نبدأ بخير وأحسن وأعظم كلام ، يقول الله سبحانه: ” يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ” الآية 05 من سورة الحج . إعجاز ما بعده إعجاز ، ما العلاقة بين البعث والتراب؟ الشاهد هو التراب ، أو كأن الأرض تخاطب الإنسان ، سبحان الله كم هو عظيم تواضع التراب الذي خلق منه الإنسان ، من يوم لآخر يأخذ الإنسان إنسانا مثله فيستودعه التراب ، أو كأنه يسلمه إلى الأرض ، مكره أخاك لا بطل ، كيف بالمرء يسلم أعز إنسان عليه إلى الأرض من دون أن ينازعها أو يسألها ، ما هذا الذي يفعله ابن آدم ؟ قابيل يقتل هابيل ، لكنه سرعان ما يعيده إلى باطن الأرض ، بالله عليكم ، من ، من الإنسانية شذ عن هذا السلوك ، أو نازع ، أو خالف ؟ ولا واحد ، أليس هذا شاهد على وحدانية الخالق ، الله خاطب في الإنسان طينته وروحه على حد سواء ، ولذلك قامت العلاقة بين البعث والتراب ، فمن يستطيع أن يشذ عن هذا المبدأ يمكنه أن يشككنا في يوم البعث ، أما وقد توحدت البشرية فلم تنازع ولم تخاصم ولم تخالف في مسألة خلق الإنسان من تراب ومآله إلى التراب فقد انتفى ريب الإنسان ، إلا بالنسبة لمن اختار طريق إبليس وظن أنه خلق آخر ، ومع ذلك فهو أعجز خلق الله عن إثبات أي طبيعة لخلقه غير التراب والتراب فقط . إن الظلم ظلمات وأشده بشاعة أن لا يعرف الإنسان خالقه الذي خلقه فسواه فعدله وفي أحسن صورة ركبه ، يقول الله تبارك وتعالى :” يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك ” الآيات 6 ـ 7 ـ 8 من سورة الانفطار . ومن رحمة الخالق بنا أن ذكرنا بالبعث الذي تأكد معه انتفاء خلود الإنسان في هذه الدنيا ، التذكير بالبعث لم يقتصر على ما جاء في القرآن الكريم فقط ، بل تأكد من خلال المسار الذي رسمه لنا في حياتنا الدنيا ، مسار لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، خلق الله الإنسان من طين ونفخ فيه من روحه ، الروح روح الله ، فإذا شاء الخالق أخذ روحه ،فكيف هي الطين بلا روح ؟ يمكننا أن نتأمل في إنسانيتنا ، قوامنا طين وروح ، وحتى يدرك الإنسان قيمته ووزنه وضعفه وقوته وحضوره وغيابه ، ينبغي أن يتفكر في قيمة الطين من دون روح ، لذلك ولذلك فقط وجب أن يتفكر ابن آدم حينا بعد حين في التراب ، التراب يحيط بالإنسان من كل جانب ، بل الغالب هو التراب ، فكيف إذا تجاهل الإنسان هذه الحقيقة وراح يبحث عن نفسه وقيمته وقوته وضعفه وحضوره وغيابه بعيدا عن الأرض ؟ الأرض : ” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ” الآية 55 من سورة طه . من قال هذا الكلام ، ومن أصدر هذا القرار ؟ بطبيعة الحال ليس هو الإنسان ، وحتى يعود ابن آدم إلى الأرض تنتزع منه روحه ، من يأخذ هذه الروح ، ليست ملكا للإنسان ، لا تدخل ضمن تركة المتوفى أو الميت بكل تأكيد ، ليست من أمواله وما جمعه في دنياه ، فهي بكل تأكيد لا تدخل ضمن رأس ماله ، لذلك تؤخذ الروح من الإنسان ومن كل إنسان ، ما أعظم عدل الخالق سبحانه وتعالى ، فهو جامع لكل المعاني والقيم ، سبحانه وتعالى عما يشركون ، أن جعلوا له شريكا في ملكه، بل جعلوا له ابنا سبحانه ، وبدلوا كلامه الذي جاءهم به عبده ورسوله سيدنا عيسى ابن السيدة مريم البتول عليهما السلام . إذن بمجرد رجوع الإنسان إلى التراب ، وهو أصله ، تعود الروح إلى خالقها ، لا ينازعه في ذلك مخلوق ، تصوروا ، لو كان الإنسان هو صانع هذه الروح ، بأي ثمن يمنحها ،هل تتصورونه يعدل  ؟ أبدا ، الروح تتصل بالخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد . والطين أو التراب هو أيضا دال على عظمة الله وعدله ، فلو اجتمعت الإنس والجن واستخدموا علوم الدنيا وتكنولوجياتها ما خلقوا خلقا واحدا ، أو نصفه ، أو ربعه ، أو حتى جزءا بسيطا منه من هذه الطين ، فسبحان الواحد الأحد الفرد الصمد . ومع كل هذا نجد الإنسان ، كثيرا من الناس تراودهم الشكوك وتسكنهم الوساوس ، إلى الحد الذي يرى المرء نفسه مختارا بالمطلق في دنيا الناس فيسكنه الكبرياء وكأنه خلق آخر غير الخلق الأول ، فبدل ثوب العدل فيتواضع ، يلبس ثوب الكبرياء فيظلم ، وبدل الرضاء ينزع ابن آدم فيشرك بالله الذي خلقه من تراب ، لذلك جاء تذكير الله لخلقه بيوم البعث ، ولا ينفع التذكير مع إنسان تجاهل أصله وأصر على ذلك رغم الإعجاز القائم في دنيا الناس ، تتخلى الأم عن ولدها ، ويتخلى عنه والده وإخوته وأخواته ، فيسلمونه إلى التراب ، وحتى وإن طلب منهم الناس ، حاكمهم ومحكومهم ، أن يحتفظوا بجسد ابنهم بلا روح ، لا يمكنهم ذلك التراب أولى به ، ذلك هو أصله ، وذلك أقرب منبه إلى مسألة البعث ، فسبحان الله ، ما أعظم وما أحسن وما أجمل وما أطيب كلام الله . يؤخذ الإنسان على حين غفلة ، على حين غفلة لأن الإنسان هو الذي يأخذ الإنسان ، يحمله بيديه ويعيده إلى التراب ، الجميع في ذلك متساوون ، ألم أقل أن التراب هو الغالب ، حتى قطعة القماش التي يكفن بها الميت ليست سوى شيئا من التراب ، هذا المشهد المتكرر فيه خطاب للروح وخطاب للطين ، الروح روح الله والأرض أرض الله ، كل ذلك حتى يتفكر الإنسان ويتدبر في مصيره قبل أن يتحول إلى تراب ، قبل البعث بطبيعة الحال ، كل هذا من رحمة الله وعدله الذي لا يضاهيه عدل . هذا هو منطلق العدل ، فإذا لم يدرك الإنسان هذه الحقيقة ويستجيب لنداء البعث ، لا يمكن أن يضع قدميه على الأرض ، مثلما فعل فرعون على سبيل المثال ، فلا يمكن أن يشعر بطينته ويستوعب الغاية من وجوده في هذا الكون ، فإذا تحقق ابن آدم من هذا المنطلق أبصر مساره ، حينها فقط يمكنه أن يتحلى بصفة العدل ويعكس آثارها تجاه نفسه وتجاه الآخرين بالنظر إلى أصلهم ومصيرهم ، هذه الصورة هي صورة الإنسان الحر الذي يقف حدا فاصلا بين ضعفه وقوته ، للتراب عليه حق فلا يستكبر ، وللروح عليه حق فلا يجحد ، لا تتمكن منه الجاهلية فيضعف فيستكبر ، ولا تتمكن منه الأهواء فيغتر فيجحد . هذا هو المنطلق في مسالة العدل ، وما ينبثق عنه من علاقات بين الناس . إذا امتنع الإنسان عن أخذ حق الآخرين فهو من العدل ، وإذا رضي بقسمته ونصيبه فهو جوهر العدل . إن مثل هذا السلوك الإرادي كفيل بالتأسيس لمجتمع إنساني حر تواق إلى تجسيد مبدأ العدل ، فإذا اجتهدت الإنسانية وفق هذا المنهج وضمن هذا المسار ائتمن الناس ، كبيرهم وصغيرهم ، ذكرهم وأنثاهم ، فقيرهم وغنيهم ، ضعيفهم وقويهم ، أبيضهم وأسودهم ، حاكمهم ومحكومهم ، ائتمن الجميع على حياته وعلى مصيره . ويستلزم هذا شرعنة الحقوق بناء على مشروعيتها التي تستمدها من مبدأ العدل ذاته المتضمن استجابة الإنسان أولا وأخيرا ، ذلك أن الحقوق المشروعة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنفصل عن الواجبات المشروعة ، الواجب المشروع ينتج حقوقا مشروعة ، فإذا تحقق ما هو مشروع في دائرة العدل ضاقت مساحات الظلم ، وأمكن بعدها شرعنة مساواة الناس وفق ما يخدم حريتهم وأمنهم وأمانهم ، ونعبر عن هذه المساحة بمساواة الناس أمام القانون ضمن التصور السليم لمسألة العدل الذي يستمد قيمته من قيمة التكريم الرباني لعباده . هناك من يعرف العدل فيقول : العدل هو إعطاء الحقوق لأصحابها .

