إننا نبحث عن سياق، عن منطلق، عن سند، بمعنى أننا لا ننطلق من فراغ، إننا نبحث، وكلمة بحث في حد ذاتها تدل على الجد والجدية والأهمية، لذلك سنتفق من البداية تجنب كل ما هو من عالم الخيال، وتجنب كل ما هو من الأساطير، ونتجنب أيضا المغالطة والتدليس، خصوصا، إذا كان استعداد الناس للقراءة والتأمل والتدبر، نجده اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يواجه تحديات هائلة من الخلط المتعمد، والتشويش المتعمد، والتضليل المتعمد، والتدليس المتعمد، وفوق ذلك كله الكثير من التمييع المتعمد. لهذا السبب بالذات، فإن جرعات السم، أو السموم الفكرية، تقدم اليوم بطرق جد مبتكرة، وجد محكمة. نسأل الله أن يكشف عن قلوبنا غمة العمى، وأن يتكفل بنا برحمته الواسعة، خصوصا والفتن قائمة.

المسألة الأولى

إننا لا نبحث في سؤال ” الدين ” لأننا حينها سنستند إلى مرجعيتنا ومرجعنا وسندنا، ألا وهو القرآن الكريم، أليس هذا من حق المسلم اليوم، والفتن قائمة ؟ يقول الله سبحانه : ” إن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم، ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ” الآية 19 من سورة آل عمران.

يقول الله أيضا : ” قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ” الآيتان 84 85 من سورة آل عمران.

هذا هو سندنا في مسالة الدين، ومن يريد، أو يسعى، كي يستبعد المسلم النص الديني بهذا المعنى، أي سنده ومرجعه، ألا وهو القرآن، نقول له : أنت مخطئ. ونطلب منك زيادة : إذا أردت منا أن نسهل عليك مهمتك، فما عليك إلا أن تثبت للمسلم شيئا واحدا، ابحث واستعن بمن استطعت من الإنس والجن، ولن تفلح، بل ستخيب، ويخيب معك أتباعك، حاول والمسألة في غاية البساطة، لأنك ستثبت العكس، والعكس هو الصحيح، حاول أن تثبت تعدد القرآن، أو تحريف القرآن، أو تناقض القرآن، حينها فقط سيتبعك الجميع، ويقولون : نعم لاستبعاد النص الديني، أما إذا خبت وعجزت، فلا تلومن سوى نفسك، لأن المسلم يعتقد وهو جازم أن : النص الديني الوحيد الذي جاءنا من عند الله، ولم يحرف، هو القرآن الكريم، لذلك، لا تطلب من المسلمين استبعاد هذا النص من حياتهم.

أما إذا كنت تقصد بالنص الديني : نسخ الأناجيل المتناقضة التي تحتفظ بها الكنائس، أو أفكار رجال الكنائس، أو حتى أفكار المسلمين، فإن المسألة وقتها ستكون مختلفة، لأنه، وقتها سيدعمك المسيحي، واليهودي، والمسلم، في بحث مثل هذه النصوص، والاجتهاد في استبعادها من حياة الشعوب والمجتمعات، لأن مثل تلك النصوص، والأفكار الميتة والقاتلة، هي الوقود المفضل بالنسبة للاستبداد والاستعباد والجهل والظلم والطغيان.

المسألة الثانية

لماذا طلب كثير من الفلاسفة والمفكرين والساسة في أوروبا، نزع القدسية عن ” النص الديني “، وطالبوا أكثر من ذلك استبعاد النص الديني، ثم طالبوا في حركة ثقافية واجتماعية فصل ما هو

” ديني ” عن حياة الناس، أي : فصل ما عند الكنيسة وباباواتها، عن دنيا الناس وعن حياتهم وعن إدارة شؤونهم ؟ الجواب : في منتهى البساطة : لأن الفلاسفة والمفكرين والساسة، وحتى عامة الناس، وقفوا على الكم الهائل والرهيب من المتناقضات والتضارب والخطورة على حياة الناس وعقولهم وأمنهم وأمانهم، الذي احتوته نصوص الدين الكنسي، أو النصوص الكنسية.

إننا لا نلوم فلاسفة أوربا ومفكريها وساستها الذين نزعوا واستبعدوا صفة القداسة عن تلك النصوص كما أن حركة هؤلاء المفكرين، جاءت لحماية رجال الفكر والعلم قبل غيرهم، لأن الفئة التي عانت من ظلم باباوات وقساوسة الكنيسة، أكثر، هي فئة العلماء. لمن لا يذكر، يمكنه الرجوع إلى مقالة نشرتها الدكتورة زينب عبد العزيز على صفحة ” منبر حر ” معهد الهوقار جنيف تحت عنوان : اغتيال هيباثيا، بتاريخ : 15/07/2016.

 هيباثيا أستاذة الرياضيات والفلك، أزعجت القساوسة لأنها متعلمة وعالمة أصرت على نشر العلم.

المسالة الثالثة

نبدأ رحلتنا مع موضوع ” العلمانية “، ليس على أساس نص القرآن الكريم، أو نصوص الأحاديث النبوية الشريفة، ولكن رحلتنا ستكون من خلال ” علم التاريخ”، أي سندنا هو سياق علم التاريخ، دون أن نتجاوز المقولة : علم التاريخ هو محاولة الإجابة على سؤال ” ماذا حدث فعلا “، أقول هذا الكلام لأن من بين الوثائق التي سأرجع إليها، هي مجلة ” تبين ” في عددها 16 من المجلد الرابع الصادرة في ربيع 2016 وهي فصلية محكمة يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

صاحب الورقة السيد : وجيه كوثراني، مؤرخ ومدير قسم الإصدارات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بيروت ـ

الموضوع : قراءة في مشروع عزمي بشارة

العلمانية ونظريات العلمنة

الدكتور عزمي بشارة هو مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدوحة قطر.

إذن النقطة الأولى المتفق عليها هي الاعتماد على ” علم التاريخ “.

لقد ذكر السيد كوثراني في الصفحتين 155 156 من المجلة ما يلي :

التاريخ كعملية علمنة : في المجلد الثاني من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي، يستكمل عزمي بشارة رحلته العلمية الطويلة في دروب التجربة الغربية لصيرورة العلمنة التاريخية. وعندما يجري التشديد في سياق النص على مفردة التاريخ والتاريخية، فإنه لا بد من العودة للبدء في المجلد المخصص للخبرات والنظريات، في توضيح أبعاد الاستخدام لمعنى التاريخ والتأريخ عندما يتصدى الباحث للبحث في تاريخية العلمنة كممارسة وفكر ونظرية ( أو نظريات متعددة ). وإذا كان التأريخ (أو علم التاريخ ) هو محاولة الإجابة عن سؤال ” ماذا حدث فعلا ” (ص30)، وبغض النظر عن مدى القدرة على توفير الإجابة ( المطابقة للواقع)، فإن محاولات التأريخ للدين وللمقدس بدءا من عصر التنوير تتم بمعزل عن الرواية الدينية، بل بإخضاع الرواية الدينية والأسطورة للنقد التاريخي، فتصبح عملية التأريخ العلمي بحد ذاتها، وبصرف النظر عن أيديولوجية المؤرخين ( سواء كانوا متدينين أو علمانيين صراحة )، عملية مؤدية إلى علمنة موضوعات التاريخية ( ص 32 ). بل إن في المرحلة نفسها التي تطور فيها علم التاريخ ( أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين )، قام عالم الاجتماع ماكس فيبر واللاهوتي إرنست ترولتش( 1865 1923 ) بتحويل فكرة العلمنة نفسها إلى موضوعة تاريخية، أي إلى صيرورة تاريخية ليفهم من خلالها التاريخ الحديث ( ص32 ) خلاصة القول الذي يشدد عليه عزمي بشارة هي ” أن كتابة التاريخ كأنه عملية علمنة هي نتاج مرحلة ما بعد الجمهورية الثالثة التي انتصرت فيها العلمانية ( في فرنسا) باعتبارها أيديولوجيا دولة، وهي نتاج كتابة التاريخ باعتباره تاريخا قوميا أيضا ” ( ص34 ). على أن العلمنة على مستوى كتابة التاريخ ” تعني الفصل بين عقائد المؤرخ واتجاهاته المعيارية والصيرورة التاريخية “، لكن عزمي بشارة يستدرك، وهو يشدد على هذا الفصل، ليشير : ” لكننا نجد في المقابل أن هذه العلمنة في نطاق التدوين التاريخي اخترقت بالمعياريات والأساطير الجديدة التي تظهر كأنها من طبيعة تاريخية، لا من نوع الأساطير الفائقة للتاريخ “، ذلك ” أن كل عملية تأريخ هي علمنة، لكنها تحتمل بذور أسطرة جديدة ” ( ص 37 )، أي يمكن أن تتحول إلى أيديولوجيات، لكن أيضا ” لا يعني هذا الأمر أن الأيديولوجيات كلها أساطير ” ( ص 41 ). (…) يقول : ” ثمة فرق بين العلمانية باعتبارها حماية للحريات الدينية ورفضا لتدخل الغيب في عملية فهم الظواهر، والعلمانية كعداء للدين قد ينشئ ديانات بديلة ” ( ص 42 ). هذا بعض مما كتبه السيد وجيه كوثراني، حيث وضع كلام عزمي بشار بين مزدوجتين وذكر رقم الصفحة بين قوسين.

يختم وجيه كوثراني، بعد أن لخص بعض التمايزات بين علمانية أوربا بأبعادها المختلفة، وأمريكا، بالقول : هذه التمايزات استقرأها عزمي بشارة من المجتمعات الأوروبية وأجرى تطبيقها عليها. أما تطبيقها كنظرية شاملة، كما يقول، ” فأمر غير ممكن إلا بأخذ البعد النظري جدا والمتعلق بالدين وتعريفاته وتمييزه من الشعور بالمقدس، ثم فحص معنى انحساره وتراجعه في كل مجتمع، وكيفية نشوء الدولة ودينامية اكتسابها شرعيتها ونشوء أنماط التدين المختلفة وتفاعلها مع هذه الدينامية لدى فئات اجتماعية مختلفة ” ( ص 43 ).

