ليس من السهل مقاربة ما تم تداوله من مصطلحات ، خصوصا حينما ألبسوها لبوسهم ولبسوها تلبيسهم وأرغموها على إخفاء كثير من تفاصيل اللباس وإظهار كثير من مظاهر اللبس ، حتى تعذر على الناس تمييز اللباس من التلبيس . فقالوا للناس : الوطنية خلق وإيمان ، والوطنية سلوك ، والوطنية عصبية ، والوطنية التزام ، الوطنية شعار ، والوطنية إحساس وانتماء ، الوطنية مسألة شخصية ، أم مسالة جماعية ، وما إلى ذلك من تعبيرات ، بغرض وبغير غرض ، فلا اللباس بقي لباسا ولا الشعار تحقق في واقع الناس ، لذلك وبذلك استخدمت عبارة وطنية أسوأ استخدام ، واستغلت سوء استغلال ، لذلك وبذلك تم تقطيع أوصال الديار والأوطان ، أما الهوية فقد سيسوها وقطعوها ، وأما الدولة فقد استهدفوها في إجماعها واجتماعها وسياستها ، وأما المجتمع فقد سلبوه سكينته و بهاءه وجماليته ، فهم أهل لبس والتباس وتلبيس وتسييس وتقطيع وسلب ومكر وخداع ، وإلا فما معنى أن يرفع إنسان صوته في وجه إنسان آخر فيخاطبه بقوله : أنا وطني ، دون أن يدري أنه لا يدري، وإلا لما تجرأ على القول، لأن مثل هذا القول يفتح المجال، فيسأل الطرف الثاني سؤاله : بأي ميزان نزن خطابك ، هل ( وطنيتك ) قابلة للتحويل فتترجم إلى كفاءة اجتماعية ، ثقافية ، سياسية ، قانونية ، وإبداع أو اختراع ؟ بماذا تميزك ( وطنيتك ) أو قولك هذا في عالم المال والأعمال ، ماذا يضيف إلى رصيدك ورصيد مجتمعك ؟ هل لكلامك هذا دليل ، هل لمثل خطابك هذا أثر وبيان في عوالم المجتمع ، أم أنك بكلامك هذا صرت بلا قيمة ولا أثر ؟ أنت قلت والآخر سأل ، أنت قلت والمجتمع سأل ، واعلم ، إذا كنت لا تعلم ، أن إنسان الألفية الثالثة ، لم يعد يقبل مثل هذا اللبس وهذا التلبيس ، وهو اليوم يرفض كل أساليب التضليل والتدليس . لقد سألني سائل ذات مرة :

