس بشار الأسد ليس قدرا محتوما ، كما أنه ، لا يرضيه ، ولن يرضيه أن يصل الأمر إلى تقسيم سوريا وتفتيت شعبها . إن أمثال الرئيس هاشمي رافسنجاني ، وعلي شريعتي  رحمهما الله ، ومحمد خاتمي ، والزعيم خامنئي ، وكثير هم المفكرون والعلماء ، الذين يمكنهم التوقف مليا عند مسألة الظلم ، وأن رسالة أمة التوحيد ، لا يمكن أن نحملها ونحن نعتمد فكرا أحاديا ، سواء باسم الشيعة ، أو باسم السلفية  الإمام الحسين عليه السلام ، لم يكن شيعيا في فكره ، ولا حتى سلفيا ، غالبية المسلمين من السنة هم أقرب الناس إلى شيعة علي عليه السلام ولا يقبلون بأي حال من الأحوال أن يكونوا رهينة فكر أحادي ولو تستر بشعارات السلف أو الشيعة ، أعداء أمة التوحيد يفعلون صراعاتنا المصطنعة انطلاقا من مثل هذه الشعارات . هذا بالنسبة لوجهة إيران ، أما وجهة العرب ، وباقي المسلمين ، فيمكن مراجعة بعض المقالات التي تخدم الموضوع  وهي :
 
*وجهة العالم العربي : منبر حر بتاريخ 10 ـ 06 ـ 2016.

*أخوة أردوغان : منبر حر بتاريخ 14 ـ 10 ـ  2016.

*من، من المسلمين يرد على أقوال الصهاينة: منبر حر بتاريخ 05 ـ 12 ـ 2016.

أما بخصوص ، ما جاء في عنوان الدراسة التي قدمها الدكتور عزمي بشارة ، وتحديدا : صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل . فإن إمكانية استيراد صدام الحضارات إلى داخل حدود الغرب الليبرالي الرأسمالي ، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ، فهو جانب ذي أهمية قصوى ، غير أنه لم ينل قسطا كافيا من التحليل ، مقاربته تبقى في حاجة إلى مزيد من الحفريات ، واستغلال عامل الشعبوية في هذه الحالة من الأدوات التي لجأت إليها الدوائر التي كانت وراء إشعال نار الحرب العالمية الثانية ، على وجه الخصوص ، لكن البعد المعول عليه في الصراع اليوم ، ليس اقتصاديا ولا طبقيا ، ولكن تحديدا هو عامل الدين ، وعامل الدين أساسا ، وهذا الذي أهمله الدكتور بشارة ، لا أدري لماذا؟    الذين يخططون ويقفون وراء توجيه مسار الصراع اليوم ، لا يهمهم استقرار الولايات المتحدة الأميركية ، ولا أمن مجتمعها ، الذي يهمهم هو فلسفة الانغلاق ، التي تضيق على الناس في أمنهم وحريتهم ، وتخدم فقط المجتمع المغلق وأصحاب ( الأخلاق المنغلقة  ) ، ولذلك نجد رأيا عاما أميركيا واسعا يرفض توجهات الرئيس دونالد ترامب ، وكثير من مؤسسات المجتمع الأمريكي لا تستسيغها ، وكأننا أمام جهة غريبة عن المجتمع الأميركي وثقافته ، تريد أن تفرض عليه أمرا واقعا ، موقف الرئيس ترامب وقراره بخصوص دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة ليس ببعيد ، وموقف المحكمة الأميركية التي جمدته خير دليل ، إن قرارا كهذا ، ومواقف يمكن أن يفاجئ بها العالم ، دونالد ترامب ،  ستصب كلها في خدمة ما سميته بفلسفة المجتمع المغلق والأخلاق المنغلقة ، ليس إلا.

