كم كانت رابعة شامخة ورائعة في عالم الطهارة والحب والصفاء والنقاء، وكم كانت متميزة بثوب التوحيد والرضاء والزهد والعطاء، فهي أم الخير، وأرض خير، وشجرة خير.

أما كونها أم الخير، فهو اسمها، ولكم أن تبحثوا في ذلك.

وأما كونها أرض خير، فلأنها بمثابة الأرض التي أعطتنا بذور الحرية، وهل هناك أفضل من الحرية بعد توحيد الله؟

وأما كونها شجرة خير فلأنها شجرة تحمل كثيرا من الأغصان وكثيرا من الأوراق، كثرة الأوراق لأنها تسعنا جميعا، تسعنا في خصوصياتنا وتنوعنا، غير أنها لا تسع غربتنا وتشتتنا وفرقتنا، ولذلك أوصتنا كما توصي الأم أبناءها وبناتها، فهي تعطينا من أوراقها، ولكن تعطي كل واحد منا أوراقا أربعة، فأوطاننا بمثابة أبناء وبنات رابعة، أما الأوراق فهي بمثابة نصيب وقسمة كل واحد منا حسب إمكاناته وإكراهاته واستعداداته وخصوصياته، ولذلك فالحد المسموح به أربعة، يتناولها كل طرف حسب اجتهاده واختياره، ليس إلا. وما التجربة التركية إلا واحدة من هذه الأطراف، أو الأوطان في عالمنا. رابعة تركيا ليست كرابعة مصر، فلكل وطن رابعته التي يجب أن يجتهد في اختيارها، الأم أوصتنا كذلك وحذرتنا، ليس من بعضنا البعض، أبدا، الأم لا تشمت بأبنائها، الذي يشمت بالإنسانية ويكرهها هو مصدر الكره كله، إنه فقط الاستبداد، ولكم أن تتأملوا صورة من يتشبث بالاستبداد ويتغنى له وبه، أهو من الفن أم من العفن، أهو يتغنى للحياة وبالحياة أم للموت وبالموت؟ نحن لا نتكلم عن دروب المعصية والاستقامة، فهي من صميم حياة الإنسان، ولو لم تكن المعصية ما كانت الاستقامة، إننا نتكلم عن الاستبداد الذي هو ضلال في ضلال، ألا تعلم أنه لا وجود داخل قاموس الاستبداد للخيط أو الخيوط البيضاء، والخيوط الأخرى ذات الألوان الزاهية، فهو لا يعرف سوى ما هو أسود وقاتم السواد.

