بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله

نبدأ حديثنا في هذا الموضوع من أن القتال ليس غاية في حد ذاته ، وليس موضوعا مستقلا قائما  لذاته ، فهو من متطلبات الحياة ومن مقتضياتها ، إن علاقة القتال بالحياة كعلاقة الهدم بالبناء ، إذ لا معنى لهدم إن لم تكن هناك ضرورة بناء ، وإذا ، فلا معنى ولا مشروعية للقتال إن لم يكن من مقتضيات الحياة ، فكما أن الحياة هي الأصل وهي الأساس ، والموت ليس سوى مقدمة من مقدمات الحياة ، فإن القتال شرع لأجل درء المخاطر المحدقة بهذه الحياة . وسؤالنا في القتال ، نبع من قراءة الحديث النبوي الشريف ، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويوتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله تعالى ” رواه البخاري ومسلم . جوهر هذا الحديث ليس هو القتال ، إنما هو حساب الناس ، والحساب متعلق بالحياة والحياة ليست حياتنا الدنيا ، وإلا لما كان هناك حساب ، إذ بعد القتال ينتهي الإنسان ، فماذا يفيد بعد أن تنتهي الحياة ، ولما كانت الحياة المعتبرة بعد الحساب هي الحياة الباقية ، وليست هي الحياة الآنية الفانية ، فإن القتال ليس سوى عنصرا من عناصر هذه الحياة الدنيا ، ومن رحمة الله تبارك وتعالى بخلقه أن شرع القتال وجعله من مقتضيات هذه الحياة . إن حساب الناس على إيمانهم ليس من اختصاص الإنسان ، لأنك أيها الإنسان ، مهما فعلت ومهما حرصت فإنك لا تستطيع ولن تستطيع أن توجه أو أن تتحكم في مسألة إيمان الإنسان إلا من خلال تبليغ رسالة الحق تبارك وتعالى عن طريق تفعيل مبدأ الشهادة لقوله عز وجل : ” كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ” الآية 110  من سورة آل عمران ، وقوله عز وجل : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” الآية 143  من سورة البقرة.

إن خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم جاء مبلغا ومعلما ، فدل على وحدانية الله سبحانه ، بلغ رسالة الإسلام بعد أن شهد بوحدانية الله ، ثم علم الناس مسائل تصلهم بالله وتبلغهم مبتغاهم في الدنيا والآخرة ، مثل مسالة الصلاة والصوم والزكاة والحج والإحسان إلى الناس ، وعلمهم أيضا أن التقصير في هذه المسائل يعود بالضرر على الإنسان ، إذ من مصلحة الإنسان الانضباط بتوجيهات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، أما مسألة الإيمان من عدمها ، والتوحيد من عدمه ، فحدودها هي علاقة الإنسان بالله ، أي أن مسألة الحساب ، أو حساب الناس هي على الله عز وجل ، أما بخصوص القتال الوارد في الحديث فهو خاص ، والخصوصية هنا تتصل بمسألة التبليغ ، فالناس المستهدفون بالقتال هم الفئة التي منعت الرسول صلى الله عليه وسلم من تبليغ رسالة ربه ، الذين اعترضوا عليه وحاصروه وآذوه وآذوا أصحابه الذين آمنوا برسالة التوحيد ، لذلك فقط جاء تشريع القتال لمنع المنع ، أي دفاعا عن مسار التبليغ وحماية لمكتسبات هذا المسار ، أي حتى يفهم أولئك المعترضون ، أنه ليس من حقهم الاعتراض على الناس ومنعهم من الاختيار ، خصوصا إذا كان هذا الاختيار مرتبطا بضمائرهم ، فهو اختيار خاص بالإنسان ولا ينعكس بأي ضرر على الآخرين ، بل في حالة الإيمان بالله وتوحيده يعود بالإيجاب على حياة الناس وأمنهم وأمانهم . وإذا فمن هذا المنطلق تكون مسألة القتال جد خاصة ، فهي شرعت لمنع منع المعترضين وكف أذاهم ، فإن انتهوا انتهت مبررات القتال ، لتبقى بعد ذلك مسألة إيمان الإنسان من عدمها اختيارية ، لا جبر فيها ، الإنسان في ذلك مخير وحسابه على الله ، وإلا فما قيمة أن تكون الحياة الدنيا دار فناء ودار زوال ، وما معنى أن يكون الموت من مقدمات الحياة ؟ وما مبرر أن تترك الأم رضيعها وصغارها وترحل عنهم غير مختارة أليست هذه دلالة على عجز الإنسان في تحديد وضبط دائرة الجبر والاختيار في حياة الناس ، مختار في جانب ومجبر في جانب آخر ، أليس هذا دليل على عظمة الله وحكمته ووحدانيته ؟ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحسم مسالة القتال ، بل الله هو الذي شرعه وجعله من مقتضيات الحياة، ليس إلا . واعلم كذلك أن من رحمة الله بعباده أن جعلهم غير مختارين في مسألة الموت ( زوال الدنيا ) ، وجعلهم مختارين في مسألة الإيمان بالله وبرسالته ، هذا إعجاز عظيم ، وشاهد على رحمة الله وعدله سبحانه وتعالى عما يصفون . إن الإيمان بالله وبرسله يجعلنا في موقف من الانسجام والتناغم التام في فهم آياته الدالة على تفسير بعضها بعضا ، إذ لا يعقل أن يتبادر إلى ذهن المؤمن الموحد ، أن هناك تعارضا بين آيات القرآن الكريم ، فمثلا قول الله سبحانه وتعالى : ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ” الآية 8 من سورة الممتحنة . إننا نعتز بمثل هذا الوضوح الذي لا يختلف حوله منصفان ، هذا الوضوح الدال من القرآن الكريم على معنى قول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم في مسألة القتال ، إن هذا من مقتضيات الإيمان ومقتضيات التوحيد ، ( أمرت أن أقاتل الناس ) ، الناس هم الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبليغ رسالة التوحيد ، وآذوه وآذوا أصحابه وأخرجوهم من ديارهم ، لذلك ولذلك فقط شرع القتال ، فالسبب هو وجود خطر يهدد الناس في حياتهم في ديارهم ويمس ضمائرهم وأمنهم وأمانهم وطمأنينتهم ، لذلك كان القتال مبررا ومشروعا . ولكم أن تعودوا إلى أدبيات الثورة الجزائرية وفلكها ، لماذا اختار الجزائريون طريق القتال ، أليس دفاعا عن ضمائرهم واختيارهم وديارهم وأعراضهم ضد محتل معتد مغتصب لحق الناس في الإيمان والحياة ؟ لذلك ولذلك فقط كان قتال الجزائريين للمحتل الغاصب مشروعا ومبررا . ألم يقم المشركون في مكة بمنع رسول الله من تبليغ رسالة التوحيد ، ألم يلاحقوا المؤمنين برسالة الإسلام ويقتلوهم أو يخرجوهم من ديارهم ويجردوهم من أموالهم وأرزاقهم ؟ ألم يقم المحتل الفرنسي الغادر بقتل الجزائريين وتشريدهم من أرضهم وديارهم وإحراقهم داخل المغارات والكهوف ؟ ألم يقم المحتل الإسرائيلي باغتصاب أرض فلسطين وقتل نسائها وأطفالها ؟ لذلك ولذلك فقط كان من حق المظلومين الدفاع عن حياتهم وأعراضهم وضمائرهم ، لذلك ولذلك قامت الحجة على المعتدين الظالمين المحتلين المغتصبين.