هل شعار الوطنية رخصة يمنحها المجتمع أو الدولة ، أم هي لقب تمنحه الجامعات والمعاهد ، أم هي منحة لم نعرف طبيعتها بعد ؟ إن الإنسان الحر ، الموصوف بالحد الإيجابي أو الحد الوسط ، لا يقبل رخصة لم ينصص عليها قانون ، ولا يقبل لقبا بلا أساس ولا روح ، ولا يقبل منحة دون استحقاق ودليل . وإذا فما مدلول مثل هذا الشعار الذي لا نعثر له عن مبررات داخل منظومتنا الاجتماعية والثقافية ، العرفية والقانونية ، وما مدلوله إذا لم يترك أثره الإيجابي في واقع الناس هدما وبناء ، تخلية وتربية ، تصفية وتحلية ؟ ما هذه الوطنية التي إذا نطقت بها كذبتك ، وإذا تخفيت بها تعريت ، وإذا استهنت بها أهانتك ، أتدري لماذا ؟ لأنها ولأنها فقط ، هي بمثابة العملة التي لا تقبل التحويل ، فهي بمثابة الأم العذراء التي لا يسري عليها ما يسري على الأمهات ، من ذهاب العذرية ، والتقدم في السن ، وذهاب صحة البدن والسمع والبصر ، فهي تسع جميع أبنائها ، مضيافة إلى أبعد الحدود ، لا يسعونها بأموالهم ولا بألقابهم ولا بمذاهبهم ، تمنحهم الرحمة والعزة والأمان والشموخ والاطمئنان ، فهي للوطن والوطن بها ، فإذا أردت أن تستدل على الوطنية فتدرك مدلولها فزنها بميزان الحرية ، يمكنك قياسها وقبل ذلك تحسسها من خلال تحسس حرية الديار والأوطان ، نتحسسها وندركها كلما زادت مناعتنا وانتفت قابليتنا للاستبداد ، نستدل عليها في مدارسنا من خلال سلامة ونباهة أطفالنا وحضور ووعي أساتذتنا ، تقييما وتقويما ، علما وبيانا ، أثرا وامتحانا ، نستدل عليها في مزارعنا فنشهد بخيرات الأرض ونشهد بآثارها ، نستدل عليها في جامعاتنا فندل عليها بقيمة الشهادة وأحقية صاحبها ، نستدل عليها بسمعة البلاد والعباد في شتى أنحاء المعمورة ، كسمعة ثورة الجزائر وشهدائها . لاحظ وتأمل معي في عبارة ” المجموعة الوطنية ” ، ماذا تعني ، إذا فقد الشعب أمنه أو حريته أو سكينته  أو عافيته أو وحدته الترابية ؟ ماذا تعني ، إذا فقد المجتمع نظامه وتنظيمه ونشاطه وحيويته ؟ ماذا تعني إذا فقد القانون روحه ، أو حتى سمعه وبصره ؟ ماذا تعني ، إذا فقدت الدولة مصداقيتها ، والمجتمع استقلاله ، والشعب سيادته ؟ لذلك ولذلك فقط دعنا نفحص الفقرة التالية من دستورنا ، في مادته 62 : ( وعلى كل مواطن أن يؤدي بإخلاص واجباته تجاه المجموعة الوطنية ) ،

أولا : هل الكلمة ” مواطنة ” تكافئ الكلمة  ” وطنية “، كأن نقول، على سبيل المثال:محمد مواطن محمد وطني ، هل الأولى تكافئ الثانية ؟ العبارة : ( محمد وطني ) لا تعني شيئا بالنسبة للجماعة الوطنية ، لا تعني شيئا في عالم الحقوق والواجبات ، فهي لا تنتج حقوقا ولا واجبات ، ومن يقول غير ذلك فليأتينا بالدليل ، وإذا فإن عبارة ( محمد وطني ) لا يتحملها محمد ، لأنها تجعله في موقف يحتاج إلى توضيح ، فإما أن هناك من يشك في انتمائه إلى المجموعة الوطنية ، أو يشك في التزامه بواجباته بصفته ( مواطن ) ، أو أنه يريد أن يحصل على شيء ، أو امتياز ليس من حقه أو نصيبه  ، أو أنه يرى صورته مشوهة في صورة الأم العذراء ، وكأنه يريد أن يحل محلها ، أو يسرق منها خصوصيتها أو ينال من سمعها وبصرها ، فكأنه ينتظر منها أن تراه وتسمعه دون سواه ، ولا تسع سواه من أبناء وطنه ، إن عبارة ( محمد وطني ) تسيء إلى محمد وإلى وطن محمد وإلى شعب محمد ، لا لشيء سوى لأن المجموعة الوطنية ترى من واجبها الحفاظ على الأم العذراء ، لأن في ذلك حفاظا على ماضيها وحاضرها ومستقبلها . أما عبارة ( مواطن ) فهي قابلة للتحقق من خلال العلاقة التي تقوم بين الإنسان كفرد وبين الدولة التي ينتمي إليها ، فهذه العلاقة تنتج ( محمد مواطن ) الذي يرتبط بالمجموعة الوطنية من خلال الواجبات والحقوق ، وإذا فمحمد يقبل بهذه العلاقة وهذا الانتماء ، ومثل هذا يقبله محمد وتقبله المجموعة الوطنية وتقبله الأم العذراء . وحتى تتحقق مثل هذه المعالم ينبغي أن يتساوى أعضاء المجموعة الوطنية أمام القانون ، أي أن يتساوى ( الوطنيون ) ، معذرة ،  (المواطنون ) أمام القانون ، ورد في المادة 29 من الدستور:” كل المواطنين سواسية أمام القانون” إن أي إخلال بالقانون في مواجهة حق الشعب في اختياره لنظام الحكم ، وحقه في اختيار ممثليه لإدارة الشأن العام المتصل بحياة المجموعة الوطنية وحضورها وحركتها وأمنها وأمانها ، المنبثق من علاقة المواطنة القائمة بين المواطن ودولته ، هو إخلال بنظام الدولة كله وإساءة إلى الأم العذراء وسمعها وبصرها وروحها ، فهي أخشى ما تخشاه على المجموعة الوطنية ، من الاستبداد ، ومن بذور الاستبداد ، ومن القابلية للاستبداد . إن المساواة أمام القانون يتساوى فيها الحاكم والمحكوم ، بل مصداقية الحاكم من مصداقية المحكوم ، وحرية الحاكم من حرية المحكوم ، وكرامة الحاكم من كرامة المحكوم ، وأي إخلال بهذا التوافق والتناغم هو إخلال بروح القانون وروح الحرية وروح المساواة.