1/ رابعة تركيا قلعة الأحرار

متى ولدت، وكيف نشأت وترعرعت، ومن أي حليب رضعت؟ لقد قلت ذات مرة، وأنا أتابع مسار الحركة الإصلاحية التركية: التجربة التركية ولدت من رحم تركيا، لا أتحدث عن تجربة العسكر، بل تجربة التحرر والتحول والإصلاح والتغيير والاستعداد للإقلاع الحضاري إن شاء الله. وفي خضم ردود الأفعال تجاه الإجراءات التي أقدمت عليها الدولة التركية، وخصوصا من جهة (الغرب) الذي أبهرته رأسماليته، قلت حينها: نحن الآن عند ساعة الحزم الناعم، بعد أن تجاوزت تركيا مرحلة التموقع الناعم، والهدم الناعم والبناء الناعم والمواقف الناعمة، وما نعومة قادة تركيا الذين برزوا إلى الواجهة إلا دلالة على السياسة الناعمة في ظل الصحوة الاجتماعية والثقافية الناعمة التي انعكست عبر الزمن على ملامح الإنسان التركي وسلوكه يوما بعد يوم. إن تجربة تركيا هي تجربة مدرسة أصيلة في ثقافتها وفي فكرها، في روحها وفي تراثها، إنها سلسلة من الحلقات التي استغرقت صناعتها تصفية وتحلية، تخلية وتربية، قرنا من الزمن، فهي منذ الوهلة الأولى التي غدر فيها الغدر وزمرته بالسلطان عبد الحميد الثاني، بدأت الرحلة نحو المستقبل بإيمان الشيوخ الذين وقفوا على مطبات الحياة ودروبها، والغفلة وأوحالها، والمظالم وعواقبها، منذ تلك اللحظة وتركيا تسترجع أنفاسها مثل القائد الذي أصر على الوفاء ولم يسقط، بعد أن حملته جراحه وآلامه قرنا من الزمن، فلم ينس طينته ولم يغريه تسابق الدنيا وزخرفتها، ولا غرام الشهوات ولذائذها، ولا تساقط الأوراق من أشجارها، أدرك طبيعة الفصول وتحولاتها، ومنازل الأحياء وشموخها، وحلاوة الصبر ومذاقه. وقلت بخصوص تجربة تركيا الرائدة: إن كنوز هذه التجربة لينوء بمفاتيح خزائنها أولو العزم من الأتراك أمثال السيد نجم الدين أربكان، الذي نظر ذات يوم في صورته، فلم ير فيها أطفال تركيا في مدارسهم، ولا صورة حرائرها في بيوتهن، ولا صورة جنوده في ثغورهم، ولا صورة الركع الساجدين في محاربهم، ولا أولئك المرابطين في مجتمعهم، لقد أوجس في نفسه خيفة، فلم تقهره الدنيا وتنافسها، ولم يغرر به عرش حكومته، فرآه أوهن من بيت العنكبوت، فأعطاهم البيت واحتفظ بخيوطه، وأخذ ينسج في رميم الخيوط الأمل ويمسح عنها غبار اليأس وينقيها مما علق بها من جشع وجزع ووهن ومنع، ذات يوم من سنة 1997 غطت الغيوم سماء تركيا التي لم يلتفت لها العرب الذين كانوا غارقين في نشوة أحلام اليقظة، أما أربكان فلم تثنيه توجهات العرب والعجم في الشرق وفي الغرب، فراح يستلهم دروس التاريخ ومنازل المجتمعات والأمم، فسأل الله في خلوته واستحضر معه كل ما هو جميل في تركيا، وتخلص من كل ما هو قبيح، سأله سبحانه، تقريبا، بكل ما سأله به رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأله باسمه الأعظم، وبكل أسمائه الحسنى وصفاته العليا، سبحانه وتعالى عما يصفون، سأله أن يحفظ تركيا ومجتمعها ويبسط لهم الخيرات، ويوفقهم في مسعاهم إلى هدم الضلال وبناء الحق وأن يبارك لهم في اختيار وسائله وأدواته، ببركة الله سكنت النفوس وهدأت، كم كانت المسافة بعيدة، وكم كان الطريق محفوفا بالمخاطر والإكراهات، وكم هي ببركة الله صارت أقرب، خمس سنوات، كم هي أقل من ثانية واحدة في حياة الأمم والمجتمعات، كم هي غالية في عالم الصبر وعالم الخلوة مع علام الغيوب، يقول الله سبحانه: ” يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ” الآية 28 من سورة الأنبياء. وقوله سبحانه: ” يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ” الآية 110 من سورة طه.

لاحت بوادر الرحمة من جديد، فولد مولود جديد من رحم تركيا الولود، عمره قرن من الزمن، اسمه من أسماء أمه تركيا التي تسمت بها عبر الزمن، يحمل شعارا واحدا اجتمعت فيه الكلمة والأمل، والتطلعات إلى غد أفضل في كنف العدل والحرية، وكله عزم وبهاء ونعومة وبذل وعطاء في سبيل الارتقاء إلى ما هو أحسن وتركيا كلها في حركة ناعمة نحو الإقلاع الحضاري إن شاء الله.

هذه رابعة تركيا باختصار، التي قرأتها من خلال اسم طيب رجب أردوغان، ليس شعارا، فهو من طيبة الأم تركيا وطيبة الأم رابعة ، ولذلك فأنا مجبر على التقيد بوصية الأم رابعة التي لم تعط كل واحد من أبنائها سوى أربعة أوراق، أعطتهم رباعية، لكنها أوصتنا جميعا أن رباعية أحدنا يمكن أن تختلف عن رباعية الآخر، ولذلك عابت علينا تناول مشكلاتنا من باب تناول السلع المعلبة، وتناولها من باب الحلول الجاهزة، وهذا بالذات الذي قرأناه في وصية الأم رابعة من خلال فهم الأستاذ مالك بن نبي فيلسوف الحضارة وأستاذ الثقافة، الذي أوصانا بتناول مشكلاتنا من داخل عقولنا، فهو الذي قال “ورب شيء جديد في مرحلة تاريخية معينة يصبح قديما في مرحلة تاريخية أخرى” (1).