ويقول السيد كوثراني في خاتمته : إذا، إنها لمهمة كبرى قادمة لمرحلة أصعب : استقراء المجتمعات العربية والإسلامية من زاوية هذا الأنموذج المفاهيمي والمنهجي، مهمة وعد عزمي بشارة بإنجازها والانكباب عليها رغم انشغالاته الواسعة كلها لتستكمل الجزأين السابقين، فيقدم للمكتبة العربية مرجعا جامعا وعميقا وجديدا نحتاج إليه في هذا الموضوع الشائك وفي هذه المرحلة المفصلية من التاريخ العربي.

المشكلة 01 : كيف يتسنى علمنة العلاقة بين ( الدين ) والسياسة، أو بين (الدين) والدولة أو بين (الدين) والمجتمع بمعزل عن الرواية الدينية ؟ وإذن : فما قيمة محاولات التأريخ للدين وللمقدس في غياب الرواية الدينية ؟ أو ليس ( الدين ) بالنسبة للصيرورة التاريخية الأوربية هو نصوص الأناجيل التي قدمتها الكنيسة للناس، أو ليست هذه النصوص هي المقدس عند القساوسة والباباوات ؟ ثم أليست هذه النصوص والروايات هي المستهدفة بالاستبعاد ونزع القداسة عنها من طرف الفلاسفة ورجال الفكر عموما ؟ ثم أليس موضوع ( العلمنة ) كعملية تاريخية، قامت على العلاقة بين الكنيسة بنصوصها ( الدينية ) المتناقضة، من جهة، وحركة المجتمع من خلال فلاسفته ومفكريه وعلمائه، من ناحية أخرى ؟ وإذن فالنتيجة هي : أن أي محاولة باسم علم التاريخ، تتجاوز حدود العلاقة التي قامت على أساسها فكرة العلمنة هو تجاوز للحقائق التاريخية، من ناحية، ومحاولة لا طائل من ورائها، القصد منها محاباة طرف على حساب طرف، أو القصد هو التستر على حقيقة الكنيسة وفكرها وممارساتها إمعانا في خلط الأوراق التي لا تخدم سوى الاستبداد على مر العصور، ومثل هذا السلوك يضر إلى حد بعيد بمسار ( العلمانية ) كحركة اجتماعية وثقافية وفكرية وسياسية، كانت تستهدف إلى حد بعيد تحرير الإنسان الأوروبي من الاستبداد والاستعباد الذي نسجت خيوطه دوائر الإقطاع ودور الباباوات المتحالفة، وقبل ذلك القساوسة الذين ضاقوا ذرعا بالعلم والعلماء، فخدموا الأباطرة والملوك على حساب حرية الشعوب التي ذاقت الويلات.

المشكلة 02 : حدود استخدام ” العلمانية ” كفكرة أو كعبارة مجردة، وطبيعة الإنسان الذي يستخدمها إن مسألة الاستخدام في حدود العالم العربي والإسلامي، لا تعدو كونها ستارا وغطاء استخدمه بعض المستلبين فكريا الذين أخذوا على عاتقهم تكرار ما ذهب إليه الفكر الغربي اللائكي، من خلال تسويق وجهة نظره داخل حدود غير حدوده في مواجهة معطيات غير معطياته ومنطلقات غير منطلقاته. وإذا فنحن أمام فئة مستلبة فكريا لا وجهة نظر لها، وإن استقراء المجتمعات العربية والإسلامية على أساس وجهة النظر هذه ( أو وجهات النظر هذه ) يعد من الخطورة بمكان، وأبعد ما يكون عن علم التاريخ، وحتى عما نسميه، تجاوزا، بالعلمانية والعلمنة.

المسالة الرابعة : النصوص الكنسية

علم التاريخ يجعلنا أكثر التزاما في اختيار الأسئلة، والأسئلة تحتاج إلى سياق، أو سياقات، لذلك سوف لن ننطلق، سوى، من واقع الأوربيين، فكرا وممارسة، أو فكرة وتطبيقا، ليس من عالم الأسطورة، أو من تخيلات عابرة، منطلقنا هو الفكر الغربي المسيحي ذاته، وممارساته ذاتها. والسؤال في هذا المضمار بالذات، هو سؤال الفكر الغربي المسيحي، الذي هو تفاعل العقل المسيحي المتكيف مع واقع القهر والاستبداد، مع ما خلفه المسيحيون أنفسهم من تحريف للمسيحية، أو الإنجيل، مما اقتضى احتواء الفكر الغربي المسيحي للفكر ( الديني ) أو فكر رجال الكنيسة، في الوقت الذي تحولت فيه ( النصرانية ) وثنية، استحال على الناس فهمها وتقبلها، نتيجة ما ظهر عليها من تناقض وتضارب، حيث اهتز الإنسان المسيحي اهتزازات عنيفة، كانت محصلتها :التعبير المعروف: ” اشنقوا آخر قسيس بأمعاء آخر إقطاعي ” كإعلان عن بدء فجر انعتاق أوربا من دائرة الاستبداد، ذلك هو الحد الفاصل، أو الأساس الذي قامت عليه فكرة فصل ( الدين ) عن حياة الناس، وبعد ذلك نزع القداسة عن النص ( الديني )، وبعده الفصل بين الكنيسة والسياسة، فالفصل بين الكنيسة والدولة. وما حدث فعلا هو العمل، من خلال حركة فكرية اجتماعية وثقافية وسياسية، لفصل الفكر الكنسي ( نصوص الكنيسة ) المتناقضة والمتضاربة، عن جوهر حياة المجتمع، لتتطور الفكرة فيما بعد، بسبب ممارسات رجال الكنيسة في علاقتهم ببعض ساسة أوربا المغامرين، وتتلخص في الشعار المعروف : ” لا نريد ربا ولا سيدا “، وهو شعار رفعته الثورة الطلابية في فرنسا، أشار إلى ذلك الأستاذ مالك بن نبي في كتاب ” تأملات “، ص 84.

 هذه حقيقة وليس تخيلا، أو هو شيء من عالم الأسطورة. وفي هذا المقام بالذات، ومن باب ” علم التاريخ “، إذ يمكن للمعترض، إن استطاع، إثبات العكس، وإلا فإن الاستنتاج يكون أقرب إلى الحقيقة، أو النظرية العلمية التاريخية. وإذا يجب التأكيد على أن : الفكر الإسلامي، الذي هو فكر المسلمين، الذي قال فيه الدكتور حسن الترابي رحمه الله، في كتابه : تجديد الفكر الإسلامي : ” الفكر الإسلامي… هل يتجدد ؟ أليس الدين هديا أزليا خالدا لا مكان فيه للتجديد ؟ بلى.. الذي يتجدد ويتقادم ويبلى إنما هو الفكر الإسلامي.. والفكر الإسلامي إنما هو التفاعل بين عقل المسلمين وأحكام الدين الأزلية الخالدة.. أما عقل الجيل من المسلمين الذي يضطلع بالتفكير في الإسلام فهو يتكيف بنوع وكمية المعارف العقلية.. والتجارب التي يحصلها في كل زمان.. إذا ضاقت هذه المعارف ضاق وإذا اتسعت اتسع، ولأنه يتكيف وينفعل بالظروف الراهنة التي تحيط به وبالحاجات التي يحسها الناس وبالوسائل التي تتيحها له ظروف الحياة، فالفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقلنا المتكيف بهذه العلوم، المنفعل بهذه الظروف مع الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي والذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم “. انتهى كلام الأستاذ الترابي.

وإذا فالحقيقة، أو النظرية العلمية التاريخية، هي أن الفكر الإسلامي لم يكن، ولن يكون بمقدوره احتواء الإسلام، أو احتواء النص القرآني الذي تكفل الله بحفظه : ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ” الآية 09 من سورة الحجر. صدق الله العظيم.
 
وهذه الحقيقة تكشف سر ما بين عزل ” الكنيسة ” عن إدارة الشأن العام في أوروبا، على وجه الخصوص، ( اللائكية التاريخية ). وبين أكذوبة عزل الإسلام وفصله عن حياة الإنسانية عموما والمسلمين على وجه الخصوص.

إن المستلبين فكريا، للأسف الشديد ينطبق عليهم حال من يبحث، عبثا، عن نسخ أخرى للقرآن الكريم، يتحقق فيها ما تحقق في نصوص ( أناجيل) الكنيسة المتناقضة والمتضاربة التي استبعدها (الغرب) ونزع عنها كل قدسية، فتحقق له ما أراد من فصل بين كنيسته ودولته. أما المسحوقون فكريا فهم في أحسن الأحوال، ضمن الفئة التي ينطبق عليها قول الأستاذ مالك بن نبي : ” لكن الأسوأ يحدث عندما نبدأ في إعادة بعث عالم الثقافة المحشو بالأفكار الميتة بأفكار قاتلة مستوردة من حضارة أخرى. فهذه الأفكار التي أضحت قاتلة في محيطها تصبح أكثر فتكا عندما نستأصلها من ذلك المحيط، لأنها تترك بصفة عامة مع جذورها التي لا يمكن نقلها ترياقا يخفف من ضررها في وسطها الأصلي. إنه في ظل شروط كهذه يستورد المجتمع الإسلامي المعاصر أفكاره الحديثة “التقدمية ” من الحضارة الغربية “.