وعلى هذا الأساس فالمواطنة لا ترتبط بعوامل الجنس ، واللون ، والمال ، واللسان ، والفقر ، والغنى والمنصب ، والجاه ، والجهة ، والعرق ، والمذهب ، إن دولة المواطنة ، دولة الحقوق والواجبات ، دولة القانون ، لا تتأثر بكل هذه الفوارق ، في عملية الهدم والبناء ، وعملية التخلية والتربية ، وعملية التصفية والتحلية ، الجماعة الوطنية تتحول على طريق النهضة في صحوة اجتماعية ، ثقافية وسياسية ، إلى دولة المواطنة ، في رباعية متناغمة مع خصوصياتها ووجهة الأم العذراء نحو عتبة الإقلاع الحضاري الذي يستحضر التاريخ والحاضر والمستقبل ، فترى الأم جميع أبنائها وتسمعهم جميعا وتحيى بهم ولهم جميعا.

الوطن يتصل بالوحدة الترابية ، ومعامل هذه الوحدة هو الوطنية غير القابلة للاشتقاق ، ودليلها في حياة الشعب أو الأمة هو المواطنة ، وإذا فالأم الطاهرة  ، أو الأم العذراء ، أو رابعة أم الشهادة والشهداء ، ترفض الشعارات الفارغة والادعاءات الكاذبة ، وأباطيل الاستبداد ، الاستبداد واحد ، لا جنسية له ، ولا دين له ، ولا عهد ولا وعد له.

الوطن هو رقعة الأرض التي يرتبط بها وجود شعب ، إذ لا معنى لشعب بلا أرض، ولا معنى لوطن بلا شعب ، فإذا تحقق وجود الشعب ووجود الأرض ، وانتفى وجود المغتصب أو المحتل ، تحقق الوطن

واستوفت الوطنية مقامها واستمدت بريقها من أرض الآباء والأجداد ( أبا عن جد ) ، دون الحاجة إلى ترديدها أو اختزالها في شعار ، أو محاولة التخفي تحت جناحها بدعاوى كاذبة.