وقال أيضا: “فلو صح هذا بالنسبة لمجتمع واحد معين في حقبتين مختلفتين من تاريخه، فكم يكون صحيحا بالنسبة لمجتمعين مختلفين، قد اختلف فيهما أيضا عمر التطور الاجتماعي” (2).

وقال أيضا رحمه الله: “ولهذا نستطيع أن نقرر بصفة عامة أن من المخاطرة أن نقتبس حلا أمريكيا أو حلا ماركسيا كيما نطبقه على أي مشكلة نواجهها في العالم العربي والإسلامي، لأننا هنا أمام مجتمعات تختلف أعمارها، أو تختلف اتجاهاتها وأهدافها” (3).

نعود لتركيا من خلال الحشد المليوني الذي لم أر مثله في حياتي، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، حشد الديمقراطية والشهداء.

* المكان اسطنبول، التي كانت تسمى القسطنطينية أيام البيزنطيين، التي حررها أجدادنا وأجداد أردوغان وأجداد أربكان، نحن نعتز بهم لأنهم اعتزوا بالإسلام فأعزهم الله، والحمد لله أننا شعرنا بشيء من العزة في أيام الناس هذه، الحمد لله.

*المصدر: قناة الجزيرة، وكأن عالمنا العربي ليس فيه من القنوات الفضائية سوى قناة واحدة اسمها ” الجزيرة ” ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

*التاريخ: الأحد 07 أغسطس / أوت 2016.

تركيا واحدة موحدة بعلمها الأحمر والأبيض، بياضه بياض ثوب الأم رابعة، وأحمره أحمر دم شهدائها، واحدة بشعبها بأطيافه ومرجعياته الفكرية وتوجهاته الأيديولوجية، شعب واحد رغم أنف المنشقين الانقلابيين.

وطن واحد يسع الجميع بأمنه وأمانه وخيراته وتضامنه وضيافته.

دولة واحدة قوية بديمقراطيتها وبتوجهاتها على طريق النهضة نحو عتبة الإقلاع الحضاري.

هذه هي رباعية تركيا التي رفعها أردوغان تتويجا لحركة الإصلاح التي تضمنت الصحوة الاجتماعية والثقافية والسياسية على طريق النهضة نحو الإقلاع الحضاري إن شاء الله.

إذن رابعة تركيا: شعب واحد ـ وطن واحد ـ علم واحد ـ دولة واحدة.

بعض ما جاء في كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان:

ـ شعبنا هذا شعب مختلف.

أردوغان قال: شعبنا شعب مختلف بوحدته وعلمه ودولته، فهو فعلا شعب مميز في صحوته وفي مواقفه، آخرها موقفه من الشعب السوري الشقيق، كم مليونا من الناس يعيش داخل تركيا عيشة هنيئة؟

شعب مختلف مميز من خلال يقظته وصبره وحلمه.

أردوغان اعتز بشعبه والشعب اعتز برئيسه، الحمد لله لأن أردوغان قال: شعبنا شعب مختلف، ولم يقل: (نحن شعب الله المختار)، لم يقل: (أنا خير منه) على طريقة إبليس، لأن من يقول مثل هذه الكلمة فهو أقرب إلى من يتكبر على طينته، ألم يقل نبي الرحمة وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم: ” كلكم لآدم وآدم من تراب ” جزء من حديث نبوي شريف رواه احمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ـ قال أردوغان: أفتخر بأني جزء، أو فرد من هذا الشعب، دليل على حضور الرئيس وتواضعه وقبوله ومصداقيته، ولكل مواطن من مواطني الدول في عالمنا المعاصر أن يزن مصداقية رئيسه، أو أن الرؤساء يزنون مصداقيتهم بميزان شعوبهم.