 نعود للنصوص الكنسية، دليل تحريفها ينبثق من مضمونها وتناقضها وتضاربها، يكفينا في هذا المقام الاستئناس بالباحثة الدكتورة زينب عبد العزيز التي اجتهدت في تلخيص ما نبحث عنه من حقائق تاريخية، من خلال مقالاتها الشيقة التي يتحفنا بها ” منبر حر ” معهد الهوقار بجنيف
نقلت الدكتورة الفقرات التالية :

” من الواضح والثابت أنه منذ بدايات نشأتها، من صلب اليهودية ومن كانوا يبشرون بها، بدأت المسيحية بأقوال يسوع وحوارييه منقسمة إلى جماعات متناحرة تتبادل الاتهامات واللعنات.. ومن ناحية لا يوجد لها أي نص أصلي على الإطلاق قبل القرن الميلادي الرابع، فقد كانت العبادات الوثنية لا تزال موجودة حتى عندما أباح قسطنطين ممارسة المسيحية سنة 313، مثلها مثل كل الوثنيات القائمة، بل كانت الوثنية قوية في بعض المناطق عندما قام تيودوز الأول بفرضها ديانة على كل الإمبراطورية سنة 380. ففي مصر ظلت بعض المعابد الفرعونية تعمل حتى القرن السادس. ويؤكد إيف موديران أنه 🙁 في إفريقيا مثلا لا يوجد أي نص مسيحي قبل فترة قسطنطين )، أي حتى منتصف القرن الثالث. وهو ما يؤكده يوحنا الدمشقي في بحثه ” نبع المعرفة ” ( الصادر سنة 743 )، الذي تحدث فيه عن مائة وواحد هرطقة واجهت المسيحية في قرونها الأولى، والهرطقة الواحد بعد المائة يقصد بها الإسلام، ولم يكن يوحنا الدمشقي هو أول من تحدث عن الهرطقات والفرق المتناحرة في المسيحية. إذ تقول كريستين يرييتو في بحثها عن ” تطور المسيحية ” : أن ( القديس إيريني كتب سنة 185 بحثا ” ضد الهرطقات “، وكتب القديس هيبوليت سنة 230 يتحدث عن ثلاثة وثلاثين فرقة مسيحية مختلفة متناحرة، وكتب القديس إبيفانوس في ” بيناريون ” عن ثمانين هرطقة، وقد وصل عددها أيام القديس أغسطين في مطلع القرن الخامس إلى ثمانية وثمانين هرطقة… أما مجلس الكنائس العالمي حاليا فيضم 349 كنيسة مختلفة عقائديا، لا تزال متناحرة، خاصة في قضية “تنصير العالم ” والمقصود بها تنصير المسلمين، بمعنى على هوى أي منها، وهو ما يؤكد أن المسيحية بدأت مشتتة، ونشأت فرقا متناحرة، وعبادات متناقضة، وقام الباباوات بتكوينها عبر المجامع والانقسامات على مر العصور. بل يكفي أن نطالع ما كتبه القديس جيروم ( 347 420 )، حينما طلب منه البابا داماز، سنة 383، أن يقوم بمراجعة الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، بناء على النصوص اليونانية المتاحة، إذ لا يوجد أي نص أصلي قديم للمسيحية سوى باللغة اليونانية، التي لم يكن لا يسوع ولا أي شخص من الحواريين يعرف منها شيئا، لأن الكنيسة أبادت كل ما يكشف أصولها أو كيفية تكوينها وتكوين عقيدتها، ولم تترك سوى ما أرادت أن يعرفه الجميع، وقد تناولت اعترافات القديس جيروم في بحث تفصيلي يعترف فيه ذلك القديس رسميا، فالخطاب / المقدم للترجمة موجه للبابا داماز، فيقول له أن الأناجيل وترجماتها محرفة مليئة بالمتناقضات، وأنه قام هو بتعديلها وتبديل ما لم يقتنع هو به.. وترجمته هذه هي المعروفة باسم ” الفولحات ” أي لعوام الشعب. (1).

هذا بعض ما ذكرته السيدة زينب عبد العزيز، للعلم فقد قامت بتصوير النص اللاتيني فوتوغرافيا للخطاب الذي بعث به القديس جيروم إلى البابا داماز، وترجمته لكي يفهم الحقيقة من يشاء، كما قالت. وتواصل الباحثة قولها : ” ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تواصلت المراجعات والتغييرات والتبديلات وفقا للمستجدات العقائدية، ثم تأتي مراجعة البابا كليمنت الثامن، الذي أقر النص النهائي للكتاب المقدس سنة 1592. ورغمها، لم تتوقف طاحونة التعديلات في نص زعموا أنه منزل من عند الله، وفرضوه بيد من حديد، حتى مجمع الفاتيكان الثاني ( 1965 ) الذي.. اعترف بأن ” من كتب الأناجيل أناس آخرون غير التي هي معروفة بأسمائها، لكنهم كتبوها تحت إرشاد من الروح القدس ” بل لقد وعد البابا يوحنا بولس الثاني.. ( 1920 2005 ) بتعديل سبعين آية لتتمشى النصوص مع التعديلات التي أجراها مجمع الفاتيكان الثاني ( 1965 ) بعد تبرئة اليهود من دم المسيح، وغيرها كثير. ( 2).

وفي حديثها عن تكوين الأناجيل تقول الأستاذة الباحثة : في حوالي القرن الثاني بدأت فكرة جمع النصوص المكونة للكتاب المقدس، ولم يبدأ الاهتمام بتحديد اكتمالها إلا في أواخر القرن الرابع. ونظرا لكم النصوص وتنوعها قام الأسقف أطنازيوس في الأسكندرية، سنة 367، بعمل قائمة بالعناوين التي اختارها لتكوين العهد الجديد، وتم الاختيار من بين حوالي سبعين نصا، وقام مجمع هيبونا سنة 393 بإقرار القائمة، ثم أعاد مجمع قرطاج سنة 397 إقرار تكوينها، وتم استبعاد ما تم استبعاده والاحتفاظ بأربعة أناجيل هي : متى ومرقص ولوقا ويوحنا، إضافة إلى أعمال الرسل وبعض الرسائل، انتهاء برؤيا يوحنا، وجميعها سبعة وعشرون سفرا. ” ( 3 ).

ونقرأ للأستاذة فقرة أخرى تقول فيها : ” ولكي تضمن الكنيسة استمرار وجودها في مختلف بلدان الإمبراطورية، تحت لواء ( عقيدة واحدة )، أدخلت جزءا من كل الديانات الوثنية التي كانت قائمة في عقائدها، كالديانة المصرية القديمة والأسيوية والآشورية والبابلية والبوذية وغيرها في صلب عقائدها عبر المجامع.. لكن الوضع لم يستمر إذ عاد بعض الأباطرة إلى الوثنية ومنهم أبناء قسطنطين، وخاصة قونستانس الثاني الذي أعاد الأريوسية الرافضة لتأليه يسوع، أو الإمبراطور جوليان، الذي أطلقت عليه الكنيسة لقب ( جوليان المرتد ) قبل أن ترسل أحد جنودها لاغتياله بحربة في ظهره، بسبب مرسوم التسامح الذي أصدره لعودة الوثنيات، أو كثرة التغيرات التي قام بها لوقف تسلط المسيحية.. واستمر المد والجزر فترة، تعاقب خلالها عشرون إمبراطورا حتى تيودوز الأول ( 378 395 )، الذي أصدر مرسوما، في فبراير 380، يجعل المسيحية الديانة الوحيدة للإمبراطورية، وقام بتطبيقه بيد من حديد. ويكفيه ترتيب(مذبحة تسالونيكي)، فقد طلب من الجيش بزج الأهالي داخل ملعب السيرك الكبير، وأغلقوا الأبواب.. ولمدة ثلاث ساعات انهال رجال الجيش على عشرة آلاف من الرجال والنساء والأطفال، وبعض المراجع تقول خمسة عشر ألفا.. وكان على كل جندي أن يأتي وفي يده الرؤوس التي قطعها وهي تقطر دما ويقدمها لقائده لكي يأخذ المكافأة.وقد أدى اعتراف الإمبراطور تيودوز بتدبيره هذه المجزرة لأسقف كاتدرائية ميلانو، إلى تبرئته، فنهض من على كرسي الاعتراف مرتاح البال وخرج من الكاتدرائية وضميره أكثر بياضا.”(4).

وتذكر الأستاذة الباحثة أيضا : ” معذرة، كدت أنسى، أرجو ألا تغفلوا ذكر أن الكنيسة أكدت، في مجمع الفاتيكان الثاني (1965)، أن كل هذه الاختلافات والمتناقضات ليست متناقضات بالمعنى المفهوم وإنما هي اختلاف وجهات نظر، خاصة أنه ثبت لديها أنها ليست منزلة من عند الله، وأن بها الصالح والطالح، وقد قام بكتابتها أسماء غير التي هي معروفة بأسمائهم، وأنها كتبت بوحي من الروح القدس. وللعلم، لقد وصل عدد المتناقضات الثابتة والواردة في الموسوعة البريطانية إلى 150000 تناقض. وقد تضاعف هذا العدد باكتشاف مخطوطة كاملة للإنجيل، معروفة باسم ” إنجيل سيناء ” وهي نسخة كاملة ترجع للقرن الرابع. أما ” ندوة عيسى ” التي أقيمت في معهد ويستار بأمريكا، وحضرها أكثر من مائتي عالم متخصص في اللاهوت والتاريخ واللغات القديمة، وبعد دراسة عدة سنوات أكدوا أن 82 بالمائة من الأقوال المنسوبة ليسوع لم يتفوه بها، وأن 86 بالمائة من الأعمال المسندة إليه لم يقم بها. ” ( 5 ).

إن الذي سبق ذكره هو من صميم علم التاريخ، وعلى هذا الأساس يمكن إسقاط مقولة : ” فرضية التحريف “، وإذا فإن تحريف ” الإنجيل ” صار حقيقة تاريخية، وأن مثل هذا التأكيد لا يكتسب أهمية منهجية في التأريخ للأفكار، وأفكار البناء الحضاري بوجه خاص، وتكتسب أيضا أهمية تاريخية للمنهج النقدي في تعامله مع المفاهيم والرؤى والمصطلحات، مثل مصطلح ( العلمانية )، ومصطلح

( اللائكية )، وفكرة ( توحيد الأديان )، وتمييز ما هو علماني عما هو لائكي، خصوصا حين نقارب بين التجربتين الفرنسية والبريطانية.