وجهة أوروبا

معاملة الغرب الليبرالي الرأسمالي لسياسة دونالد ترامب ومن ورائه اللوبي الصهيوني المتحكم في أوصال المؤسسة الحاكمة داخل الولايات المتحدة وبريطانيا ، غير مجدية . لقد تابعتم ، على سبيل المثال تسريبات قناة الجزيرة بخصوص أنشطة الدبلوماسي الإسرائيلي داخل بريطانيا ومواقفه تجاه بعض مسئوليها . إذن مواقف الساسة الأوربيين اليوم ، لا تختلف عن مواقف ساسة بريطانيا وفرنسا خلال ثلاثينيات القرن العشرين ، فهي تشبهها إلى حد بعيد ، ّ سياسة الترضية  ّ التي تميزت بها مواقف فرنسا وبريطانيا ثلاثينيات القرن الماضي اتجاه نظام إيطاليا الفاشي ، ونظام ألمانيا النازي ، يومها ، التي كان الغرض منها تفادي الحرب ، تشبه إلى حد بعيد موقف وسياسة دول الاتحاد الأوروبي وعلى رأسهم ألمانيا اتجاه سياسة دونالد ترامب اليوم ، يمكن الرجوع إلى حيثيات مؤتمر ميونخ عام 1938 . أما اليوم وتحديدا الجمعة 17 فبراير 2017 ، ومن ميونخ بالضبط ، تحاول دول الاتحاد الأوروبي من دون بريطانيا ، ترضية ترامب . لقد حذرت وزيرة الدفاع الألمانية أرسولا فون دير ليان ، من توجهات سياسة الولايات المتحدة الحالية ، حيث قالت : يجب تفادي تحويل مكافحة الإرهاب إلى جبهة ضد الإسلام والمسلمين ، وإلا فإننا نواجه خطر تعميق الهوة التي تشكل تربة خصبة للعنف والإرهاب . وانتقدت أيضا موقف دونالد ترامب ، بخصوص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، للعلم فقد أثنى ترامب على قرار بريطانيا للخروج من الاتحاد ، وكذلك موقف الرئيس من حلف الأطلسي الذي أشار إلى أنه قد عفا عليه الزمن . هل لأن الحلف لم يعد بوسعه اليوم خدمة مآرب المجتمع المنغلق وأصحاب الأخلاق المنغلقة ؟ المهم سياسة الترضية هذه من قبل دول الاتحاد الأوروبي غير مجدية مع دونالد ترامب ، رغم أن واجب الشكر يجب أن يوجه إلى قادة ألمانيا ، ومن حذا حذوهم ، لقد صرحت الزعيمة انجيلا ميركل من ميونخ ، السبت 18/02/2017 ، أن المشكلة لا تكمن في الإسلام ، ولكن في الفهم الخاطئ ، وسوء التفسير . هل هذا كاف ، والرئيس دونالد ترامب يؤكد على ربط الإرهاب بالإسلام والعمل قائم على شحن الرأي العام الداخلي ضد المسلمين ، لن تجدي سياسة الترضية مع ترامب ومن يقف وراءه ، ولذلك وجب وقوف الرأي العام الأمريكي والأوروبي ، بعيدا عن عملية الشحن ضد المسلمين ، وخصوصا بعد مباركة الفاتيكان لعملية التنصير التي تقودها دوائر داخل فرنسا ، على وجه الخصوص ، الرأي العام الأمريكي والأوروبي الحر ، يمكنه أن يقف إلى جانب أنجيلا ميركل ووزيرة دفاعها ، ومن حذا حذوهم من الأوربيين داخل النمسا ، وبريطانيا ، والنرويج ، وبلجيكا ، وكندا …بعيدا عن أسلوب الترضية ، حتى يقول الجميع وبصوت مسموع : لا لصدام الحضارات ، نعم للحوار بين الحضارات ، من أجل التضييق على بؤر الاستبداد والظلم ، إن الظلم مؤذن بخراب العمران . أما من جهة المسلمين ، فالغائب هو الدولة التي يجب أن تقف موقفا مشرفا ، بعيدا عن سياسات الترضية والإتباع ، المسلمون داخل أوروبا ، والولايات المتحدة الأمريكية ، جديرون بتقديم صورة المسلم الناصعة ، ويشهدون شهادتهم التي أمرهم بها دينهم : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد ” الآية   143 من سورة البقرة    . أم الاحتماء بظل ترامب ، أو الاستعلاء والغرور ، فليحذر صاحبه من الوقوع داخل الجب ، وإن نجا من أنياب الأفعى ، فستقطع أنفاسه مخالب الدب.

بشير جاب الخير
18 فبراير 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version