أما ” المواطنة ” فهي علاقة قائمة بذاتها ، لم تتحدد ملامحها ، ولا آثارها ، يوم كان النظام القبلي غالبا ، خصوصا عند العرب ، ولا يوم كان الإنسان على فطرته في إفريقيا أو أمريكا ، قبل عمليات الاغتصاب والنصب والاحتيال التي قادها ( الغرب) ، مثل هذه العلاقة ولدت في ظل دولة ” المدينة ” أو الدولة المدينية عند الإغريق ، خصوصا أثينا ، ولدت العلاقة وترعرعت ، فميزت الأثينيين القدامى في مجتمعهم وفي دولتهم ، ومن رحم هذه العلاقة ولدت صفة المواطنين الأحرار ، فلم تشمل الغرباء عن المدينة ، وكذلك فئة العبيد الذين وجدوا أنفسهم خارج دائرة علاقة المواطنة ، علاقة المواطنة هذه لم يكن لها أثر داخل أوربا أيام الإقطاع ، واستمر الحال إلى غاية قيام الدولة الحديثة داخل أوربا بعد الإنعتاق من أتون الاستبداد ، وظهور أفكار جديدة تدعو إلى إقامة روابط ومراكز قانونية جديدة بين أفراد المجتمع الواحد في ظل الدولة الحديثة ، مثل فكرة العقد الاجتماعي ، وغيرها ، لتجد فكرة ” المواطنة ” المناخ الملائم ، فيتم بلورتها من طرف الفلاسفة والمفكرين ، والبناء على أساسها في مقاربة موضوع الحقوق والواجبات ، الذي أعطى معالم جديدة لعلاقة جديدة بين الإنسان ، ليس وحيدا منعزلا في الطبيعة ( الإنسان الطبيعي) ، كما يحلو لبعض فلاسفة الغرب تسميته ، ولا معزولا في قبيلته ، فلا يرى صورته إلا في صورتها ، ولا رأيا إلا من خلال رأيها ، ولا حين كان للكنيسة سلطان على ضمائر الناس وآرائهم بغير وجه حق ، إنما علاقة انتماء وحقوق وواجبات ، ومراكز قانونية مختلفة ، صار للحرية والمساواة تصور غير ذلك الذي كان سائدا من قبل . وفكرة ” المواطنة ” فكرة ذات بعد إنساني واجتماعي وثقافي وحضاري ، ولذلك فهي لا تتعارض مع أعراف الناس ومعتقداتهم الدينية ، وحرية التعبير عن آرائهم ومواقفهم واختياراتهم ، لا على أساس العرق أو الجهة أو المذهب فالعبرة كل العبرة بالرضاء والتواضع والقبول على أساس الكفاءة ، والكفاءة وحدها : ( يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان ) ، لا مكان لأي شعار أو اعتبار يرتبط بالنسب والحسب، وألقاب الأجداد والآباء.

وإذا فالمواطنة انتماء والتزام بالمحافظة على العلاقة القائمة داخل المجتمع والدولة الممثلة والمعبرة عن وحدة التراب وكرامة الإنسان وسيادة القانون ، نذكر على سبيل المثال المادة 61 من الدستور الجزائري حيث تنص : ( يجب على كل مواطن أن يحمي ويصون استقلال البلاد وسيادتها وسلامة ترابها الوطني وجميع رموز الدولة ) . وكذلك : ( ويعاقب القانون بكل صرامة على الخيانة والتجسس والولاء للعدو ، وعلى جميع الجرائم المرتكبة ضد أمن الدولة).

إذن العبرة بالالتزام ، والالتزام ليس شعارا تلوكه الألسن ، أو خطابا فاقدا للروح ، أو وساما متوارثا أبا عن جد ، الالتزام هو انضباط وارتقاء وأداء وبرهان ، الالتزام هو أن تقول مؤسسات الدولة والمجتمع ، للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت ، الالتزام يترجم سلوك الحاكم والمحكوم على السواء ، ويضبط حركة الجميع على حد سواء . وعبارة ( يجب على كل مواطن ) تعني الجميع ، الحاكم قبل المحكوم ، والقوي قبل الضعيف ، والغني قبل الفقير ، وإلا فإن ” الموطنة ” تتحول إلى مجرد شعار ورد في المادة 66 من الدستور الجزائري : ( ويجب على كل مواطن أن يحمي الملكية العامة ومصالح المجموعة الوطنية ويحترم ملكية الغير ) .

إن الملكية العامة تقتضي وتتطلب حرصا كبيرا من مؤسسات الدولة المخولة قانونا ، العمل بكل حزم لحماية هذه الملكية من كل الأطماع ، وأن تتصدى لكل المناورات في حينها ، لأن مؤسسات الدولة هي وحدها صمام الأمان الذي يحمي الملكية العامة والمواطن في آن واحد ، واحترام المواطن ملكية الآخر

أو الآخرين لا تخرج عن نفس الإطار ، ولي ملاحظة حول كلمة ( الغير ) فهي لا تعبر عن الإنسان الآخر ( مواطنا أو غير مواطن ) تعبيرا إيجابيا ، فالكلمة الأنسب هي ( الآخر ) ، والمقام لا يسمح بتفصيل أكثر لمسألة ( الغير ) و ( الآخر ) من وجهة نظر اجتماعية وقانونية.