لقد علقت، ذات يوم من ربيع 2016 على مقالة للأستاذة الباحثة زينب عبد العزيز بعنوان : مؤتمر “الأديان ضد الإرهاب ” بمدينة أستانا، فقلت : نبحث في قاموس الفاتيكان عن معنى كلمة ” توحيد ” وعن معنى كلمة ” دين “، ماذا نجد يا ترى ؟ هل من معنى ومن مدلول ؟ نبدأ بالكلمة الأولى، إن قاموس الفاتيكان يتسع لكل الكلمات تقريبا إلا كلمة واحدة فقط، هي كلمة ” التوحيد “، ما أعظمها وما أجملها وما أبهاها من كلمة، فهي ملكة الكلمات كلها، إنهم يخافون من هذه الكلمة، بل لا يطيقون سماعها، لأنهم ببساطة لا يوحدون، وأكثر من ذلك فهم يعيبون على الناس، ويمنعونهم حين يوحدون، خصوصا إذا كان الموحدون من أبناء أوربا عموما، وأبناء فرنسا على وجه الخصوص، ممن انشرحت صدورهم لنور الإسلام. ولذلك تجد ( اللائكيين ) في فرنسا أكثر انزعاجا وأشد منعا، إذ زيادة على انزعاجهم الذي أفقدهم جوهر رأسمالهم الحقيقي، الذي هو إنسانيتهم في أبعادها الخالصة، التي لا تتوقف عند لون أو جنس أو عرق، وإنما تشمل الجميع بالرحمة والتطاوع والتعاون والإيثار والتوادد والتسامح والتآلف، وما إلى ذلك من الأخلاق الحميدة، من خلال الجوهر الذي أكد عليه خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وعبر عنه بالفطرة، في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم : ” ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه… “، وهو ما دل عليه قول الله سبحانه : ” فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون “. الآية 30 من سورة الروم. صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم. إن لائكيي فرنسا، ومن سار على دربهم، بسبب هلعهم غير المبرر، وانزعاجهم الشديد، يمنعون الناس من خير كثير يحفظ لهم إنسانيتهم وطمأنينتهم وسلامتهم وأمنهم وحلاوة الحياة وصفاءها، بعيدا عن كل تمييز وكراهية وتخويف وترهيب، وهم في كل الأحوال يمنعون الناس من التخلص والتحرر من ظلمة الاستبداد. هذا حال اللائكيين الجدد ( تحالف الفاتيكان مع الساسة المغامرين ) مع مسألة ( الدين ) ومسألة ( التوحيد) وما دام حالهم كذلك، فهم يضيقون بكلمة ( الدين )، لا لشيء سوى لأن الدين الوحيد الذي لم ينل منه التحريف في دنيا الناس، هو ” الإسلام ” الذي أخبر الناس أن ” التوراة ” من عند الله، وأن ” الإنجيل ” من عند الله، إلا أن الناس الذين استحفظوا هذين الكتابين، لم يحفظوا هذين الكتابين، وعملوا من خلال الأحبار والقساوسة، جيلا بعد جيل، على تجريد هذين الكتابين من كل ما يتصل بمبدأ ” التوحيد ” الذي هو العامل المشترك بين كل الكتب السماوية، التي لا يمكن أن تكون كتبا لله وهي في نفس الوقت تعدد بدل أن توحد، أيعقل أن يعدد كتاب الله ” الإنجيل ” أو كتاب الله ” التوراة ” الآلهة، فيجعل لله أندادا، أو أبناء، سبحان الله عما يصفون. لهذا السبب يتولى الفاتيكان مهمة التدليس والتضليل والتشكيك، فنجده يدعو من خلال اللقاءات الدورية في ( أستانا ) بكزخستان، وفي مناسبات أخرى، إلى ” توحيد الأديان “، كلمة حق أريد بها باطل، لأن الأولى، والأجدر، أن يدعو ( بابا ) الفاتيكان، وضيوفه، إلى توحيد الله، عندها فقط تتحقق وحدة الدين، الذي هو دين الله الذي ارتضاه لعباده جميعا. إن دعوة الفاتيكان هي دعوة، الغرض منها الالتفاف على ” دين التوحيد” الذي يشهد على وحدانية الله، إن مثل هذه الدعوة، ليست سوى أداة لصرف الناس عما يجري حولهم بإمعان من استهداف الإنسانية في أخلاقها التي استمدت روحها وجماليتها وقوتها من دين التوحيد ن الذي بشرت به التوراة، ودل عليه الإنجيل، إن اللائكيين في هلعهم يسبحون، وفي أوحال انزعاجهم غارقون، و في دائرة المنع يسقطون. أما ضيوف الفاتيكان، خصوصا الذين ينتسبون إلى أمة التوحيد، فالأجدر بهم أن يسألوا أنفسهم، ويسألوا ( بابا ) الفاتيكان أمامهم : ما هو الطريق إلى توحيد الأديان ؟ ثم كيف نجعل الأديان تراثية ؟ ثم ما هي الأديان المقصودة بالتوحيد ؟ أهي الهرطقات المائة وواحد ؟ وإذا كانت المسالة أبعد ما تكون عن الوثنية في ثوب جديد، فلماذا لا نوحد الله، يا حضرة ( البابا )، ويا سماحة ( شيخ الأزهر ) الشريف ؟ ثم لماذا لم تقولوا ” كلمة سواء ” أو تدعون إلى ” كلمة سواء ” فتشهدوا أن لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله، وأن موسى وعيسى وجميع الأنبياء والرسل شهدوا بوحدانيته سبحانه وتعالى ؟

وإلا فما مدلول ” أشغال مؤتمر الأديان “، ما هي غاياته ؟ ماذا تريدون من الناس ؟ أتريدون من الناس أن يدينوا بدين جديد، أهو التراث الذي سكت عنه التاريخ ؟ أم هو شيء علمه الفاتيكان ولم يعلمه شيخ الأزهر ؟ أهو حقائق أدركتها ( لائكية ) فرنسا، ولم تدركها ( علمانية ) بريطانيا وأمريكا؟

أهو حقيقة أم هو أضغاث أحلام ؟ ثم لماذا لم يلتفت الفاتيكان وضيوفه في مؤتمر الأديان إلى مآسي الإنسان، في العراق، واليمن، وبلاد الشام ؟ مثل هذا السؤال هو سؤال كل الأحرار في عالمنا الذي لم يفهم لغة الفاتيكان، ولم يفهم طبيعة موقف شيخ الأزهر من الدعوة إلى ” توحيد الأديان ” ؟

المسألة الخامسة : مشكلة ” العلمانية

ننطلق في بحثنا رفقة موضوع ” العلمانية ” من وثائق ( الغرب ) ونصوصه، وبالتالي من وجهة نظر المفكر الغربي بالدرجة الأولى.

 “.Laïcitéعبارة ” علمانية ” يقابلها عند الفرنسيين، على وجه الخصوص عبارة “

 “.Sécularismويقابلها عند المجتمعات الأنجلوسكسونية، والجرمانية، عبارة : “

ونقرأ في القواميس التالية :

1/ La Toupie : dictionnaire français.

ما يلي :

*Le sécularisme apparait comme une tendance à transférer la plupart des valeurs sociales du domaine du sacré à celui du profane.

*La sécularisation est un phénomène de civilisation qui implique une nouvelle organisation de L’espace public en accord avec les valeurs de L’émancipation politique et de la liberté de conscience.

إن المحتوى الذي نقلناه باللغة الفرنسية، ومن قاموس فرنسي، يبين لنا بكل وضوح مدلول العبارة، بعيدا عن المناورة السياسية، أو التلاعب بالألفاظ، خصوصا بالنسبة للذين ينقلون وجهات نظر غيرهم، ليحاججوا بها أبناء أقوامهم، وهذا التحديد للعبارة يستمد روحه من حركة المجتمعات ذات التوجه الانجلوساكسوني، والمذهب البروتستانتي، التي نجدها أكثر استعداد للتحول بحثا عن الحقيقة وأكثر انسجاما في مجال حرية الضمير والحريات العامة. لذلك فإن مثل هذه المجتمعات، من خلال فلاسفتها ومفكريها، هي التي ساهمت مساهمة إيجابية في فضح ألاعيب القساوسة والباباوات، وساهمت إلى حد بعيد في تحرير أوربا من استبداد الإقطاعيين وظلمات الكنيسة، لذلك فإن المحيط الانجلوساكسوني، البروتستانتي، هو الذي عكس مفهوم ” العلمانية ” في أبعادها الثقافية والاجتماعية والإنسانية، ولذلك لا غرابة، حين يعبر عنها القاموس السابق، بالظاهرة الحضارية، أو التحول على طريق الحضارة، أو البناء الحضاري، قصد بلورة حياة اجتماعية ملئها قيم الحرية، خصوصا حرية الضمير، وقبل ذلك تحرير الإنسان من ظلمة الاستبداد.

2/ L’internaute : dictionnaire français.

Le sécularisme est le principe selon lequel les questions religieuses doivent être séparées de celles de L’état.
Exemple :le sécularisme nous protège de l’obscurantisme religieux.

وإذا فالعبرة هي التحرر من ظلمة الكنيسة التي شوهت نصوص الإنجيل، وزلزلت كيان الإنسانية بتناقضاتها التي اعترف بها الفاتيكان، قبل غيره، ( المجمع الثاني 1965 ). ولا غرابة حين يطلب فلاسفة الغرب ومفكروه نزع القداسة عن ( الدين الكنسي )، بل والدعوة إلى استبعاده. وإذا فإن :

” العلمانية ” بهذا المدلول، هي وجهة النظر السليمة، التي تحتاج من فلاسفة الغرب ومفكريه الأحرار، مزيدا من البلورة على طريق التحرر. أما أولئك الذين لا يحسنون سوى نقل الشاذ من وجهات النظر في أوربا عموما، وفرنسا خصوصا، ليجابهوا بها أقوامهم العربية والإسلامية، فإنهم كمن فقد عقله وإنسانيته على حد سواء.

أما العبارة المناسبة لما حدث ويحدث في الجهة المقابلة، في فرنسا تحديدا، أين نجد سلطان الكنيسة الكاثوليكية ماثلا للعيان، فهي عبارة ” لائكية ” وهي أبعد ما تكون، عن ” العلمانية ” فكرة وممارسة. وعبارة ” لائكية ” أبعد ما تكون ” العلم “، لشدة تعارضها مع العقل والمنطق، وهي أبعد ما تكون الحالة الإنسانية في عمومها، كمادة خام ( حالة الفطرة )، أو الحالة الإنسانية الاجتماعية العامة، التي يحبذها الإنساني في بعده الاجتماعي. وإذا فهي طفرة فكرية اجتماعية ن يمكن أن ترادف عبارة ” قطيعة ” أو ” قطع “، تعكس في جوهرها كل ما هو عقوق، أو خروج، أو عصيان، أو تقطيع لأوصال المجتمع، خصوصا في أبعاده الروحية والإنسانية والحضارية.