ـ قال أيضا مخاطبا شعبه وكله وعي وحضور: هل تقبلون بالذل والهوان؟ هذا هو الموضوع.

من، من الرؤساء العرب خير شعبه بكل حرية بين الحرية والاستبداد؟

من الذي قتل شعبه ودهسه بالدبابات وأطلق عليه الرصاص والقنابل لكي يجبره على الذل والهوان؟

وأنا أقول في هذا المقام بالذات: من يريد إعدام الناس ظلما نعدمه حقا، ومن يريد أن يعدمهم إجراما نعدمه قانونا. وإلا فما قيمة القانون وما قيمة العدالة والحرية والمساواة؟

قال أيضا: حدودنا القلبية تضم إخوة لنا خارج تركيا.

مثل هذا الكلام تبرره مواقف تركيا شعبا وقيادة، من خلال معاملة الإخوة السوريين، والشعب الفلسطيني الشقيق، وحتى موقف تركيا من الشرعية الديمقراطية والدستورية في مصر الكنانة.

إذن لا بد أن نفهم وأن نعي وان نستحضر وان نؤمن وأن نبرهن على أن الحدود القلبية تتضمن الحدود الجغرافية، بل حدودنا القلبية تسعنا جميعا، حتى الذين لا يدينون بديننا، فدين التوحيد يوصينا بهم خيرا، ويوصينا بمعابدهم خيرا، ويوصينا بأموالهم وأعراضهم وأرضهم خيرا.

قال السيد أردوغان أيضا: الغرب سيندم على دعمه للإرهاب، فعلا سيندم على دعمه للإرهاب، ليس تهديدا، وليس تمنيا أن يصيبهم مكروه، ولكن لأن الإرهاب هو الإرهاب، إذا أردتم أن تتعرفوا على حقيقته أسألوا أبرياء غزة، وأبرياء سوريا والعراق، وقبل ذلك أبرياء البوسنة، وبعد ذلك أبرياء رابعة مصر ونهضتها.

أما كلمة المعارضة، وتحديدا من خلال كلمة زعيم الحزب الجمهوري التركي السيد كمال كلشدار أوغلو، فقد صبت هي الأخرى في صميم الموضوع الذي ركز عليه أردوغان من خلال سؤاله الذي وجهه إلى شعبه: هل ترضون الذل والهوان.

قال كلشدار: العلمانية هي أن لا يعبد إنسان إنسانا آخر.
 
وكأنه يخبرنا أن مشكلة تركيا هي مع الاستبداد والاستبداد فقط.

قال أيضا: العلمانية هي ضمانة لحرية المعتقد.

هذا صحيح، بل جيد وسليم، إن ديننا الحنيف أوصانا بذلك:

قال الله تعالى: “قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين” (سورة الكافرون).

وقوله سبحانه وتعالى: “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم” (الآية 256 من سورة البقرة).

هذا الذي تعلمناه من ديننا، ونحن نوافق السيد كلشدار بما علم.هذا من جانبنا، نصوصنا واضحة، ومصدر هذه النصوص هو نص القرآن الكريم الذي تكفل الله بحفظه، لا يختلف حوله مسلمان عاقلان فنحن لا نخاطب الناس بقرآن 1، وقرآن 2، وقرآن3، أو ما شابه ذلك، ولذلك فنحن نرفض علمانية (الغرب) عموما، وعلمانية فرنسا خصوصا التي لا تعترف بحرية الناس في المعتقد، وإذا كان لا بد من ضمانة في مجال حرية المعتقد، فينبغي مطالبة فرنسا بها.

قال أيضا: الدولة تحارب الظلم في إطار القانون، وأن العدل أساس الملك، بل العدل أساس الدولة.

وعلى هذا الأساس أقول عاشت تركيا حرة بشعبها الموحد وعلمها الرمز وبدولتها الديمقراطية القوية وبوطنها الذي يسعها ويسع حتى المستضعفين من خارج تركيا.