من يكون هذا الذي يعطي الحقوق لصحابها ، من أنى له هذا المركز ، ما هي مشروعيته ، وهل استوفى روحه من العدل الرباني ؟ هل أعطى هذا الإنسان حق خالقه من حيث الاستجابة لما يحييه ، هل لبى نداء الله والرسول ؟ أو ليس ما يحيي الناس مرتبط بهذه الاستجابة ؟ هل تأتمنون إنسانا لم يعدل بين طينته وروحه ، أن يكون عادلا بين الناس ؟ هل يكفي الحاكم رفع شعار العدالة الاجتماعية وهو يستبد بحق الناس في اختيار من يحكمهم ؟ هل يكفيه التغني بالمساواة بين الرجل والمرأة وهو عاق لوالدته التي حملت به وهنا على وهن ؟ ما أكثر صور العقوق ، لعلها هي الغالبة على سلوك المستبدين في هذه الأرض ، ثم ماذا عن الإنسان الذي يغتصب أرض الناس فينتزعها منهم مثلما تنتزع أرواحهم ، أو ليس هو عقوق واعتداء على حياتهم ، ثم يرفع هذا الظالم شعار حقوق الإنسان جورا وبهتانا ليغتصب أكثر حقوق الناس إمعانا في سحقهم ظلما وزورا .

العدل هو المطلوب ، فما معنى أن تعدل ؟ معناه أن لا تظلم ، لا تظلم هو أن تكون راضيا بما عندك وأن لا تكره أن يعرف الناس مصدر الذي عندك ، فإذا رضيت بقسمتك ونصيبك انتفت إمكانية ظلمك ، هذا معنى أن تعدل . القاضي العادل هو من كان فعلا قاضيا ، والفعلية هذه تتحقق بشرط التواضع والقبول ، أما التواضع فهو الرضاء ، وأما القبول فهو استيفاء الكفاءة والقدرة ، فمن وصل إلى منصب القضاء دون رضاء ولا كفاءة ولا قدرة كان فاقدا للأهلية ، ومن فقد مثل هذه الأهلية صار ظالما . كذلك الحاكم ، كيف صار حاكما ، فإذا كان ذلك دون تواضع وقبول ، أي دون رضاء ولا كفاءة ولا قدرة انتفى عدله ، ومن انتفى عدله بان ظلمه . كذلك الوارث ، فإن لم يكن راضيا بما هو محدد في تقسيم التركة عدلا ، والعدل في هذه الحالة هو ما نص عليه الشرع ، كان المتسبب ظالما . كذلك الرجل الذي يعدد فيتزوج أكثر من واحدة دون تواضع ولا قبول ، أي من دون أن يكون راضيا ، ورضاه ينبغي أن يتضمن أو يستوعب رضاء زوجته ، ورضاء زوجته أن تحفظ كرامتها وحقوقها ، ويقتضي هذا بالضرورة كفاءته وقدرته ،ودون ذلك ،عليه أن يقف عند الواحدة خوفا من أن لا يعدل . لهذا ولهذا فقط فإن العدل متصل بموقف الإنسان ، حاكما كان أو محكوما ، في مختلف دوائر الحياة التي يكون هو أحد منتسبيها .