*Larousse :dictionnaire français

Laïcité : conception et organisation de la société fondée sur la séparation de L’église et de L’état et qui exclut les églises de l’exercice de tout pouvoir politique ou administratif et , en particulier , L’organisation de L’enseignement.

جوهر هذه النصوص، يدل على أن المجتمع، من خلال فلاسفته وعلمائه، يكون قد سئم من كل ما هو كنسي، وإلا فما معنى استبعاد ” الكنيسة ” من دائرة التعليم، أليس المقصود هو حماية الأطفال من متناقضات وظلمات الكنيسة، أليس هو دليل على الموقف السلبي للكنيسة من العلم والعلماء، وهنا تحديدا، الكنيسة الكاثوليكية، يمكن للقارئ الكريم مراجعة ممارسات الكنيسة الكاثوليكية على مر العصور، وإذا فالقطيعة مع الكنيسة هي المطلوب، ولكن، ما مصير قطاع التربية والتعليم، وهو يفتقد إلى ما هو روحاني، وما هو مقدس، وما هو إلهي، خصوصا إذا كان هذا الإله هو الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ؟

أليست القطيعة بهذه الكيفية هي تقطيع لأوصال المجتمع، خصوصا حين نتأكد من تواصل الكنيسة من خلال الفاتيكان بدوائر السلطة الفعلية، خصوصا في حضرة الساسة المغامرين الذين يجتهدون في طاعة ( بابا ) الفاتيكان ؟

لعلكم، من خلال ما سبق طرحه، يمكنكم الوقوف على المسافات التي تفصل، تلك ” العلمانية ” عن هذه ” اللائكية “، وتدركون الحاجة إلى مزيد من تحديد لمفهوم ” العلمانية “.

وفي هذا الصدد بالذات تقول أستاذة الحضارة الفرنسية، الدكتورة زينب عبد العزيز، تحت عنوان : العلمانية الفرنسية : ” على فرنسا أن تقوم بخطوة إلى الأمام من حيث العلمانية لتقبل بالانفتاح على أن يكون التسامي من حق الجميع ( أعتقد أن العلمانية مصحوبة بقانون راسخ يضمن حرية العقيدة هو بمثابة إطار للتقدم) ؛ ( إلا أن كل شخص يجب أن يكون له حرية التعبير عن إيمانه الشخصي. فإن كانت امرأة مسلمة تود ارتداء الحجاب، يجب أن يمكنها فعل ذلك)!! يا له من انقلاب شاسع بين هذه العبارات جيدة الحبكة، وكل المواقف السابقة للفاتيكان والكنيسة منذ بداية انتشار الإسلام.

فطوال قرون عدة تقوم الكنيسة باتهام الإسلام وسبّه ومحاربته وشيطنته. ولم يكن بلا سبب أن قامت جريدة “لو موند ديبلوماتيك” الفرنسية بوصف البابا يوحنا بولس الثاني ذات يوم قائلة: “أنه يسير على الإسلام بوابور ظلط”! فلا بد حقا من وجود سبب قهري أدى إلى أن تقوم نفس هذه الكنيسة بمثل هذا التحول المذهل. وهو تحول قد أفزع الفرنسيين المسيحيين الذين استقوا كل ما جعلتهم الكنيسة يتجرعونه، خاصة طوال العقود الأخيرة، بتضافر مع الحكومات والسياسيين والإعلام لشيطنة الإسلام.

من ناحية أخرى، فإن العلمانية الفرنسية، منذ أوائل بداياتها، وهي مزدوجة الوجه. ويكفي أن نقول إنه لكي تتمكن فرنسا من الإعلان عن علمنيتها رسميا، فهي تتحمل ثلثا تكاليف البعثات التبشيرية في فرنسا أو في العالم، لكيلا أقول شيئا عن المصاريف السرية للقوانين المالية. ويكفي أن نرى علاقة الدولة العلمانية الفرنسية بالكنيسة: فرئيس فرنسا يجب أن يكون رئيس كنيسة لاتران بإيطاليا، وكل العطلات الرسمية تقريبا هي مناسبات دينية، والمساحة المتاحة للتعبير عن التديّن لا يمكن إغفالها: فتكفي الإشارة إلى إقامة تمثال للبابا يوحنا بولس الثاني في حيّ مونمارتر، أو الحلقات الدينية النقاشية العلنية التي تقام في الميادين، أو ابتداع اليوم العالمي للشباب والتعاون على إقامته سنويا، الخ. لذلك فهو من الغريب حقا أن نرى البابا فرنسيس يقوم بالملاحظة التالية لفرنسا: “إن الانتقاد البسيط الذي أوجهه لفرنسا بهذا الصدد هو أنها تبالغ في علمنيتها”. أليس هو وكل من سبقوه في المنصب هم الذين فرضوا عليها ذلك الشكل العلماني المتعصب الذي ينتقضه؟ ” ( 6 ).

وتتساءل الدكتورة : هل كان البابا فرنسيس يهوديا ؟

وتجيب : “لقد ضرب البابا فرنسيس الأرقام القياسية على كل سابقيه، بعد مجمع الفاتيكان الثانى، وذلك باعترافه”أنه داخل كل مسيحي يوجد يهودي”، ثم أضاف قائلا : “لا يمكنك أن تكون مسيحيا حقيقيا إن لم تعترف بجذورك اليهودية” !وللتأكيد على ذلك قال : “إنني أصلى بمزامير داوود، على أنى يهودي، ثم أقوم بطقس الإفخارستيا على أنى مسيحي”… والحق يقال: إن البابا اعترف بأن الموضوع قد يولد انفجارا، لكنه مقتنع بأنه “من الممكن أن نتعايش كإخوة”. أما قمة اعترافاته هذه فكانت تلك العبارة : “إنكار المحرقة يعد جنونا” !! وهى تلك المقولة، المشكوك في عددها على الأقل، وفرضتها محكمة نارنبرج…

وسواء أفصح عن هذه المقولات عمدا أم سهوا، فإن هذه الملاحظات قالها البابا فرنسيس أثناء حواره مع جريدة لاانجارديا الإسبانية، يوم الخميس 12 يونيو، ونقلتها عنها وكالة أنسا الإيطالية في اليوم التالي، أي في 13 يونيو 2014…

والمتأمل فى موقف البابا تجاه اليهود منذ توليه منصب البابوية لن يجدها مهمة صعبة،إذ منذ أولى خطواته في المجال البابوي، بدأ بتحية اليهود، كما أن صداقته للحاخام سكوركا معروفة. فالكتاب الوحيد الذي قام بتوقيعه وهو لا يزال كاردينالا، كان عبارة عن تدوين لحوار ممتد بينه وبين ذلك الحاخام. وبينما كان كاردينالا أيضا، كان برجوليو هو الخطيب الرئيسي لإحياء ذكرى الموقعة المعروفة باسم “ليلة الكريستال” التي تم فيها تكسير كل محال وممتلكات اليهود في ألمانيا. وكانت جماعة “بناى بريث” اليهودية الماسونية قامت بترتيب ذلك الحفل الذي ساهم فيه برجوليو بالخطابة وبإشعال شمعدان المينورة…

وكان رئيس المؤتمر اليهودى العالمي، رونالد لودر، قد أعرب عن جملة لها مغزاها لتحية برجوليو عند انتخابه قائلا : “نحن على يقين من أن البابا الجديد سيواصل نفس الطريق الذي سلكه كل من يوحنا بولس الثاني وبنديكت 16، وأنه سوف يدين كافة أشكال معاداة السامية داخل وخارج الكنيسة الكاثوليكية، وأنه لن يقف مكتوف الأيدي حيال الكنسيين الذين ينكرون المحرقة أو يقللون من شأنها، كما أنه سوف يدعم الروابط بين الفاتيكان وإسرائيل. وفي خطاب أرسله البابا فرنسيس إلى رئيس” !

الجالية اليهودية فى روما أوضح قائلا : “أتمنى بشدة أن أتمكن من المساهمة في تقدم العلاقات بين اليهود والكاثوليك، التي بدأت منذ مجمع الفاتيكان الثاني، في روح من التعاون البنّاء المتجدد، وفى خدمة عالم يمكنه أن يكون دائما في تجانس مع رغبة الخالق “. (7).

المسألة السادسة : هل من تحديد لمدلول ” العلمانية ” ؟

 إشكالية التحديد : أولا وقبل كل شيء، أذكركم بموقف الفيلسوف الانكليزي ( جون لوك ) 1632 1704، حيث يقول : ” من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينيا أو فكريا أو اجتماعيا، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر، هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.” ( 8 ).

وكذلك موقف الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأمريكية ( توماس جيفرسون )، الذي قال : ” إن الإكراه في مسائل الدين أو السلوك الاجتماعي هو خطيئة واستبداد، وأن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم “. (9).

عند هذا الحد، يمكننا عرض موقف من تحديد مدلول ” العلمانية “، فأقول : وهذا التعريف الشامل للعلمانية، هو الذي يحدد مفهومها، فهي المحيط الذي عكس تضارب وتناقض نصوص الكنيسة، ودل على تحريف نصوص الإنجيل، وبرر ثورة أوربا على الكنيسة وعلى فكرها. وهكذا نرى أن هذا التعريف يضم بين دفتيه، رؤية الكنيسة، ورؤية المجتمع، أي انحراف الكنيسة، وموقف المجتمع. مع أخذنا في الاعتبار صورة التنافر بين هذه المنطلقات وتلك المواقف، واستحالة انسجامها في كيان واحد، يمكن أن تحدثه شرارة الفطرة الإنسانية، عندما يِؤذن فجر الانعتاق من ظلمة الاستبداد.

وعلى هذا الأساس يمكن استنتاج المقياس، أو القاعدة التالية : العلمانية والاستبداد خطان متوازيان، لا يمكن الجمع بينهما بأي حال من الأحوال، أما اللائكية فهي وجه من وجوه الاستبداد، لذلك، ولذلك فقط ينبغي التمييز بين ماهو لائكية، وما هو علمنة. لذلك ولذلك فقط، لا يمكن القول : بعلمانية أو علمنة الإسلام، ولا القول بعلمانية أو علمنة الديمقراطية، ولا القول كذلك بعلمانية أو علمنة التاريخ

إن ما قمنا به من بحث في مدلول العلمانية هو من صميم علم التاريخ، وليس هو علمنة للتاريخ، وعلى هذا الأساس، يمكن القول أيضا أن العلمنة ممكنة بالنسبة لكل ما انبثق عن الاستبداد، أو كان نابعا من الاستبداد، أو من صورة من صور الظلم، كأن نقول : علمنة الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في أوربا، أو إمكانية علمنة الرأسمالية، أو الحاجة إلى علمنة مجلس الأمن الدولي، أو علمنة محكمة العدل الدولية… أو علمنة منظمة حقوق الإنسان.