أما ” الوطنية ” فهي تتجاوز حدود الفرد كمواطن ، والمجموعة المتميزة بعرق أو جنس أو لون أو لغة أو جهة أو مذهب ، إلى المجموعة الوطنية أو الشعب أو المجتمع الذي يسع الأعراق والألوان واللغات والمذاهب والجهات ، الصواب ، أن تقول : أنا مواطن من مواطني الدولة ، أما أن تقول : أنا وطني فذلك تجاوز في حق الوطن والشعب والمجتمع والدولة.

أما ” المواطنة ” فهي العاكس الحقيقي لمسألة الحقوق والواجبات ، بالرجوع إلى دائرة المعارف البريطانية نجد أن المواطنة هي علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون الدولة وبما تتضمن تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة . وبالرجوع إلى موسوعة كولير الأمريكية نجد أن المواطنة هي أكثر أشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالا.

لقد سبق القول أن فكرة ” المواطنة ” برزت جليا بقيام الدولة الحديثة بأوروبا بعد الانعتاق من دائرة استبداد الكنيسة والإقطاع الذي ألحق الويلات بالإنسانية في إحساسها وضميرها وسلامتها وبهائها وجماليتها وأمنها وأمانها . وبعدها تبلورت مسألة الحقوق وتحددت تدريجيا أبعادها المدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وتبلورت على إثر ذلك فكرة المسؤولية على مستوى المجتمع والدولة . والملاحظة التي ينبغي التوقف عندها مليا ، هي أنه في الوقت الذي أخذت فيه أوربا طريقها نحو ترسيم أو تثبيت معالم ” المواطنة ” على المستوى الوطني ، أو في حدود الدولة الحديثة ذات السيادة المطلقة على حدودها ، أخذ ( الغرب) ، خصوصا بعد اتفاق ( سايكس بيكو ) في خنق أجواء الحرية الذي كان يعيشه العالم الإسلامي ، إذ بعد الاحتلال والتقسيم لسنوات عجاف ، عمل ( الغرب) على المحور التالية:

1/ تسييس الانتماءات الطائفية والعرقية والعشائرية.
2/ تسييس و تقطيع هوية الأمة الإسلامية.
3/ تقطيع وتشتيت المجهود المجتمعي.
4/ تعميم فكرة سياسة فرق تسد.
5/ التضييق على لغة القرآن الكريم.

إن ( الغرب) يدرك اليوم وأكثر من أي وقت مضى ، أن التسييس الطائفي والعرقي والمذهبي لا يتلاءم مع النظام أو البناء الديمقراطي ، ولا يتلاءم كذلك مع مبدأ ” المواطنة ” ، ولا يتلاءم مع مبدأ التواضع والقبول والكفاءة والإحسان ، لأنه يجسد لأولوية العرق واللون والجنس والطائفة والجهة والمذهب على حساب الأكفأ والأجدر والأحق والأمين والأقوى . ولذلك وبذلك يرسم ( الغرب ) سياسته تجاه الآخر الذي يسميه ( بالغير ) ، خصوصا أن هذا الآخر هو العالم الإسلامي.

وإذا فالبحث عن ” الوطن ” و ” المواطنة ” لا يتم عبر الدوائر السياسية الغربية ،وإنما من خلال إزالة الألغام التي زرعها الغرب داخل عقولنا ، وأحاط ساستنا بها ، بدءا بداء الطائفية والجهة والمذهب ، حتى اندفعنا في قتال بعضنا بعضا بطريقة لم يكن يتصورها ( الغرب) نفسه.