ومن صور استجابة الإنسان لنداء الله والرسول صلى الله عليه وسلم : صورة رجلين من الأنصار ، جاءا يختصمان إلى رسول الله ويطلبان منه أن يحكم بينهما ، فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم بأن من يأخذ حق أخيه ، فإنما يأخذ قطعة من النار ، فبكى الرجلان وتنازل كل واحد منهما عن حقه لأخيه.   ومن أبلغ الصور الخالدة صورة الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أطعم الجياع وزوج الشباب وقضى الديون ، ونشر الحبوب على أسطح المنازل لتأكل الطير ، فلما سئل في ذلك قال : حتى لا يقال أن الطيور قد جاعت في عهد عمر بن عبد العزيز … ولما حضره الموت .. دخل عليه مسلمة بن عبد الملك بن مروان وقال : إنك يا أمير المؤمنين قد فطمت أفواه أولادك عن هذا المال .. فحبذا لو أوصيت بهم إليك .. أو إلى من تفضله من أهل بيتك .. فلما انتهى من كلامه قال عمر : أجلسوني .. فأجلسوه .. فقال : قد سمعت مقالتك يا مسلمة . أما إن قولك : قد فطمت أفواه أولادي عن هذا المال .. فإني والله ما منعتهم حقا هو لهم .. ولم أكن لأعطيهم شيئا ليس لهم ..أما قولك : لو أوصيت بهم إلي  أو إلى من تفضله من أهل بيتك .. فإنما وصيي ووليي فيهم الله الذي نزل الكتاب بالحق .. وهو يتولى الصالحين .. واعلم يا مسلمة أن أبنائي أحد رجلين .. إما رجل صالح متقن فسيغنيه الله من فضله ويجعل له من أمره مخرجا .. وإما رجل طالح مكب على المعاصي فلن أكون أول من يعينه بالمال على معصية الله تعالى .. ثم قال ادعوا لي بني .. فدعوهم وهم بضعة عشر ولدا .. فلما رآهم ترقرقت عيناه قال مسلمة : تركتهم عالة لا شيء لهم .. وأنت الخليفة .. فبكى بكاء صامتا .. ثم التفت إليهم وقال أي بني لقد تركت لكم خيرا كثيرا .. فإنكم لا تمرون بأحد من المسلمين أو أهل ذمتهم إلا رأوا أن لكم عليهم حقا .. يا بني إن أمامكم خيارا بين أمرين .. فإما أن تستغنوا .. أي أن تصبحوا أغنياء .. ويدخل أبوكم النار .. وإما أن تفتقروا ويدخل الجنة .. ولا أحسب إلا أن تؤثرون إنقاذ أبيكم من النار على الغنى . ثم نظر إليهم في رفق وقال: قوموا عصمكم الله.. قوموا رزقكم الله.. فالتفت إليه مسلمة وقال : عندي يا أمير المؤمنين ما هو خير من ذلك .. فقال : وما هو ؟ قال لدي ثلاثمائة دينار وإني أهبها لك ففرقها عليهم أو تصدق بها إذا شئت .. فقال له عمر : أو خير من ذلك يا مسلمة ؟ قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال تردها لمن أخذتها منه .. أنى لك بهذا المبلغ الضخم ؟ تردها إلى من أخذتها منه  فإنها ليست لك بحق .. فترقرقت عينا مسلمة وقال : رحمك الله يا أمير المؤمنين حيا وميتا فقد ألنت منا قلوبا قاسية وذكرتها وقد كانت ناسية وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا . نمر على مثل هذه الصورة دون أن نبحث لنا فيها عن صورة في بيوتنا ولا في مدارسنا ولا في مزارعنا ولا في مساجدنا ، فما بالك بمعاهدنا وجامعاتنا وبرلماناتنا ومجالسنا الحكومية ، نمر عليها مرور الكرام وكأنها لا تعنينا ولا تعني تاريخنا ولا مستقبلنا ، لذلك يجب أن نبحث في المسافة التي تفصلنا عن الاستجابة لنداء الله والرسول لما يحيينا ، وعن الهوة التي تفصل بيننا وبين مبدأ العدل . يمكن أن نصور فيلما يقرب لنا صورة هؤلاء العظماء ، غير أننا نجد أنفسنا عاجزين عن تطعيم وتزويد مناهجنا الدراسية والتربوية ضمن محيطنا أو مجالنا الحيوي بمثل هذه القيم ، نعوذ بالله من مثل هذا العجز ، وهذا الهوان ، من نكون يرحمكم الله ، أنحن خلق غير الخلق الأول ، سبحانه وتعالى عما يصفون .