المسالة السابعة : علمنة الرأسمالية

أبدأ من أن رأس مال الإنسان إنسانيته، خلق الناس متساوين في رأس مالهم، يملكون إنسانيتهم، مصداقا لقول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم :

” ما من مولود إلا ويولد على الفطرة…” من حديث نبوي شريف، رواه البخاري ومسلم. والفطرة هي إنسانية الإنسان، لا ينازعه فيها مخلوق من غير بني آدم، سخر له الله الأرض والسماء والماء والهواء، وزوده بمفاتيحها جميعا، الناس في ذلك سواء، لا دخل لعامل اللون، أو الجنس، أو اللغة أو العرق. فأرسل الله أنبياءه ورسله، فخاطبوا أقوامهم، أن كلوا واشربوا وسبحوا الله الذي خلقكم وهداكم وأمنكم على ما في أنفسكم وعلى ما في الأرض جميعا، فكل ما في الكون بميزان، الشمس والقمر، الليل والنهار، الموت والحياة، لم يخيركم في منازلها، ولا أفلاكها، فهي جميعها تسبح لله، ومنافعها لكم ضمن تسبيحها بحمد الله، وكل ما في الأرض، خيراتها ونعيمها تسعكم جميعا فلا تبخسوا الميزان، ووعدهم بخير من ذلك كثيرا، فلا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، جعل الله المسالة كلها غيبا، وربطها بمنبهات تعين ابن آدم على الاختبار، فالإنسان في ذلك مخير، السقم منبه والصحة منبه، الألم منبه واللذة منبه، الموت منبه والمال والبنون منبه. ثم أمر الله عباده : أن سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المتقين، وأمرهم بالقراءة، وأخبرهم أنها سبيل النجاة في دنيا الناس، فهو سبحانه علم الإنسان ما لم يكن يعلم، وقرن ذلك بالقراءة وفقط بالقراءة، فالكون بقوانينه وسننه ونواميسه قائم على القراءة، وفي الوقت نفسه ربط سبحانه تلك القراءة باسمه عز وجل كدليل على النجاة، فنهانا عن الظلم والضلال والطغيان فيما بيننا، وأشهد علينا رسله وعباده الصالحين، وذكرنا بمصيرنا حينا بعد حين، منبها إيانا أن السعادة الحق هي أن يسعد الإنسان يوم يقوم بين يدي الله رب العالمين.

لقد أخبرنا سبحانه أن من نازع الإنسان هو الإنسان، نازعه في رأس ماله فأخذ منه إنسانيته، لم يرض قابيل بقسمته ونصيبه ونظر إلى قسمة أخيه ونصيبه، نظر إلى ما عند أخيه هابيل فنازعه فيه فقتله، فاختار الشر على الخير، فطغى قابيل حينما لم يحسن الظن بخالقه، ومنذ ذلك الحين صار الطغيان والقتل وسيلة غير مشروعة للنيل من رأس مال الإنسان، فكان بحق صورة الطغيان الأولى التي تولدت عنها باقي الصور والأشكال.

ينظر الإنسان إلى قسمته ونصيبه، ثم ينظر إلى قسمة ونصيب الآخرين، ذلك هو الاختبار، فإما الرضاء ومن ثمة السلم والسلام والأمن والأمان وكل أوجه البر والإحسان، وإما الظلم والطغيان ومن ثمة القتل والخوف والقلق وكل أوجه الشر والإساءة والجزع والمنع والحرمان.

إن الرضاء هو رأس كل قيمة في عالم القيم، أم الذين نازعوا الإنسان في رأس ماله فقد أساءوا الظن بالله سبحانه حينما أشركوا به، ولما عجزوا عن الاختلاف في مصير الخلق وعودتهم ورجوعهم إلى خالقهم، حيث تساوى في ذلك الصغير والكبير، الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، القوي والضعيف، السقيم والسليم، تساوى في ذلك الجميع، لا تقديم ولا تأخير، فكان ذلك شاهدا ودليلا على وحدانية الخالق سبحانه، إذ لو تحقق اختلاف خروج الناس من دنيا الناس وارتبط ذلك بعامل اللون والجنس والقوة والمال والجاه والسلطان لكان المسيئون على صواب، أما أن التعدد قد استحال في ذلك فإن الدليل على وحدانية الله قد قام في دنيا الناس، فمنذ خلق آدم عليه السلام كانت نهاية الإنسان واحدة، تساوى أمامها الجميع، لا تقديم ولا تأخير، الناس كلهم متساوون، حاكمهم ومحكومهم، عالمهم وجاهلهم، محسنهم ومسيئهم. فوالله لو اجتمعت الإنس والجن وكل ما في الكون، ما تقدم وما تأخر شيء. وحتى بالنسبة لأصحاب الاستدلال المنطقي فإن مثل هذا المقياس أو الميزان لا يمكن أن يكون في هذه المسألة سوى شاهدا على زيف تلك الآراء التي لا تستند إلى سند ولا تقوم على أساس في نظرتها للوجود وخالق الوجود، ثم إلى الإنسان وإلى رأس مال الإنسان. يقول الله سبحانه وتعالى : ” ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ” الآية 91 من سورة المؤمنون.

وقال الله العزيز العليم في محكم التنزيل : ” لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ” الآية 22 من سورة الأنبياء.

وقال : ” أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ” الآية 21 من سورة الأنبياء.

وبالعودة إلى منازعة الإنسان للإنسان في رأس ماله، يمكن أن نتساءل عن السبب ؟ والجواب: هو هلع الإنسان وجزعه ومنعه، يقول الله في محكم التنزيل : ” إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُون ” الآيات 19 إلى 35 من سورة المعارج.

الهلع يتضمن جانبا أساسيا ومهما في الإنسان وهو الخوف، والخوف يستلزم الحذر، والحذر يساعد الإنسان في حياته يساعده على ضمان سلامته وسلامة رأس ماله، أما الجانب السلبي فهو الاستثناء وهو متصل بدنيا الناس وتحديدا بسلوك الإنسان في حالة عدم رضائه، حينما لا يقنع بقسمته ونصيبه من خلال طمعه في قسمة ونصيب الآخرين، هذا ليس أصلا، بل هو استثناء وخروج عن الأصل، أي خروج عن الحد الوسط الذي يقف حدا فاصلا بين نافية ال( أنا ) ونافية ال( آخر )، إنه ابتعاد أو انحراف عن مركز الدوران، عن مبدأ الوسطية التي ارتضاها لنا الله. ثم ماذا يتولد عن الاستثناء ؟ إنه الجزع تارة والمنع تارة أخرى، كل ذلك بسبب عدم رضاء الإنسان برأس ماله ونصيبه، واعلم أن مصدر الشر بالنسبة للإنسان هو الإنسان نفسه، فإذا مسه الشر جزوعا، أي أنه بسبب طمع الإنسان في رأس مال إنسان أو جماعة من الناس يحدث الجزع، ويزداد كلما زادت درجة الطغيان، هذا بالنسبة للجزع، أما المنع فهو امتداد للجزع وأثر من آثاره، إذ لو لم يكن هناك جزع ما كان هنالك منع أصلا، فالإنسان بسبب هلعه وجزعه يتأثر سلبا فتجده حتى إذا أصابه خير يمتنع عن فعل الخير، ظنا منه أن المنع سيبعد عنه شر الآخرين، وهذا معنى : إذا مسه الخير منوعا، إذن المنع ليس حالة مستقلة بذاتها أو سلوكا قائما بذاته، فهو نابع من سوء الظن وعدم الرضاء، وهو مرتبط بجزع الإنسان وهلعه غير المبرر في كثير من الأحيان. فالجزع والمنع من مصدر ومنبع واحد، هو الهلع كاستثناء، لأن الأصل في الهلع هو الخوف والخشية، وهل هناك أعظم من أن يخشى الإنسان خالقه، فيتحول هلعه إلى طمأنينة وثمرة من ثمار الإيمان، واطمئنان وأمن وأمان، وصلاح وإحسان. وإذا فقد سقط الزاعمون والمغرضون الذين أساءوا الظن بقول الله عز وجل، حينما أساءوا الفهم، واعتقدوا بهتانا وزورا أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وخلق فيه صفة الهلع، فكيف نلوم الإنسان بعد ذلك حين يجزع وحين يمنع، أنظروا كيف سقطت حجتهم ويا ليتها كانت حجة.

إن مسألة الهلع أنستنا في صلاتنا، وأثرت في طريقة تفكيرنا وطريقة كسبنا وسعينا، فلا نحن رضينا ولا نحن خشينا ولا نحن ائتمنا. إن الله سبحانه، ومن رأفته بنا، لم يتركنا لهلعنا في دنيا الناس، ولم يتركنا هملا لطغيان الإنسان بسبب عدم رضائه، لقد زودنا سبحانه برابط من روابط النجاة، يربطنا بالله، فنتذكر ونذكر، ومتى داومنا على الذكر استقمنا والتزمنا حدودنا ورضينا وقنعنا بما قسم لنا الله ن فرضينا بنصيبنا ورأس مالنا، فذلك هو الحد الوسط، وكل ذلك ينعكس عبر الزمن على علاقتنا بخالقنا، ثم على علاقتنا بخلق الله. وينعكس ذلك على سائر عباداتنا ومعاملاتنا، فكأننا ندور بصلاتنا وصومنا وزكاتنا وحجنا وسعينا وطوافنا، في سرنا وفي علانيتنا، ندور حول المركز، إنه توحيد الله في ملكوته سبحانه وتعالى عما يصفون. وإلا فما معنى الصلاة، وما معنى الزكاة، وما معنى الصوم، وما معنى الحج، إذا لم تتأكد شهادتنا وتتأكد وسطيتنا ؟ بذلك فقط يستقيم حالنا ونتخلص من الجانب السلبي في هلعنا، وبذلك فقط لا يصيب صلاتنا ولا صومنا ولا زكاتنا ولا حجنا جزع ولا منع. نصلي وما أكثر المنع في صلاتنا، نصوم وما أكثر الجزع في صومنا، نزكي وما أكثر المنع في زكاتنا، نحج وما أكثر جزعنا في حجنا. يقول الله : ” أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون، ويمنعون الماعون ” سورة الماعون. لهذا السب كانت الصلاة عماد الدين ولهذا السبب كانت وستبقى الصلاة مصدر رضانا ومصدر راحتنا وسلامتنا وسلمنا وأماننا وأمننا..

