كما سبق وأن ذكرت في التحذير، فإن مالك بن نبي أضاف إلى الطبعة الثانية الصادرة بالعربية بالعاصمة المصرية سنة 1960 عرضا مطولا تطرق فيه إلى دور الفكرة الدينية في تكوين الحضارة.

لابد وأن الجميع يعرف المعادلة الشهيرة التي قدمها مالك بن نبي حول الحضارة: الحضارة = إنسان + تراب + وقت

ومع ذلك فإنه يحذرنا من أخذ هذه المعادلة على أنها معادلة رياضية بل أن تُأخذ على شكل مركب كيميائي تماما كالذي يشكل عنصر الماء مثلا: ماء= هيدروجين (جزيئين) + أكسجين (جزيء واحد) وبالتالي لا يمكن الحصول على تفاعل كيميائي إلا بوجود المحفز.

تُعتبر الفكرة الدينية المحفز في تكوين الحضارة بتغييرها لحالة العنصر المحرك، نعني به الإنسان، من السكون إلى الحركة ما يسمح له باستغلال الوقت وتحويل عناصر التراب.

أعتقد أن جلّ الاستفهامات التي شغلت قراء بن نبي، والتي على ما أعتقد لم تتغير كثيرا منذ سنة 1960، تركزت حول تعريف الفكرة الدينية.

إذ هل يوجد تماثل وتشابه بين الحقل الدلالي لتعريف الفكرة الدينية والحقل الدلالي لتعريف الدين؟

لنلقي نظرة على التعريف الذي يقدمه القاموس للدين، حيث يعرفه بأنه: “مجموع المعتقدات والطقوس والمبادئ التي تحدد علاقات الإنسان بالألوهية والتقديس” هذا التعريف الأساسي يجمع كل الأنشطة الدينية بغض النظر عن نوعها حتى وإن كانت كلمة ” الدين ” تشمل في العربية مجالا أوسع.

لكن كيف يمكن للإيمان أن يحدث أثرا أو تأثيرا على الديناميكية الاجتماعية؟

نذكر على سبيل المثال كيف ينظر البروتستانت، ولا سيما أتباع جون كالفن، للقضاء والقدر، فهم يعتقدون بأنه الخلاص الأبدي إنما يكون بيد الله وحده وأن لا دخل للأعمال في تحديد مصير الإنسان.

لأول وهلة، نعتقد بأن القضاء والقدر يقود أنصار هذا المذهب إلى الخمول والتقصير في العبادة.

لكن التاريخ يؤكد لنا عكس ذلك تماما ذلك أن البروتستانت أرادوا من خلال الغنى وتجميع الثروات معرفة ما إذا كانوا ينتمون إلى شعب الله المختار. ويكون بذلك البروتستانتي الذي تمكن من تحقيق ذلك اجتماعيا أو كان على الأقل ميسور الحال، قد تأكد من أنه ينتسب إلى شعب الله المختار. وعندما تدعو طائفة معينة أنصارها إلى منافسة كهذه سيؤدي ذلك حتما إلى ديناميكية اجتماعية داخل المجتمع. وهذا ما يؤكده عالم الاجتماع والمفكر الألماني ماكس ويبر بذكره لهذه الفرضية في كتابه ” الرأسمالية والقيم البروتستانتية.”
لكن لو نتمعن في الإشكالية التي يطرحها مالك بن نبي لأيقنا أن البشرى بالنعيم هي الدافع وراء التغيير الجذري الذي لحق بالمجتمع البروتستانتي ودفع بالتالي بعجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام.

باستعمالنا للمعجم التقني الخاص بمالك بن نبي، نقول أن الوعد الأكبر، أي الجنة في عالم الخلود، هو ما يساعد على تحقيق الوعد الأصغر والذي نعني به النجاح المادي في عالم الفناء.

يكتنف هذا التوجه عدة نقائص إذا تعلق الأمر بالمجتمعات فقط دون الأفراد وهنا تكمن أهمية الأيديولوجية.

وبالعودة إلى تعريف مفهوم الأيديولوجية الموجود في القاموس. نجد أنها: “مجموع التصورات والاعتقادات التي يعيش الإنسان روابطها حسب ظروف وجوده.” يشير هذا التعريف إلى المحتوى العام للأيديولوجية دون ذكر تأثيرها أو دورها. وهنا تظهر القيمة الجوهرية لمساهمة مالك بن نبيّ.