وإذن فإن العنف ولد من رحم الظلم ، والظلم من بين أضلع الظالم المغتصب لحقوق الناس ، المحتل لأرضهم المانع لهم من اختيار دينهم الذي ارتضاه لهم ربهم . أما مسألة الصلاة والزكاة فهي مرتبطة بمسألة الإيمان والتوحيد ، فالذي يمنع المسلمين من اختيار دينهم ، فهو يضيق عليهم في مساجدهم ، بل يمنعهم من أداء مناسكهم ، حتى في بيوتهم ، ويستهدفهم في أرزاقهم مصدر خيرهم وزكاتهم.

لذلك لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليجبر الناس على الإيمان ، ناهيك عن إجبارهم على الصلاة والزكاة ، إن العبرة باختيار الإنسان ، فإذا آمن بالله ووحده تأتي بعد ذلك الصلاة والصوم والزكاة لأنها من مقتضيات الإيمان بالله واحدا لا شريك له . لذلك فإن معنى ” الناس ” في الحديث النبوي الشريف هي الفئة الظالمة المانعة المعترضة المقاتلة للمؤمنين والمخرجة لهم من ديارهم ، فإذا انتهت هذه الفئة وتركت المسلمين لحالهم ، يدلون الناس على وحدانية الله ، ويحيون حياتهم ، ويؤدون مناسكهم في أمن وأمان ، انتفت مبررات القتال . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام ، وحسابهم على الله ) . أي أن القتل بعد هذا لا يكون إلا بحق الإسلام ، أي ما شرعه الله ، مثل مسألة قتل النفس بغير حق ، أي قتل إنسان إنسانا آخر بغير وجه حق ،  قال تعالى : ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ”  الآية 17 من سورة الإسراء . فالقتل شرعه الله في هذه الحالة لأنه من مقتضيات الحياة ، القصاص فيه حياة ، القصاص يحافظ على حياة الناس ، وقتل النفس يعد من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله . وحرمة قتل النفس الإنسانية في الإسلام لا غبار عليها ، يقول الله عز وجل : ” من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ” الآية 32 من سورة المائدة . وقوله سبحانه : ” ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق  ” الآية 33 من سورة الإسراء ، والحق هو ما شرعه الله ، أي أنه لا مجال للاجتهاد في مسألة القتل ، فوجه الحق هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى . وانطلاقا من أنه لا اعتراض بين ما شرعه الله سبحانه وتعالى ودل عليه كتاب الله القرآن الكريم ، ودل على بعضه خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم من خلال الأحاديث النبوية الشريفة ، يمكن مقاربة نص الحديث النبوي الشريف ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ” رواه البخاري ومسلم .  مسألة التارك لدينه المفارق للجماعة ، تناولها الفقهاء تحت عنوان الردة ، هل المرتد هو الذي غير دينه ، هل هو الذي بدل دين الإسلام بدين أو معتقد آخر تهود أو تمسح أو ألحد ؟ لا شك أن الدين المقصود به هو الإسلام ، أي من كان مسلما ثم ترك الإسلام ، لأن الحديث ارتبط زمانا ومكانا بدائرة المسلمين ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، لماذا اقترنت عبارة ” التارك لدينه ” بعبارة ” المفارق للجماعة ” ؟ الربط لم يكن اعتباطا ، وإذا فالمسألة واضحة ، أي أن مجرد تغيير الدين ، لم يكن ليعرض صاحبه للقتل ، وبمعنى آخر فإن مجرد ترك الدين لم يكن حدا من الحدود التي شرعها الإسلام كحد السرقة أو حد الزنا أو حد قتل النفس بالنفس ، لذلك اقترنت عبارة ” التارك لدينه ” بعبارة ” المفارق للجماعة ” لزوما ، ليس اختيارا ، كما أن عبارة ” المفارق للجماعة ” لا تعني فقط تغيير الدين ، وإلا لما كان الربط أصلا ، وإذن فالمفارق للجماعة لا تعني تغيير الإنسان لموطنه أو جنسيته بعد ترك دينه ، وإنما المفارق للجماعة هو ذلك الإنسان الذي سلك سلوكا فيه خطر على الجماعة كالتجسس أو كشف عورة المسلمين أو التآمر لصالح العدو وما إلى ذلك من السلوكات التي تدخل تحت اسم المفارقة للجماعة ، فإذا ثبت الخطر من جهة الفرد على المجتمع أو الدولة بلغة الحاضر ، حتى وإن لم يغير المرء دينه ، يمكن أن تصدر مؤسسات الدولة والمجتمع المخولة عقوبة ضد المعني بالأمر ، يمكن أن تصل حد عقوبة الإعدام كحالة خاصة قائمة بذاتها ، فما بالك إذا اقترن ترك الدين بجلب الخطر تجاه الجماعة أو المجتمع ، أو الدولة ؟ لذلك فإن مثل  هذه المسألة ترتبط بالسياسة الشرعية للحكم في مواجهة مثل هذه التحديات غير الثابتة والالتباس الذي أحاط بهذه المسألة أثر سلبا على قراءتنا لنصوص أخرى من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، مثل الحديث : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من بدل دينه فاقتلوه ” رواه البخاري . ، لو كان هذا حدا ثابتا لنص عليه القرآن الكريم ، هذا من ناحية ، ومن ناحية ثانية ، يمكن أن نتأمل كلمة ” فاقتلوه ” فهي واضحة وقائمة بذاتها ، فيها فصل ونوع من الجزم والحزم ، وإذا : فهي غير مطلقة ، بمعنى أنها خاصة ، جاءت في سياق السياسة الشرعية للحاكم أو القائد لمعالجة حالة قائمة بذاتها ، لأن معنى هذا الحديث يتحدد من سياقه ، والبحث عن السياق يقتضي توقع حالة أو مناسبة ، أي المناسبة التي قال فيها رسول الله قوله ، أو حديثه الذي حدث به أصحابه ، وإذا جاز القول بأن الحالة أو المناسبة تتعلق بموقف اليهود الذين أرادوا التأثير على وحدة وتلاحم المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو بحالة مثلها فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل ضمن ما يطلق عليه العلماء موضوع السياسة الشرعية ، أو أحكام الإمامة ، وليس ضمن موضوع الحدود التي شرعها الله وأمر رسوله بتبليغها كما هي ، كحد السرقة مثلا . وإذا سلمنا بأن ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يدخل ضمن أحكام السياسة الشرعية ، كون ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليعالج حالة قائمة بذاتها فيها خطر محدق بحياة المسلمين مكانا وزمانا ، اقتضى من القائد أو الحاكم التصدي له بمثل هذا الموقف ، وعليه فالمسألة خاصة لها سياقها الخاص ، ولجاز أيضا القول أنه كان ممكنا تبني موقفا آخر في حدود الإمكان التاريخي ، كأن يكون الموقف : من بدل دينه فاحبسوه أو اسجنوه ، وفق ما تقتضيه الحالة وخطورتها ، أو المصلحة وملابساتها . الآية القرآنية ، وفق ما ذهب إليه المفسرون فيما ذكر عن ابن عباس ، أن الطائفة المذكورة ضمن أهل الكتاب هي طائفة من اليهود ، قالوا لبعضهم: إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب ، وهم أعلم منا ، لعلهم ينقلبون عن دينهم ، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . وقيل بأن أحبار اليهود هم الذين دبروا هذه المكيدة ، وكان غرضهم زعزعة الجماعة المؤمنة وزرع بذور الفرقة داخلها . فإذا جاز القول:  أن الحديث قيل لهذا السبب لقطع تدبير اليهود وحماية المجتمع الإسلامي أو جماعة المؤمنين ، تكون المسألة واضحة من زاوية السياسة الشرعية ، أم أننا نقول بتعميم مسألة قتل من ترك أو غير دينه ، أو جعلها حدا ثابتا ، فهذا ما لم يقل به العلماء ومنهم على سبيل المثال : العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ، والدكتور طه جابر العلواني رحمهما الله  . الآية التي ذكر فيها الله سبحانه طائفة أهل الكتاب هي قوله سبحانه وتعالى : ” وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ” الآية 72 من سورة آل عمران . والتعارض هنا ، ليس بين آيات القرآن الكريم و حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما المشكلة في فهمنا للنصوص ، ومن رحمة الله أن جعل للمجتهد المخطئ أجرا ، وللمجتهد المصيب أجرين ، و من عظمة الإسلام أنه لم يجبر أحدا في مسألة الاعتقاد ، الآيات القرآنية واضحة في ذلك ، يقول الله : ” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم ” الآية 256 من سورة البقرة . وقوله تعالى : ” وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر …” الآية 29 من سورة الكهف . والقاعدة في مسألة القتل هي أن القتل ليس سوى من مقتضيات الحياة ، سواء في مسألة الحدود الثابتة التي بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه كما هي ، أو ما تعلق بقتل المرتد الذي يدخل ضمن السياسة الشرعية أو موضوع الإمامة ، فيتم تقدير الخطر الذي تسبب فيه الفرد المرتد ، أو الجماعة المرتدة ، أو ما يمكن أن ينتج عن ذلك من أضرار تمس بحياة المجتمع ، وفي عصرنا تبقى مسألة التقدير من اختصاص مؤسسات الدولة والمجتمع المخولة قانونا ، ويحدث هذا وقت الحروب أكثر منه وقت السلم . أما مسألة القتال فهي الأخرى من مقتضيات الحياة ، ليس إلا ، ومن مقتضيات الحياة أن نمنع الفساد في الأرض ، يقول الله : ” الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ، ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ” الآية 40 من سورة الحج.