أما الحديث عن الرأسماليات التي ولدت من رحم عدم الرضاء، وسوء الظن بالآخر فصورها متشابهة وتطبيقاتها نابعة من صميم شدة الهلع والجزع والمنع في أبشع صوره نتيجة الانحراف عن الحد الوسط الذي رضيه الله لنا، لقد اخطأ إنسان الغرب حينما برر مواقفه من خلال فلسفة الاستعلاء التي أفقدت عالمنا المعاصر توازنه وجماله وأناقته وصفاءه وبهجته، لقد أمعن الغرب في توسيع رأسماليته على حساب إنسانيته فأخذ من المستضعفين رأس مالهم وإنسانيتهم فأصيب بهلع شديد وجزع ومنع رهيب. يقول الفيلسوف روجي غارودي : ” ومن اليسير البرهان على النظرية الآتية : أن النمو والتخلف يرتبطان برباط جدلي، وأن علاقتهما المتبادلة هي علاقة شرط وإنجاب. وبعبارة مشخصة على نحو أعظم، إن شرط نمو الغرب إنما كان بالضرورة وليد نهب ثروات القارات الثلاث ونقلها إلى أوربة وإلى أمريكة الشمالية، وبالمقابل فإن الغرب هو الذي جعل ما نسميه العالم الثالث متخلفا.إن التخلف هو التعبير الدال على علاقة استغلال بلد بلدا آخر “. (10). وأيضا قوله : ” وبعبارة ثانية، إن النمو والتخلف عنصرا منظومة واحدة، وهي المنظومة الرأسمالية. وإن تراكم الرأسمال الأولي، ثم الإنتاج الموسع الذي يسمى الآن زيادة قد تطورا خلال مراحل عدة : إبادة هنود أمريكة بدءا من القرن السادس عشر، نخاسة العبيد السود التي أصبحت ضرورية لاستغلال المعادن وأراضي أمريكة التي قل سكانها بنتيجة تلك الإبادة الجماعية، ثم بدءا من الثورة الاقتصادية التي جعلها التكديس أمرا ممكنا، لم يعد الاسترقاق يسمح بالإفادة من التقنيات الجديدة، وأن إلغاء الرق، وبدء الحركة الاستعمارية بالمعنى الصحيح، أي السيطرة السياسية والعسكرية على إفريقية وعلى القسم الأكبر من آسية لتأمين الاستثمارات ذات الريع الأعظم في الصناعة وفي التجارة، وذلك بفرض السعر الأدنى على اليد العاملة، والأسعار الأعلى للمنتجات المستوردة فرضا بالقوة ” ( 11).

هكذا أقام إنسان الغرب رأسماليته على حساب رأسمال الآخرين وإنسانيتهم، فاستهدفهم في نصيبهم وقسمتهم وحياتهم مستهدفا بذلك إنسانيته وإنسانيتهم على حد سواء، والأسف كل الأسف هو شدة الهلع الذي صار يعيشه الغرب في عمومه والجزع والمنع الذي أصابه، والأسف كل الأسف أن ذلك انعكس عبر الزمن على إنسان عالمنا المتخلف الذي فقد توازنه، فلم يعد يسمع ولم يعد يعي ما يدور بين يديه و لا من خلفه.

وإذا فلم تعد تنفعنا ثرثرتنا ولا كلماتنا المقطوعة ولا هروبنا من مواجهة هلعنا وجزعنا وامتناعنا، فإما توبة نصوح ورضاء ثم رضاء، فإصلاح ذات بيننا وتحمل أوجاعنا، وإما فالهلع يأخذ منا ما تبقى من رأس مالنا وإنسانيتنا، وثقوا فلا معنى بعد ذلك لممالكنا وأوطاننا إذا بقيت لنا أوطان، أما الغرب فلن تذهب به أنانيته وغطرسته ومكره واستعلاءه بعيدا، فعين الله لا تنام، يقول الله سبحانه :وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ” الآية 20 من سورة الأنفال. فإذا كان هذا الخطاب موجها من الله الواحد الأحد إلى خاتم الأنبياء والرسل عليهم جميعا سلام الله، فإن مثل هذا الخطاب سيسع أمة التوحيد وسيصلها بإذن ربها متى وحدت وشهدت وصلت وصبرت. يقول سبحانه : ” وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ”. الآية 4 من سورة آل عمران.

أما أحرار عالمنا اليوم فإن أمامهم فرصة كي يصححوا مسار الفكرة ومسار الممارسة، فليختاروا مسارهم وفلكهم، فكما أن لليل والنهار والشمس والقمر، فلك، فأولى بالإنسان أن يكون له فلك، وكما أن الليل والنهار والشمس والقمر في حالة دوران، فأولى بالإنسان أن يكون حدا وسطا في حالة دائمة من الدوران، الليل والنهار والشمس والقمر في حالة دائمة من التسبيح، فكيف بالإنسان لا يسبح لله. يقول الله سبحانه: ” وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون ” الآية 33 من سورة الأنبياء. أنظروا إلى تعاقب الليل والنهار والشمس والقمر، كلها راضية بمنازلها وأفلاكها، كلها شاهدة على وحدانية الله، وسبحان الله الذي جعل للإنسان نصيبا من هذا التسبيح، إنه من رحمة الله بالإنسان، للإنسان نصيب من الليل ونصيب من النهار، نصيب من نور القمر بالليل، ونصيب من نور الشمس بالنهار، لا صعود ولا نزول ولا طغيان، دائما في تسبيح، دائما في دوران، هذه عبرة لمن أراد أن يكون في فلك أمة الشهادة، قال الله سبحانه : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” الآية 143 من سورة البقرة.

وإذا فليس أمام أهل ( الغرب ) قبل أهل (الشرق )، سوى طريق واحد لعلمنة رأسماليتهم التي ولدت من رحم الاستبداد، والطريق هو التخلص من عقدة الاستعلاء على خلق الله، والرضاء برأس مالهم الذي هو إنسانيتهم، ليس في حدود الحيز الجغرافي الغربي، ولكن في حيزها الإنساني دون جذبية ولا استثناء، ذلكم هو السبيل إلى علمنة الرأسمالية الغربية التي عبثت طويلا برأس مال الإنسان. وإلا فلا معنى للعلمانية والعلمنة، فأي علمنة هذه التي تقبل بتقطيع أوصال اليمن والعراق والشام، وأي علمنة هذه التي ترضى بقتل النساء والأطفال، والإمعان في نهب خيراتهم في وضح النهار، أي علمنة هذه والجوع يفتك بأبناء أغنى قارة في عالم قامت رأسماليته على الإبادة والاستعباد ؟

المسألة الثامنة : علمنة مجلس الأمن الدولي

لماذا مجلس الأمن الدولي ؟ أولا : يمكننا أن نتساءل عن هيئة المم المتحدة ؟

مقدمات وسياقات :

*/ في 12/06/1941 تم الإعلان المشترك بين الحلفاء الموقع في لندن قصد العمل رفقة الشعوب الحرة في الحرب والسلم تمهيدا لإنشاء الأمم المتحدة.

*/ في 14/08/1941 تم الإعلان على ميثاق الأطلسي الذي تضمن مجموعة من المبادئ من أجل التعاون الدولي في حفظ السلام والأمن، وقع الوثيقة من على ظهر سفينة في عرض البحر كل من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فرانكلين روزفلت، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشيل.

*/ في 01/01/1942 تعهد ممثلو 26 دولة من الحلفاء الذين حاربوا ألمانيا، بدعم ميثاق الأطلسي من خلال التوقيع على وثيقة إعلان الأمم المتحدة، اقترح التسمية الرئيس روزفلت.

*/ في 30/10/1943 انعقد مؤتمر موسكو، حضرته حكومات كل من الولايات المتحدة، بريطانيا، الاتحاد السوفييتي، والصين، وتمت الدعوة إلى التعجيل بإنشاء منظمة الأمم المتحدة.

*/ في 01/12/ 1943 انعقد مؤتمر طهران، حضره قادة الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، والاتحاد السوفييتي، حيث أكدوا على أهمية إنشاء المنظمة الأممية.

*/ في 21/09/1944 انعقد مؤتمر دومبارتون أوكس بواشنطن،حيث اتفقت كل من الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، الاتحاد السوفييتي، والصين، على أهداف المنظمة الأممية وهيكلتها وطريقة عملها.

*/ في 11/02/1945 انعقد مؤتمر يالتا، أعلن كل من فلرانكلين روزفلت، ونستون تشرشيل، وجوزيف ستالين عزمهم وتصميمهم على إنشاء المنظمة الأممية بهدف المحافظة على الأمن والسلام

*/ 25/04/1945 انعقد مؤتمر سان فرانسيسكو، حضره 50 مندوب دولة، الذين صاغوا ميثاق الهيئة الأممية المتكون من 111 مادة.

*/ في 24/10/1945 تم التصديق على ميثاق الأمم المتحدة من طرف الأعضاء الدائمين الخمسة : الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، الاتحاد السوفييتي، الصين،و فرنسا، كما وقع عل ذلك بقية الحاضرين. وهو التاريخ الذي برزت فيه الهيئة الأممية إلى الوجود، وبدء سريان ميثاقها.

وما ذا عن مجلس الأمن الدولي ؟

مجلس الأمن هو مجلس الأمم المتحدة، واختصارا يسمى مجلس الأمن الدولي، وبالرجوع إلى ميثاق الأمم المتحدة في فصله السابع نجده هو الجهاز المسئول على حفظ السلام والأمن الدوليين، وله سلطة قانونية على الدول الأعضاء، ومن ثم فقراراته ملزمة لها وفق نص المادة الرابعة من الميثاق

*/ المقر الدائم للمجلس : نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية.