كتب أحد الولاة إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يطلب منه مالا كثيرا ليبني سورا حول عاصمة الولاية . فقال له عمر : ماذا تنفع الأسوار ؟ حصنها بالعدل ، ونق طرقها من الظلم . طيب يرحمكم الله ، إذا كان هذا هو حال الحاكم ، وهذا هو موقفه ، كيف تتصورون الرعية في استجابتها رغم الذي أحاط دولة بني أمية قبل ذلك وبعده في إطار توارث الحكم من خروج عن جادة الطريق ، التاريخ حافل بالشواهد . يقول الله سبحانه : ” يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ” الآية 8 من سورة المائدة . هلا سألنا أنفسنا عن آثار العدل في حياتنا ، وصور الظلم التي طغت على واقعنا الذي لم يسلم منها قطاع ، ومن منا بحث عن علاقته بذلك من قريب أو بعيد ، واجتهد في تبرئة ذمته دون أي تبرير ، يمكننا فعل ذلك في حدود ما نملك ، كأن نشهد شهادة حق ، ولا نعين ظالم ، ولا نأخذ ما ليس لنا ، ونحضر إلى عملنا في الوقت المحدد ، ونتقن أشغالنا ، ولا نغادر مواقعنا قبل الموعد ،ولا نطعم أنفسنا وأهلينا إلا من حلال ، فنصدق مع الله ومع الرسول صلى الله عليه وسلم . أما أن نخلف الوعد فلا يكون لصلاتنا أثر في واقعنا ، فهو الظلم بعينه نسأل الله أن يقينا شره . الذي يعنينا أكثر هو حالنا ، لا يمكن أن نخدم أمة التوحيد إلا انطلاقا من واقعنا ، من لم يهمه أمنه لا يمكن أن يهتم بأمن الآخرين ، ومن لم يصدق مع أهله وجيرته لا يمكن أن يصدق مع الآخرين ، ومن لم يعدل مع نفسه فيقيها من الأهواء لا يمكنه أن يعدل مع غيرها ، ها هو الخليفة عمر بن عبد العزيز ، لم يثنيه ظلم من سبقه إلى الحكم ، فيحتج بواقعه الذي وجد القوم عليه ، لم يتحجج بفساد الحكام والولاة ، استجابته لله وللرسول كانت الأساس في مسيرته ، زهد في دنيا الناس ولم يزهد فيما عند الله ، ذلك الذي كان يحرسه ويحميه ، يروى أن امرأته دخلت عليه ذات يوم وهو في مصلاه تسيل دموعه ، فقالت : يا أمير المؤمنين ألشيء حدث ؟ قال : يا فاطمة إني تقلدت من أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أسودها وأحمرها فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري والمجهود والمظلوم والمقهور والغريب والأسير والشيخ الكبير وذي العيال الكثير والمال القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة فخشيت ألا تثبت لي حجة فبكيت . هلا وزنتم تواضع عمر وقبوله ، كيف كان الخليفة عمر بين الرضاء والقدرة والكفاءة ، كيف استشعر التراب الذي خلق منه والبعث الذي ينتظره ؟ لعلكم تتساءلون عن سر التركيز على الخليفة عمر بن عبد العزيز ؟ الخلفاء الراشدون الأربعة كانوا أقرب ما يكون المرء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يتحول الحكم إلى ملك عاض ، توارثه بنو أمية على وجه الخصوص ، وقد سبق التحول موقعة صفين التي كانت اختبارا وامتحانا عظيما للمؤمنين . روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال : يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء ، فقال حذيفة : أنا أحفظ خطبته ، فجلس ثعلبة ، فقال حذيفة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ، ثم سكت  ” . ما يهمنا اليوم هو حال المسلمين ، في دائرة الحكم على وجه الخصوص ، غياب الحريات وكثرة المظالم ، تصرف الأموال ، وما