وقوله سبحانه : ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ” الآية 251 من سورة البقرة.

وقد سبق الحديث عن مسألة العنف والتدافع تحت عنوان ” فكرة اللاعنف تحكم فكرة التدافع ” أو ” مبدأ اللاعنف يحكم فكرة التدافع ” ذلك أن القاعدة المتصلة بالقتل والقتال واللاعنف واحدة ، وهي أن هذه جميعا من مقتضيات الحياة ، وكذلك مسألة الاستشهاد ، حيث تم التطرق إليها تحت عنوان : ” مبدأ الشهادة يحكم فكرة الاستشهاد ” . ولا بأس من التذكير بذلك نظرا لوحدة الموضوع.

*مبدأ اللاعنف يحكم فكرة التدافع :

.فكرة اللاعنف التي طرحها الأستاذ سعيد جودت.

تعتمد هذه الفكرة وترتكز حسب الأستاذ على موقف قابيل من أخيه هابيل، أحدهما اعتمد أسلوب القتل خيارا له في مواجهة أخيه، والآخر اعتمد خيار الكلمة والإقناع ورفض وسيلة القتل لحل الخلاف.

استخلص الأستاذ مباشرة فكرة “اللاعنف” وحاول إقناع الناس أنها السبيل الوحيد المشروع في أي عملية تغيير وأعطاها طابعا عاما، أي أنها ملزمة في الصراع بين بني آدم في كل حين، وأن العنف مرفوض جملة وتفصيلا، ولم يستثن، لا الثورة الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، ولا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي القائم منذ عشرات السنين، حيث اعتبر الطريق الوحيد السليم والمشروع هو طريق اللاعنف.

وأول ما ينبغي إدراكه هو وجود نوعين من الصراع، صراع طبيعي وصراع مصطنع، فأما الصراع الطبيعي، فيمكن أن يحدث بين أتباع دين سماوي في مجتمع قائم لهم وكيان خاص بهم، وبين معتدين يستهدفونهم في سلمهم وسلامتهم وأمنهم وأمانهم، أو يحدث كذلك بين غزاة محتلين وشعب يبتغي السلام والحرية. أما أن يتولد الصراع بين أبناء المجتمع الواحد، أو أبناء الأمة الواحدة فهو صراع مصطنع، أي أن مادته الأولية أو تربته هي من صنع الدوائر الفكرية المخبرية التي هيأت ظروف الصراع واستثمرت بذور الغلو والتطرف. وللتبسيط أكثر أقول: إن مبررات الصراع المصطنع لا مكان لها سوى داخل عقول مدبريه، أما مبررات الصراع الطبيعي فهي مبررات ما بين النور والظلام أو الحرية والاستبداد من فروق واختلاف.

إننا إذا فرقنا بين هذين النوعين من الصراع يمكن أن نفهم فكرة اللاعنف، ومن ثم يمكن القول أن الصراع الذي حدث بين قابيل وهابيل صراع مصطنع وبالتالي لم تكن فكرة العنف مقبولة ولا مشروعة لأن الصراع في هذه الحالة قام ونبع من داخل جسم واحد أو كيان واحد، وأن اعتماد أسلوب العنف أو القتل سوف يقضي على هذا الكيان الأسري أو المجتمعي الواحد، ولما اعتمد قابيل أسلوب القتل خرج عن كيانه ومجتمعه وارتكب مخالفة أخبرنا بها القرآن فيما بعد، أما هابيل فقد قدر وفهم طبيعة الصراع فالتزم أسلوب اللاعنف ولم يرض عنه بديلا، ومبررات مثل هذا الصراع، لم تكن مسوغة سوى لدى إبليس والدليل على ذلك ندم قابيل بعد قتله لأخيه هابيل.