وفي هذا المقام أحب أن أؤكد على أن: العلمانية تحافظ على خصوصيات الناس وعلى منازلهم وأسرارهم وحرمتهم ومعتقداتهم وأخلاقهم. والعلمانية ينبغي أن تحترم منازل كل من الحرية والإخاء والمساواة، وتلتزم بذلك، لأنه: لا المساواة يمكن أن تدرك الإخاء، ولا الحرية تنفي المساواة، بل كل في فلك يسبحون.

2/ رابعة مصر الكنانة

نحن نقترب من 14 أغسطس / أوت، ثلاث سنوات مرت، غير أن رابعة رفقة أختها الأصغر منها التي تشبهها إلى حد بعيد، وكأنها أختها التوأم ، فعلا لقد استشهدت رابعة وأختها معها، إلا أن رابعة حية في كل مكان من مصر، حية في قلب كل مصري، باستثناء من خانوا مصر وشعبها ووطنها وشرعيتها، حية في قلب كل حر من أحرار العالم، عالمنا الذي سيذكر رابعة يوم 14 أغسطس / أوت 2016 وسيذكرها في كل يوم بعد ذلك، أما قنواتنا العربية الفضائية سوف تضل غائبة في غيبوبتها، أما قناة الجزيرة، الذي أتمناه هو أن تعطي حق رابعة في ذكراها كما عودتنا دائما، فتحية تقدير للمشرفين على الجزيرة، وخصوصا للقائمين على تموين قناة الجزيرة.

أما بخصوص رابعة مصر في رباعيتها فهي من خصوصيتها وخصوصية شعبها وأحرارها، فأنا من هذا المقام بالذات لا أسمح لنفسي بمخالفة وصية الأم رابعة، فهي أم مئات الشهداء الذين سقطوا في ميادين مصر تحت وقع القنابل والرصاص والمدرعات. أبناء مصر أحق باستخلاص رباعيتهم فهي لهم وهم لها، أتمنى لها ولادة طبيعية من رحم الأم مصر العزيزة.

3/ رابعة الجزائر الحبيبة: قلعة الشهداء

الجزائر، سواء تصورها البعض جزرا، أم أرادها البعض الآخر جزيرة مهملة، فقد عادت إلى أبنائها وبناتها بمشيئة الله الذي بارك لها في دماء شهدائها، فارتوت حتى عادت جزائر واحدة ببحرها وصحرائها وتلالها، عادت بحمد الله كما تصورها العربي ابن مهيدي وهو يوحد الله مبتسما وساخرا من جنرالات فرنسا، لقد زلزلهم في كبريائهم، وأوصانا أن كبرياء المستبد لن يدوم، كم هو عظيم وجميل بالنسبة للذين حفظوا الوصية، وكم هو أعظم وأجمل للذين عملوا بها. أعود لأمنا الحبيبة الجزائر، فأبدأ من حيث وصل شيخنا وأستاذنا البشير الإبراهيمي رحمه الله، فأقول: أن الجرح لم يندمل، كم كان الدم منهمرا، ارتوت منه الأرض، بحرها، صحراءها وتلالها، الأشجار والحجر، إلا أن الجرح لم يندمل، دمع الأم لم ينهمر، حياء من الدم المنهمر، دمع الثكلى انحبس، حياء من الدم المسكوب، والعرض المنتهك، وهامة القائد المشنوق، خرج الشعب ذات يوم يبتهج، رغم الجراح والألم، لم ينطق سوى باسم الأم، جزائر، جراحها لم تندمل، كليمه والله، بشعبها الكليم، لم يقل سوى أمي، عرضي، حياتي، دمي، دمعي، كرامتي، وحدتي، أملي. حينها نادها البشير، بعد أن قبل جبينها وسلم على خدها، وطلب الإذن منها، وهي تراه في مرآتها، دامعا من غير دمع، متألما من غير جرح، سألته عن دمعه، وعن جرحه، سألته عن ذاكرته وعن حضوره، إني أراك هائما مرتبكا، ماذا أصابك أيها الابن البار، لم أعهد فيك مثل هذا، أمام شراسة الاستعمار، قبلها من جديد وراح يذكر لها الإخوة والأحباب والجيران والأصحاب، في شوق، أما الدموع المحبوسة فبسبب دموع الأحياء، وأما الارتباك، فهو من شدة ألم الفراق، ليس فراق الدنيا وزخرفها، بل لفراق أولئك الذين طلقوا الدنيا وزخرفها، لما ساومهم الاستعمار وعرض عليهم مثل الذي عرضته ذات يوم قريش على عم رسول صلى الله عليه وسلم، وروى الرواية بقوله:” حيث جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: أرأيت أحمد؟ يِؤذينا في نادينا، وفي مسجدنا فانهه عن أذانا، فقال يا عقيل، ائتني بمحمد، فذهبت فأتيته به، فقال: يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم، وفي مسجدهم، فانته عن ذلك، قال: فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء ثم قال: يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته. فقال أبو طالب: ما كذب ابن أخي، فارجعوا “. رواه البخاري.