يتعمق بن نبي لاحقا في ما يخص المنهج الوظيفي الذي اتبعه، في أحدث دراسة له حول دور ومهمة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، إذ يرى أنه لا مجال لأن تتطور الفكرة لتصبح أيديولوجية إلا إذا حققت ثلاثة معايير هي: الجهد، الاندماج والتوجيه.

• الجهد الذي يسمح بتنشيط الديناميكية الحيوية،
• والاندماج للحفاظ على وحدة الفعل والتلاحم والتكاتف الاجتماعيين،
• والتوجيه لضمان فعالية العمل الجماعي لكي لا يذهب أدراج الرياح.

كل هذه الأنشطة يحفزها الوعد الذي ترتكز عليه الفكرة.
وهكذا يتجل ى لنا بوضوح أن حقل الفعل الاجتماعي للفكرة الدينية وللأيديولوجية كما يعرفه بن نّبي هو نفسه بل يمكننا حتى القول أن الغرض منهما واحد.

كما يمكننا الإقرار بفكرة وجود أيديولوجيات لها نفس الدور دون قدرتنا على تحديد أوجه التشابه بينها وبين الفكرة الدينية ونخص الشيوعية بالذكر على سبيل المثال.

استوفى النظام الشيوعي سنة 1917 نفس المعايير، لكن يبقى الغموض يكتنف الوعد الذي يوظف ويحفز هذه المعايير، فما هو إذن هذا الوعد؟

الشيوعي فلاديمير لينين هو من أطلق الوعد الأصغر للشيوعية قائلا أن: “الشيوعية هي السوفييت والطاقة “.  وقد أكد لينين بقوله هذا أن الشيوعية سمحت بظهور نظام اجتماعي عادل ودفعت إلى إحداث تنمية اقتصادية في البلاد.

أما الوعد الأكبر للشيوعية فقد أشار إليه كارل ماركس في كتابه “نقد برنامج غوتا: “من كل فرد حسب مقدرته إلى كل فرد حسب حاجته”. بيد أن مسعى النظام الشيوعي الأكبر والأخير هو “خلق” جنة مادية، إذ يتطلب تحقيق هذا المسعى على أرض الواقع وجود قوة خارقة تفوق المنظور البشري. وهنا يربط مالك بن نبي بين الشيوعية والفكرة الدينية.  لقد انهارت الشيوعية عندما فقدت الاعتقاد بالوعد الأكبر، الجنة المادية، ما أدى إلى ضياع وظائف أيديولوجيتها الثلاث وهو ما يعني انعدام الفعالية التي تضمن تحقيق الوعد الأصغر أي التطور الاقتصادي.

يتضح لنا إذن أن الفكرة الدينية أشمل من مفهوم الأيديولوجية على صعيد العمل الاجتماعي.

وبالتالي لم يتم الخوض في خضم الحديث الذي أوردناه في محتوى الفكرة الدينية ولا الأيديولوجية ناهيك عن الدين.

اهتم مالك بن نبي في جل أعماله بالدور الاجتماعي للأفكار وفعاليتها في تطوير المجتمع. باستثناء مؤلفه ” الظاهرة القرآنية” الذي دشن به دخوله في عالم الأفكار، والذي ركز من خلاله على صحة الرسالة القرآنية.

وفي مقابلة له مع يومية المجاهد الصادرة في الثامن عشر من أكتوبر1968، و ردّا على سؤال الصحفي الآتي: “عندما تتطرقون لموضوع الدين والإيمان، فهل يكون ذلك بالمعنى الدقيق أم تعنون بقولكم ذلك نوعا من القيم والأخلاقيات؟ قال: ” النهي عن المنكر، تحقيق المساواة! مفاهيم لا نجدها إلا في الإسلام. لا نعني الإسلام بالمنظور الميتافيزيقي الذي ينتهي المطاف بأنصاره في الجنة أو النار، بل إسلاما يؤدي إلى فكرتين أساسيتين ألا وهما: استرجاع كرامة الإنسان واستعادة العدالة الاجتماعية.”

عبد الرحمان بن عمارة
أول ماي 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version