أما الصراع الطبيعي فمثله ذلك الصراع الذي دار بين مجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ومجتمع المشركين في مكة، والشاهد معركتا بدر وأحد، إن مبررات ذلك القتال هي مبررات ضرورة وقف خطر المشركين الذين تربصوا بمجتمع المدينة شرا ،وإذا ، فالعنف أو القتال صار مشروعا ومبررا لما تحقق وجود جسمين مختلفين، يشكل أحدهما خطرا على الآخر بغير وجه حق، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمد أسلوب العنف قبل الهجرة في مكة لأنه كان ينتمي إلى ذلك الجسم وحينها لم يكن العنف مشروعا ولا مبررا، خصوصا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدرك طبيعة ذلك، أي كان حريصا على سلامة الجسم الواحد وحريصا على عدم فقدان مثل هذا الجسم لمقومات الحياة.

مثال آخر هو اعتماد الجزائريين أسلوب العنف، أي القتال أو الدفع، لقد كان ذلك مبررا بسبب وجود كيان مستقل بذاته له مكوناته المتجانسة كضرورة من ضرورات حياته، وفي المقابل وجود جسم غريب ومتطفل، ألا وهو جسم المستعمر الذي كان يحمل خطر الفناء تجاه الجسم الأول، ومن ثم كان العنف والقتال مشروعا ومبررا لبقاء مقومات الحياة بالنسبة للمجتمع الأول. نفس الشيء ما يحدث في فلسطين، فنحن أمام جسمين متنافرين الأول قائم بذاته له مجاله الحيوي، والثاني متطفل يتربص بالأول شرا، إن أسلوب العنف والقتل في هذه الحالة مشروع ومبرر.

أما الصراعات التي حدثت وتحدث داخل المجتمع الواحد أو الكيان الواحد، فلا مبرر لها داخل عقول مكونات هذا الكيان، ولا مشروعية لها، كونها تعرض مقومات هذا المجتمع إلى الهلاك والفناء، ويستوي في ذلك الذي حدث في الجزائر إبان تسعينيات القرن العشرين، وما حدث في مصر وليبيا، وما يحدث الآن في كل من اليمن وسوريا. وحتى الذي حدث في الهند وتسبب في انفصال باكستان هو من الصنف نفسه تقريبا، حيث حال ذلك ومنع أهل الشهادة من المسلمين العاملين تبليغ منهج النبوة في دعوة الناس إلى توحيد الله، ولعل ذلك هو سر حزن الأستاذ مالك بن نبي لما حدثت عملية الانفصال. ولعلك تتساءل عما حدث في “صفين” التي هي امتداد لما حدث في موقعة “الجمل”، أهو صراع طبيعي أم صراع مصطنع؟ والجواب معلوم من طبيعة الذي حدث فأين نعثر على مبررات مثل ذلك الدفع؟ هل له مبرر داخل عقول الصحابة؟ إن مبرراته نبتت فقط داخل عقول من كانوا وقتها يتربصون بأمة التوحيد شرا، ولذلك سميت بالفتنة الكبرى، ومن ثم فالقول بأنها صراع أو دفع مصطنع صحيح وسليم. أما طريقة تناول هذه الفتنة في وقتنا الحاضر فهي بعيدة كل البعد عن دائرة الحكمة، إن أسلوب السب واللعن ليس من رصيد أمة التوحيد في شيء، فهو مخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار، فهل كانت السيدة فاطمة بنت رسول الله أو الإمام علي أو الحسن أو الحسين أو غيرهما من آل بيت رسول الله عليهم جميعا السلام، ينتهجون طريق اللعن والسب والتكفير؟ فهل من الحكمة أن يلعن مسلم اليوم زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يسب بعض أصحابه، أو يكفر فريق فريقا آخر؟ إن مثل هذا الأسلوب ينمي فقط بذور الصراع أو الدفع المصطنع، إنه إذا كان ولا بد من قراءة في تلك الفتنة فينبغي أن تؤتى من باب الحكمة، لا غير.

لقد وصلنا ـ دون ريب ـ إلى فك شفرة فكرة اللاعنف، إن هذه الفكرة نسبية ومن ثم فهي غير مطلقة، فإطلاقها أو السعي لتعميمها غير مؤيد، لا وحيا ولا عقلا.

أما قول الله سبحانه: “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” (الآية 251 من سورة البقرة)، فهي تؤكد مشروعية القتال في حدود الحفاظ على الكيان الواحد من الهلاك والفناء، لأن فساد الأرض هو مثل ذلك الهلاك الذي يمكن أن يلحق بالمجتمع الإنساني. وأذكر أن أسلوب العنف أو القتال المعبر عنه بالدفع ليس مطلقا، فهو مشروع ومبرر للحيلولة دون حدوث الفساد في الأرض ألا وهو هلاك المجتمع الإنساني. والدليل على محدودية الأخذ بأسلوب القتال أو العنف هو قوله سبحانه: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين” (الآية 8 من سورة الممتحنة)، إن هذه الآية تبين لنا محدودية اعتماد أسلوب العنف أو القتال من ناحية، ومشروعية ومبررات ذلك كمسألة نسبية من ناحية أخرى.