ففتح الإبراهيمي عينيه وحدق وحلق ببصره في وجه أمه، وقال: لم أنس هذا يا أماه، إلا أن الذي أخشاه، أن تلعب الدنيا ببقايا الموت وآثار الفناء من إخواني الذين كتب لهم الله الحياة، من أن تغرهم الدنيا فيتنافسوها، فتهلكهم كما فعلت بمن كان قبلهم. ثم قرأ بين يديها الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم، عن عقبة بن عامر: ” أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم أنصرف إلى المنبر فقال: إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها “. صدق رسول الله، والمقصود بالصلاة التي صلاها رسول الله فهي كصلاة الميت، أي دعاؤه لأهل أحد، وقد كان هذا بعد سبع سنين من استشهادهم رضوان الله عليهم. قبل بعدها البشير أمه من الخد ومن الجبين وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى يمينه وكأنه يستأذن من رجل في قامة الرائد والقائد والمعلم ابن باديس، فحمد له الله عبد الحميد، وأذن له بالخروج، فاخذ الإبراهيمي البشير يتأمل، وكأنه يستحضر أحداث السنين السبع لثورة التحرير، والسنين الطوال والعجاف، من قبل، التي طواها الزمن من عمر الناس، وملأها الاستعمار ظلما وعارا ودمارا. ثم بقينا ننتظر حتى صعد الإبراهيمي المنبر وأخذ يكلم الناس، كان ذلك من يوم جمعة من جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة التي أخذت اسمها من اسم أمها الجزائر، ولم ترض، بعد أن صلت على رسول الله سوى بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالعربية لغة القرآن لغة بيان وسلام. كان ذلك في السادس من شهر يوليو من سنة 1962 للميلاد. أنا لم أحضر تلك الجمعة لأن عمري كان حينها سنتان، أما الحضور فبسبب ذكرنا لأولئك الرجال العلماء الأفذاذ، فكأننا صلينا معهم وحضرنا بينهم وسلمنا عليهم واهتدينا بهديهم رحمة الله عليهم.

من أين يمكن أن أستقي رابعة الجزائر؟ سؤال محير ومقلق، خصوصا حين نتذكر رجالا بمنزلة شيخنا وأستاذنا الفضيل الورثيلاني رحمه الله، الذي لا يعرفه أطفال مدارسنا وطلبة معاهدنا إلا قليلا، الرجل عبر عن صفوة الصحوة الاجتماعية الثقافية التي شهدتها الجزائر قبل الاستقلال، أي إبان الاحتلال الفرنسي الغاشم، فقال: ” لقد قام الفوج الأول من رجالنا الذين شيدوا جمعية العلماء بهدم الضلال والباطل هدما شغلهم عن كل شيء، ولكنهم قاموا بذلك ومعهم زاد عظيم من الذخائر الخلقية الإسلامية، تعاون على تثبيتها فيهم: 1ـ الفطرة السليمة، 2 ـ والتلقين المحكم، ولو اعتمدوا على علمهم الغزير وبيانهم البليغ وحدهما لما نجحوا في هدم الضلال العريق والبدع المستحكمة، أما هذا الجيل الناشئ في معمعان الحركة، فقد فتح عينيه في غبار المعركة وشهد مراحل الانتصار، ولكنه لم يفقه أسباب النصر وأسلحته النفسية، فظن أن ذلك الهدم هو الغاية وأن معاوله هو العلم والبيان، فالتفت إليهما وسعى في تحصيلهما وغفل عن السلاح الحقيقي للهدم والبناء معا، وهو قوة الروح ومتانة الأخلاق واستكمال الفضائل، وان الهدم ليس مقصودا إلا للبناء، وأن البناء لا يتم إلا بوسائله الصحيحة وأدواته، وأن القدرة على الهدم ليست دليلا على القدرة على البناء، وأن أسلافنا ما أعلوا ذلك البناء الشامخ للإسلام إلا بعد أن بناهم الإسلام على فضائله، وطبعهم على أخلاقه وهيأهم للاستخلاف في الأرض، ولهذه الغفلة عن هذه المعاني قل نصيب هذا الجيل منها، وأخشى أن تؤدي الغفلة عنها إلى ضعف فيها، ويؤدي الضعف إلى تحلل وانهيار، ونكون قد هدمنا باطلا ولم نبن حقا، بل نكون قد هدمنا الباطل والحق معا، وهي أخسر الصفقات ” (4).