أكثرها ، ليس في مشاريع البناء التي تحفظ أمن الناس من الخوف ومن الجوع ، ولكن بطريقة يعجز اللسان عن وصفها ، وكأن بعض ولاة الأمور قدموا من كوكب آخر لمهمة واحدة وهي إلحاق الأذى بسكان الأرض ، خصوصا الشعوب المستضعفة ، وكأنهم خلق آخر . أو أنهم لم يسمعوا يوما قول الله سبحانه : ” إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها  وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ” . الآية 58 من سورة النساء . كم هو جميل أن يقرأ الإنسان ويستحضر مواقف الخليفة عمر ، وعظيم أن يعتبر المرء أكثر فيستشعر عظمة الله ، فيبحث لنفسه عن مكان في دائرة التواضع والقبول مختزلا المسافة التي تفصله عن البعث ، التي يمكن أن لا تزيد عن دقيقة ، من منا يضمن أنها أكثر ؟ سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .  ( العدل أساس الملك ) ، ينسبون هذا القول للعلامة ابن خلدون ، أما الإمام علي رضي الله عنه فهو القائل : (العدل حياة ) ، وفق ما جاء في نهج البلاغة . لقد كان الإمام عليه السلام أحرص الناس استجابة لنداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، لذلك ربط بين العدل والحياة ، وكأن مصدر العدل هو تلك الاستجابة ، يقول الله سبحانه : ” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ” الآية 24 من سورة الأنفال . وقوله تعالى: ” فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ” الآية 50 من سورة القصص . ولعل هذا الذي دفع ابن خلدون إلى القول : ( الظلم مؤذن بخراب العمران ) ( المقدمة ) . هذا وذاك يؤكد أن روح العدل هو الاستجابة لنداء الله والرسول صلى الله عليه وسلم ، وسبب الظلم هو إتباع الأهواء . لذلك يمكن وزن مشاريعنا في شتى المجالات بمدى استجابتنا لنداء الله والرسول صلى الله عليه وسلم ، إن لم تتحقق هذه الاستجابة ، فثمة إتباع للأهواء ، وإتباع الأهواء مؤذن بالظلم ، والظلم مؤذن بخراب العمران ، فإذا كنت بصدد مشروع بناء فمن العدل أن لا تهدم إلا لتبني . ويكفيني في هذا المقام موقف الإمام علي عليه السلام ، يوم افتقد درعه ، فوجدها عند رجل نصراني فشكاه إلى شريح القاضي ، فقال الإمام : الدرع درعي ، لم أبعه ولم أهب ، فسال شريح النصراني في ذلك ، فأجاب : ما الدرع إلا درعي ، وما أمير المؤمنين بكاذب ، فالتفت القاضي إلى أمير المؤمنين وقال : يا أمير المؤمنين إن النصراني صاحب اليد على الدرع ، وله بذلك حق ظاهر عليها ، فهل لديك بينة على خلاف ذلك ، فقال أمير المؤمنين : أصاب شريح مالي بينة على ذلك ، فقضى شريح بالدرع للنصراني ، وأخذ النصراني الدرع وانصرف لبضع خطوات ، ثم عاد وقال : أما إني أشهد أن هذه أحكام الأنبياء ، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه ، فيقضي لي عليه ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، الدرع درعك يا أمير المؤمنين ، اتبعت الجيش وأنت منطلق من صفين ، فخرجت من بعيرك الأورق . فقال علي : أما وقد أسلمت فهي لك . كم هو عظيم هذا الموقف ، كله استجابة وكله حياة ، فلا حياة من دون عدل ولا عدل من دون استجابة . سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم .

بشير جاب الخير
28 يناير 2017

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version