وإذا كان الدفع من خلال اعتماد أسلوب العنف أو القتال مشروعا ومبررا بشكل محدود ونسبي، فإن الدفع بهذا الأسلوب يأتي بعد الاجتهاد في الدفع بالتي هي أحسن مصداقا لقول الله سبحانه: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (الآيتان 33 ـ 34 من سورة فصلت). لاحظ ما هو مقدم على الأخذ بأسلوب العنف، بشرط التمييز بين الصراع المصطنع والصراع الطبيعي أولا، إنه اعتماد الدعوة إلى بيان أساس الاختلاف بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات المتمثل في توحيد الله، هذا مقدم على غيره، إنك إذا أقنعت النصراني ببطلان فكرة التثليث سينتهي الخلاف وسيسلم الجميع، أما إذا خالفت المنهج النبوي ودخلت في معارك غير مبررة، أساسها اللعن والسب والشتم فإن ذلك سيزيد في الهوة، لاحظ أيضا تقديم العمل الصالح على التعريف بكونك مسلما، أو إن شئت ضرورة ارتباط القول بأنك مسلم بالعمل الصالح، فالذي يشفع لك في الدنيا قبل الآخرة بعد توحيد الله سبحانه هو العمل الصالح، وليس هو الكلام المجرد، واعلم أيضا أن الدفع بالتي هي أحسن في هذا المقام بالذات مطلوب مع الأعداء، ومن ثم فإن مشروعية القتال ومبرراته جاءت في نهاية المطاف، أي بعد استنفاذ كل الطرق والأساليب المشروعة الأخرى.

إن الأستاذ سعيد جودت اجتهد في حدود الكلمة التي لم تتسبب في قتل نفس بغير حق كما أنها لم تكلف هذا أو ذاك أي عناء، لقد ساهم في طرح فكرة لم تكن موجودة بالأساس، بأسلوب طيب، ليس للسب ولا للعن ولا للإساءة فيه حظ ولا مكان. أما قول الأستاذ سعيد جودت: (الديمقراطية تعني توحيد الله لأنها تفيد بألا يكون لدينا آلهة بشرية نعبدها). فهو كلام مبرر من حيث:

1 ـ الديمقراطية ليست نظاما قائما بذاته، حتى يحكم عليه البعض بالكفر أو البطلان أو الفساد.
2 ـ الديمقراطية ليست حكرا على جهة بعينها.
3 ـ الديمقراطية لا تقبل الربط أو الإضافة كي نحدد مفهومها.
4 ـ الديمقراطية هي انشغال إنساني طرحه إنسان المدينة في أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، أوضحه بريكليس من خلال تطلع الإنسان إلى الحرية بدل الاستبداد، والسعادة بدل الشقاء، حيث قال: “على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن” (انتهى كلام بريكليس)، فأين الكفر أو الباطل من هذا؟
5 ـ هل أصل العلاقة التي تربط المسلم بالأمم والشعوب غير الموحدة وخصوصا أهل الكتاب، هل هي علاقة عداء؟ الأصل في العلاقة هي علاقة شهادة، أساسها الدعوة إلى توحيد الله والدفع بالتي هي أحسن، أو لم نقرأ قوله سبحانه: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون” (الآية 64 من سورة آل عمران).
6 ـ جاء في الحديث الشريف: “الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها”.

الحكمة، لا يمكن أن تختلط بعمل فاسد أو مفسد وإلا ما كانت حكمة، ومن ثم فإن الأصل في الحكمة هو المنفعة المرتبطة بالإصلاح، والحكمة كما قيل، تعني الوعي بما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، وهذا المطلب ليس في متناول الجميع، فهي لا تباع ولا تشترى، وإنما تؤتى من قبل أولي العزم المهتدين الهادين.
والخلاصة إن قول الأستاذ سعيد جودت، نفهمه على وجهه السليم من حيث أن جو التفاهم والحريات بالمعنى الحقيقي والصارم، يسهل على المسلم تبليغ رسالة التوحيد إلى الآخرين ويساعـد على تضييق دائرة الظلم والاستبداد، ومن ثم يسهل الطريق أمام اهتداء الناس إلى توحيد الله.

*مبدأ الشهادة يحكم فكرة الاستشهاد :

عالم الشهادة عالم مشهدي، عالم الشهادة يتطلب الحضور، والحضور قائم بشقيه، الحضور في دنيا الناس والحضور يوم القيامة ، أو الحضور بين يدي الله.

يقول الله سبحانه : ” وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۖ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ ۚ قَوْلُهُ الْحَقُّ ۚ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۚ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ  ” الآية 73 من سورة الأنعام.

وقوله عز وجل:” يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ” الآية 6 من سورة المجادلة.

الشاهد في دنيا الناس، يمكن أن يحضر فيشهد، ويمكن أن يغيب فيمتنع عن الشهادة، والحضور نوعان، حضور سلبي ، وحضور نافع ، فالشهادة من باب الإحسان ، وليس من باب الإساءة . الشاهد حينما يحضر ، يشهد بما رأى أو سمع أو علم ، كأن يطلب للشهادة أمام محكمة قصد الفصل بين طرفين متخاصمين ، هذا نوع من الشهادة ، أما النوع الثاني فهو حضور من نوع آخر ، نابع من موقف الشاهد ، كموقف سيدنا موسى عليه السلام أمام ( فرعون )، حيث شهد بما آمن وبما علم ، شهد بوحدانية الله أمام الحضور وعلى رأسهم ( فرعون ).

يقوا الله عز وجل : “وقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْن ، إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ، حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ” الآيتين 104 ـ 105 من سورة الأعراف.