لقد قال ( إبليس ) : ( أنا خير منه ) مرة واحدة ، وأقسم على الوقوف في طريق الإنسان لإغوائه . وقالها الإنسان لأخيه الإنسان : ” واتلُ عليهِم نبأ ابنَي آدَمَ بالحقِّ إذ قرَّبا قُربانًا فتُقُبِّلَ مِن أحدِهِما ولم يُتَقَبَّل منَ الآخرِ قالَ لأقتُلَنَّكَ قالَ إنّما يَتَقَبَّلُ الله منَ المــُتَّقينَ ” الآية 28 من سورة المائدة.

لقد اختار قابيل القتل ، وهذا من نفس جنس قول وفعل الذين يصرون على القتال في العراق وبلاد الشام ، ولا يرون له بديلا . أو ليس البديل هو الكف عن القتال ، والبحث عن الحلول من داخل عقولكم ، اعلموا أن ذلك لن يحدث إلا بشرط ، ما هو هذا الشرط ؟ لقد أجاب على ذلك هابيل : ” لَئِن بسَطْتَ إليَّ يدَكَ لتقتُلَني ما أنا بباسِطٍ يدي إليكَ لأقتُلَكَ إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمينَ ” الآية 29 من سورة المائدة . ماذا قال هابيل على وجه الخصوص ؟ لقد قال : إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمينَ . إن الحل الوحيد في البرهان من طرفكم جميعا على أنكم فعلا : تخافون الله رب العالمين ، ودليل ذلك هو التوقف عن القتال ، ليس بأمر من الولايات المتحدة وروسيا ، لأنهم سوف يرغمونكم على استئناف الاقتتال قريبا ، ولكن خشية من الله . كم من الأرواح التي ذهبت بغير وجه حق ، والأنفس التي عذبت ، ليس في مجابهة ظلم إسرائيل التي اغتصبت أرضنا وعرضنا ومقدساتنا ، هل تدرون لماذا؟ لأننا فقط لم نختبر بصدق خوفنا من الله ، فما قيمة صلاتنا وصيامنا وحجنا بعد هذا ؟ إننا للأسف الشديد لا نسبح لله وبحمد الله ، إننا ندور في فلك ( الغرب) والدليل هو قتلنا لبعضنا البعض . اقرءوا بتأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في صحيح البخاري : ”  لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ” .  لقد اجتهد ( الغرب ) بعد قرن من اقتسام أرضنا ونهب خيراتنا ، في استهدافنا من جديد ، ضربوا العراق والشام من الداخل عن طريق توظيف عوامل الطائفة والمذهب والعشيرة والجهة   (  إعادة شحنها بعناصر الصراع المصطنع ) ، ففقد المجتمع لحمته وتوازنه واستقراره وأمنه  ومناعته ودولته واجتماعه وإجماعه ، فلم يبق حديث عن وطن ، ولا عن مواطنة ، الجميع منشغل بشيء اسمه المذهب والطائفة ، ولا أحد يلتفت إلى نفسه ليرى صورته عن قرب ، وصورة سيفه الذي يمسكه بقبضته ليضع حدا لحياة أخيه ، وصورة وطنه و موطنه الذي ضاع منه ، فهل يمكن للإنسان العربي خصوصا ، والمسلم عموما أن يتحدث في ظل هذا الواقع عن شيء اسمه المواطنة وحقوق المواطن وكرامة وعزة المواطن ؟ ثم ماذا عن الذين تغنوا بشعار الوطنية وشعار القومية ، وحتى الذين استغرقوا كثيرا في رفع شعار الخلافة ؟ المشكلة حينما تتحول الفكرة إلى شعار ، والشعار إلى جماعة لا تؤمن بما تحمله من شعار ، فتتحول الفكرة إلى جماعة لا فكرة لها ، وإلى صوت لا يسمعه أحد ، والمصيبة هي أننا شرعنا في عملية الهدم في غياب أي مشروع للبناء ، فبقينا من دون أرض  ولا غطاء ، وكأننا ننتظر ضياع الوطن بعد أن ضاعت منا المواطنة.

بشير جاب الخير
16 سبتمبر 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version