*/ الأعضاء الدائمون : خمسة وهم : الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، روسيا، والصين وهم وحدهم المتمتعون بحق الفيتو ( النقض).

*/ الأعضاء غير الدائمين عشرة يتم اختيارهم من قبل الأعضاء الخمسة الدائمين للمجلس ثم الموافقة عليهم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليس لهم حق النقض بطبيعة الحال، وإذن فصاحب الحل والربط هم الأعضاء الدائمون.

وماذا عن الاستحقاقات ؟

*/ جويلية 1948 إنشاء أول بعثة تابعة للأمم المتحدة لمراقبة الهدنة في فلسطين.

*/ 10 ديسمبر 1948 اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وماذا عن ميثاق الأمم المتحدة ؟

أ سوف لن أتعرض للوثيقة، يمكن أن يقرأها الجميع، فقط ينبغي أن تكون لديك عقلية تساءلية،

تساعدك على حسن الربط والاستقصاء والتأمل والتذكر والبناء.

ب مقاربة علاقة الأعضاء الخمسة الدائمين للأمم المتحدة بمسألة حقوق الإنسان، وتقرير المصير، والحريات، والسلام، والأمن، والاستقرار، والعدل، والمساواة ؟

وإذا، ماذا قدم مجلس الأمن الدولي للمستضعفين بالأمس واليوم، هل منع الدول الغربية من نهب ثروات الآخرين ؟ ماذا قدم مجلس المن الدولي لأطفال فلسطين واليمن والعراق وبلاد الشام ؟

بناء على ما سبق ذكره يمكن أن نتساءل، هل بإمكان ( الغرب) علمنة مجلس الأمن، فيتحول إلى مجلس أمن كل دول العالم، يهمه أمن أطفال ونساء كل دول العالم الأعضاء ؟ أم أن الأمن هو أمن (الأقوياء) دون ( الضعفاء)، أمن أطفال أوربا ونسائها، أما أطفال ونساء ( العالم المتخلف) فهم وقود رأسمالية الغرب، أمنهم ليس من أولويات مجلس الأمن، ولا من أولويات حلف النيتو الذي أوجده.

إن شعوب عالمنا اليوم لا تعترف بعلمانية وعلمنة ليس من اهتماماتها تحرير مجلس الأمن.

المسألة التاسعة : علمنة محكمة العدل الدولية
 
محكمة العدل الدولية ولدت من رحم مجلس الأمن الدولي، وترعرعت في حضنه، وتسلسلت خطاها مع خطاه، وتحدثت بحديثه واحتجت بحججه.

هذه المحكمة أو الهيئة القضائية هي الأداة الرئيسية لمجلس الأمن، وتنازلا عند أماني بعض أعضاء هيئة الأمم المتحدة، يمكن القول أن هذه المحكمة هي الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة.

*النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية من صميم ميثاق الأمم المتحدة، ولذلك لا تنبهر بالديباجة وزخرف القول، إنما العبرة بالأعمال يا أولي الألباب، ويا أهل النظر.

* أعضاء هيئة الأمم المتحدة هم أطراف في النظام الأساسي للمحكمة التزاما وتلازما، هذا من الناحية النظرية، لأن الواقع شيء آخر.

* مجلس الأمن هو الجهة المخولة قانونا في النظر في أي مخالفة لأحكام المحكمة بخصوص تصرفات المتقاضين. وإذن فإن فعالية الأحكام متوقفة على رؤية وتوجهات ورغبات الأعضاء الخمسة الدائمين وخصوصا رؤوس حلف شمال الأطلسي، يمكنكم ملاحظة مواقف إسرائيل وتصرفاتها وجرائمها وكل ما يصدر عنها في أيام الناس، وكأنها في كوكب لا يصله صوت ونظر وعدل وميثاق وقوانين وإنسانية محكمة العدل الدولية وحلف النيتو ومجلس أمنه الدولي ؟ أما العراق والشام واليمن وليبيا و… فحدث ولا حرج، ما هذه الجذبية من جهة الغرب، وما هذه القابلية من جهة… ؟

* الجهة الوحيدة المتخصصة في الفتوى أو الإفتاء في المسائل القانونية الدولية، وما تعلق بأعمال الهيئات والمنظمات الدولية، هي محكمة العدل الدولية التي تأتمر بأمر مجلس الأمن وتنتهي بنهيه.

هل بإمكان ( الغرب) علمنة محكمة العدل الدولية، كي تتحول فعلا إلى محكمة عدل، تنظر إلى المتقاضين بغض النظر عن ديانتهم ولونهم وأعراقهم، أوربيين، أفارقة، أو من آسيا، أو حتى هنودا أو سودا من داخل أمريكا، إن علمنة محكمة العدل الدولية تعني محاكمة ساسة إسرائيل الذين قتلوا أطفال غزة، ليس مرة واحدة، بل مرات ومرات.

إننا لا نبحث عن آثار العلمانية والعلمنة في عالمنا، يوم كان للنظام الإقطاعي كلمته وجبروته في أوربا، كما لا نبحث عن ذلك في جو الحرب العالمية الثانية أيام انشغال دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بالحرب ضد دول المحور بقيادة هتلر. إننا نبحث عن الآثار والأمثلة أيام سيطرة الحلفاء ونشوتهم بانتصارهم وبميثاقهم في أطلسهم، واحتفائهم بمولدهم الجديد المسمى من قبل روزفلت ” هيئة الأمم المتحدة ” التي رزقت بالابن البكر ” مجلس الأمن الدولي ” وبالبنت بهية الطلع ” منظمة حقوق الإنسان ” والبنت الثانية التي ولدت على استحياء ” محكمة العدل الدولية “، ثم تباعا : المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ومجلس الوصاية…

وفي هذا الصدد سوف لن أبحث، أو أقدم صورا أو تقارير من خارج الدائرة الأوربية، أو دائرة الغرب سوف أنضبط في اختيار الشهود ونوعية الحجج والأدلة.

1/ يقول ( جول فيري) : في خطابه أمام النواب : ” نعم إن لنا سياسة استعمارية، سياسة توسع استعماري تستند إلى منظومة (… ) وهذه السياسة الاستعمارية ترتكز إلى قاعدة ثلاثية : اقتصادية، إنسانية وسياسية. ” (12).

إن ما تحدث عنه ( جول فري ) سياسة مبنية على فكر وتصور، وليست مجرد أعمال أو تصرفات شخصية معزولة، مسألة عمل مؤسسات وليست نزعة فردية متطرفة.

وإليكم الحوار الذي دار بين السيد ( كميل بلتان ) و ( جول فري ) :” يسأل السيد ( كميل بلتان ): ما هي هذه الحضارة التي تفرضها طلقات المدافع ؟ يجيب ( جول فري) إليكم أيها السادة النظرية، إنني لا أتردد في القول أن المسألة ليست مسألة سياسية ولا مسألة تاريخ، بل هي ميتافيزياء سياسية، أيها السادة علينا أن نقول بصوت أعلى وبمزيد من الحق، يجب أن نعلن بصراحة أن للشعوب العليا حقا تجاه الشعوب الدنيا. السيد ( جول مين ) : أتجرؤ على هذا القول في البلد الذي أعلن حقوق الإنسان. السيد ( دي كيوته): هذا تبرير الرق ونخاسة الزنوج، السيد ( جول فري ) : إذا كان السيد (مين) المحترم على حق، وإذا كانت وثيقة حقوق الإنسان قد كتبت لزنوج إفريقيا الاستوائية، إذن بأي حق يمكنكم أن تفرضوا عليهم المبادلة والتجارة ؟ إنهم لا ينادونكم. ” (13).

يعلق المفكر الحر ( روجه غارودي ): على الموقف بقوله : ” هذه هي نصوص بناة الإمبراطورية التي تتحلى بميزة أنها لم تلجأ إلى مزاعم حب البشرية في ادعاء الرسالة التمدينية والدينية أو الأخلاقية الخاصة بالغرب، وهي تكشف بوقاحة عن دوافع الاستعمار الحقيقية. ” (14).

إن أمم العالم اليوم تريد من العلمانية والعلمنة أن تصحح مسار ( الغرب)، فتجعل من هيئة الأمم، هيئة لكل الشعوب والأمم، ومن ميثاقها ميثاقا لكل الأمم، تريد أن تجعل من مجلس الأمن مجلسا لها جميعا، يحفظ أمنها جميعا وسلامتها جميعا، وحقوقها جميعا. فإلى ثورة فكرية ذات نزعة إنسانية، يمكن أن تساهم مساهمة نوعية في سبيل إسعاد الإنسانية جميعا، إن الأرض تسعنا جميعا وتستوعب رؤانا جميعا، وخيراتها تكفينا جميعا، أبيضنا وأسودنا، فقيرنا وغنينا، ضعيفنا وقوينا : ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ” الآية 13 من سورة الحجرات.

بشير جاب الخير
25 أوت 2016

الإحالات :

(1)،(2)،(3) د. زينب عبد العزيز، المسيحية نشأتها وانتشارها، منبر حر، معهد الهوقار جنيف بتاريخ 31/07/2016.
(4) د. زينب عبد العزيز، قسطنطين الأول، منبر حر، معهد الهوقار جنيف بتاريخ 25/07/2016.
(5) د. زينب عبد العزيز، إلى نصارى مصر، منبر حر، معهد الهوقار جنيف بتاريخ 07/07/2016.
(6) د. زينب عبد العزيز، حوار البابا فرنسيس، منبر حر، معهد الهوقار، 21/05/2016.
(7) د. زينب عبد العزيز، هل كان البابا فرنسيس يهوديا ؟ صحيفة الأمة، صحيفة إلكترونية، المقالة بتاريخ 15/06/2014.
(8) كارين ارمسترونغ، النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، دار الكلمة، دمشق، 2005، ص 90.
(9) كارين ارمسترونغ، نفس المرجع، ص 103.
(10)، (11)، روجه غارودي، حوار الحضارات، منشورات عويدات، بيروت، باريس، الطبعة العربية الثانية، ترجمة الدكتور عادل العوا، ص 45 46.
(12)، (13)،(14) روجه غارودي، حوار الحضارات، منشورات عويدات، بيروت باريس، ص : 63،64،65،66.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version