ومثل ذلك الحضور أو الشهادة جسدتها مواقف كثير من الرجال والنساء مثل الذي حدث لسيدنا ( ياسر ) والد الصحابي الجليل ( عمار) وأيضا الذي حدث لوالدته( سمية ) ، كل منهما حضر وشهد واستشهد . كذلك الموقف الذي وقفه البطل الجزائري (العربي بن مهيدي ) إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر ، لقد كان حاضرا وشاهدا ، وهو الذي قال لمن أراد أن يذكره بلفظ الشهادة : ( أتذكرني بالشهادة وأنا أموت من أجلها ) . لاحظوا هذه المواقف وغيرها ، كيف أن الشهادة تضمنت الموت والاستشهاد.

يقول الله سبحانه : ” وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ” الآية 158 من سورة آل عمران.

وقوله عز وجل:”وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ” الآية 157 من سورة آل عمران

وإذن فالاستشهاد وليد الشهادة ، أو هو نابع من الشهادة ، أليس كذلك ؟ هذا ما ينبغي الاتفاق عليه من البداية ، وإذن فالشهادة هي مصدر الاستشهاد في دنيا الناس ، أما الإنسان الذي يفجر نفسه في سوق أو في حي سكني ، أو في تجمع لقوات أمن ، هل هو من باب الشهادة ؟ أهو سلوك فيه حضور وفيه شهادة ؟ أين هي الشهادة وأين هو الحضور وأين هو الموقف المعبر عن الاستشهاد ؟ إن مثل هذا السلوك لا يبرره دين ولا عرف ، لم يشهد به نبي ولا رسول ، ولا عبد صالح في دنيا الناس ، إن مثل هذا الموقف أو الفعل ، إن عبر فإنما يعبر عن غياب وعن تغييب ، غياب عن عالم الشهادة من دنيا الناس ، وتغييب للناس عن عالم الشهادة ، غيب نفسه وغيب معه أبرياء بغير وجه حق عن عالم الشهادة ، أما هو فقد غاب عن دنيا الناس ، وأما الناس الأبرياء فسيشهدون عليه بين يدي الله يوم القيامة.

إن المشكلة في موضوعنا هذا ، هي في سوء فهمنا و سوء تقديرنا لعالم الشهادة ، وهي نابعة من غياب السياق الذي ينبغي أن نبني عليه فهمنا ، والسياق هو قراءة القرآن وقراءة السنة العطرة ، ليس قراءة عابرة ، ولكن القراءة التي أمرنا الله بها في سورة العلق ، وهي أن نقرأ بسم الله ، أي نقرأ لله وفي سبيل الله ، قراءة شهادة من بداية السورة إلى نهايتها .
وهل مرت بنا قراءة الآية التي يقول فيها الله سبحانه: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ” الآية 117 من سورة المائدة.

كم هو واضح وجلي لمن أراد أن يقرأ ويفهم ويشهد ، ماذا يعني ( ما دمت فيهم ) ، أهي تتصل بدنيا الناس ، أم بالآخرة ؟

وقوله 🙁 كنت أنت الرقيب عليهم ) تتصل بدنيا الناس أم بيوم القيامة ؟ هل يمكن أن نقرأ مرة ثانية ونفهم قوله تعالى:” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدً ”  الآية 143 من سورة البقرة.

إننا في حاجة إلى التواصل مع الأستاذ ( مالك بن نبي ) من خلال فكره وتفكره وتدبره ، إذ يمكن أن نتساءل رفقته عن سر ( حزنه ) يوم انفصلت ( باكستان ) عن ( الهند ).

 إنكم إن أحسنتم القراءة وتفكرتم وتدبرتم ، لوجدتم المسألة متصلة بعالم الشهادة.

 لقد قرأ أستاذنا  ( بن نبي) المسألة يومها وهو ـ دون ريب ـ في حالة نفسية ووجدانية وعقلية وسلوكية جد ممتازة ، لعل السر في ذلك تحرره من نوازع دنيا الناس ومن شهواتها المتصلة بالشجرة التي نهى الله أبانا ( آدم ) أن يقترب منها.

 لقد أدرك أستاذنا ( بن نبي ) أن المسألة متصلة بعالم الشهادة ، وإلا فما معنى قوله سبحانه : ” فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ، وأنت على كل شيء شهيد ” ؟ لقد قرأ ( بن نبي ) ثم قرأ وتدبر في سؤال الشهادة المتصل بدنيا الناس ، فأدرك أن جوهر الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان متصلة فعلا بعالم الشهادة المتصل بدنيا الناس، خصوصا بالنسبة للإنسان الذي أسلم وجهه لله الواحد القهار واقتدى بخاتم الأنبياء والرسل عليهم سلام الله.

 وأقول في هذا المقام بالذات أن : من لم تنصلح شهادته في دنيا الناس فلا معنى لشهادته يوم يقوم الناس بين يدي الله.

أعود لموقف الأستاذ ( مالك )، وأتساءل من جديد ، لماذا أحزنه انفصال ( باكستان ) عن ( الهند ) فبدل شعب واحد صار شعبان ، وبدل كيان واحد صار كيانان ، ومن منا تساءل ، كيف أمكن الفصل بين الإخوة وبين الجيران ؟ هل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف تعامل مع بني جلدته من مشركي قريش ؟ كيف حافظ على كيان المجتمع الواحد ؟ إن مثل هذه الأسئلة تحتاج منا مزيدا من القراءة ومزيدا من البحث والتأمل والتدبر.

إن موقف ( مالك ) نابع من حضوره وشهادته، فماذا عن  ( باكستان ) بعد الانفصال ؟  ماذا عن الناس وعن دنيا الناس هناك ؟ ثم ماذا عن (الهند ) بعد انفصال باكستان عنها ، ماذا عن دنيا الناس هناك ؟ ما علاقة هؤلاء وأولئك بعالم الشهادة بعد الانفصال ؟ الناس في باكستان ما بعد الانفصال وباكستان اليوم في حيرة من أمرهم ، لم تسعهم أرضهم بسبب بعدهم عن مركز الدوران ، وليس مركز الدوران إلا الوسطية التي حدثنا عنها القرآن من قبل ، لم يسعهم وطنهم الموحد ، واليوم لم يسعهم وطنهم بعد الانفصال ، أتدرون لماذا ؟ إن المسألة متصلة بمركز الدوران المعبر عنه في القرآن الكريم بالوسطية أو مبدأ الشهادة ، لقد اختاروا خطا صاعدا في اتجاه واحد ، ليس حدا وسطا ، الخط الذي لا يقبل بالآخر ، حتى وإن كان الآخر من القبيلة الواحدة ، أو الشعب الواحد ، أو حتى الدين الواحد ، خط يقترب من العبودية تارة ، ومن الاستعباد تارة أخرى، نعود لباكستان ، المساجد بالآلاف ، دور العبادة لا تحصى ولا تعد ، كتب الفقه والتفسير والوعظ بالملايين ، أما الغائب ـ للأسف الشديد ـ فهو مبدأ  ” الشهادة ” ، من الذي غيبها ، أهو الاستعمار ؟ أم هي القابلية للاستعمار وفق تعبير ( بن نبي) ؟ ننام ونقوم على مزيد من الأخبار ، تفجير في مسجد هنا ، وانتحار في سوق هناك ، الضحايا من الأبرياء يوما بعد يوم بالمئات ، الفاعل في كل الحالات غائب ، فهو إما عبد ، وإما مستبد بعيد كل البعد عن الحد الوسط ، بعيد عن مركز الدوران ، إما إلى العبودية وإما إلى الاستبداد ، الفاعل غائب عن دنيا الناس ، غيب نفسه وغيب معه آلاف الأبرياء عن دنيا الناس ، فبدل أن يكون حاضرا وشاهدا ، صار غائبا ومغيبا ، هذا في باكستان.

أما دنيا الناس في الهند ، فكما حرمت من نور الشهادة بالأمس ، فهي في أمس الحاجة إلى نورها اليوم ، كم كان طريق الشهادة ميسورا قبل الانفصال ، العرق واحد ، واللغة واحدة ، والعادات جد متقاربة ، سهولة التواصل حاضرة ،أسباب التفاهم حاضرة ، عوامل التواد والتراحم كلها حاضرة.

أما اليوم بعد عشرات السنين ، كم تباعدت المسافات ، وكيف هي الموانع والعقبات ؟

سبحانك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي.

أيها الناس عودوا إلى سنة خاتم الأنبياء والمرسلين وسيرته صلى الله عليه وسلم ، تأملوا بعد القراءة وتدبروا ، ستدركون ـ دون ريب ـ كيف هي المسافة بين أقواله وأفعاله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ، لقد انعدمت المسافة ، فهو المثل الأعلى  في الوسطية التي حدثنا عنها القرآن الكريم ، قال الله تبارك وتعالى: ” وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ”  الآية 143 من سورة البقرة.

فكيف ستشهد أيها المسلم ، وعلى من ستشهد ، وأين ستشهد وبماذا ستشهد ؟ هل أنت حاضر في دنيا الناس ؟ ما موقفك من نفسك ، وما هو موقفك من الآخرين ؟ كيف هي المسافة بين قولك وفعلك ؟ هل خطوت خطوة في عالم الشهادة ؟ أم أنك خطوت خطوات في عالم التغييب ؟ عند هذا الحد فقط أفهم لماذا حزن يومها ( مالك ) وفرح الكثيرون ، وعند هذا الحد أعود لأستاذنا ( مالك ) مستفسرا عن مركز الدوران ، أو الوسطية التي عناها القرآن ؟ لقد أجاب عن مثل هذا التساؤل قبل عشرات السنين عندما سئل عن ( الديمقراطية ) والإسلام ، أو إن شئت عن موقف الإسلام  من الديمقراطية  ، أو موقفه هو من الديمقراطية وفق فهمه للإسلام ، لقد قدم الحجة من خلال تحديده لمركز الدوران ، أو الوسطية في الإسلام ، فاعتبرها بمثابة الحد الفاصل بين نافيتين ، نافية العبودية ونافية الاستعباد ، حيث يقول :  ” فالإنسان (الحر ) أي الإنسان الجديد الذي تتمثل فيه قيم الديمقراطية والتزاماتها ، هو الحد الإيجابي بين نافيتين ، تنفي كل واحدة منهما هذه القيم وتلك الالتزامات : نافية العبودية ونافية الاستعباد. ”  من كتابه القضايا الكبرى
وإذن فالأمة الوسط هي الأمة الحرة التي تقف حدا فاصلا بين نافية ال( أنا) ونافية الآخرين.

إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي الأمارة بالسوء.

بشير جاب الخير
27 سبتمبر 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version