سبحان الله، فكأن الرجل يقول لنا، منبها ومحذرا: احذروا الدنيا أن تنافسوها، كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم، وهو في الوقت نفسه يحذرنا أشد من ذلك، أن بذور الكلمة التي نطق بها إبليس، ويا ليته لم ينطق، وقال مثلها ابن آدم ، ويا ليته لم يقلها : ” أنا خير منه “.

سبحان الله ما أروع مثل هذه التوجيهات، إننا إذا وضعنا مؤلفاتنا وملتقياتنا ومؤتمراتنا في كفة، ووضعناها وحدها في كفة لرجحت، ومن ثم فالسؤال في حاضرنا وفي تراثنا القريب الذي هو ماثل في حاضرنا: ماذا هدمنا، وماذا بنينا؟ ما هي مشاريع الهدم ومشاريع البناء في سيرتنا، في مدارسنا ومساجدنا ومزارعنا ومعاملنا ومدننا وقرانا وأريافنا؟ كيف هيا شعاراتنا التي تمجد إلى حد بعيد طبيعة الكلمة الخالدة؟ كيف هي أحزابنا التي فرقتنا في مجتمعاتنا، وغشتنا في مشاريعنا، وكرست الرداءة في واقعنا؟ إن أستاذنا الورثيلاني يذكرنا بالفطرة السليمة والتلقين المحكم، فهل أدركنا أبعاد تلك التوجيهات؟ إن كل جملة وردت في هذه التوجيهات تحتاج إلى سؤال وإلى دراسة معمقة، وبحث دقيق، تتصدى له ملتقياتنا ومراكز الدراسات بكثير من الجدية والالتزام، ويحتاجها أبناءنا في مدارسهم ومعاهدهم المتخصصة.

إنني في حيرة من أمري أكثر من ذي قبل، خصوصا أن أمنا أوصتنا أن نراعي خصوصياتنا، وابنها البار الأستاذ مالك بن نبي أوصانا بعدم اللجوء إلى الحلول الجاهزة، خصوصا إذا كانت هذه الحلول معلبة، لذلك سأنطلق من الحاضر القريب الذي يعود بنا إلى جوهر الوصية التي كتبها شهداؤنا بدمائهم، ألا وهو بيان أول نوفمبر، من خلال رجل من رجال الإجماع، الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله، المصدر: ورقة قدمها أمام ندوة مركز دراسات السلم لمؤسسة قرطبة ـ جنيف 13 /14 نوفمبر 2008 ـ

قال الأستاذ: ” بسم الله الرحمان الرحيم

الحديث عن الوضع في الجزائر اليوم يقتضي أن نتفق أولا على منهجية لتناوله، إما أن نتناول تفاصيل الحياة السياسية في المستوى الرسمي والشعبي، أي نتناول القضايا التي تطرح داخل نظام الحكم الآن وتطوراته ومراحله، أو أن نطرح الموضوع الجوهري العام وهو نظام الحكم ككل ومدى استجابته لمطلب الثورة الجزائرية في بناء دولة ديمقراطية واجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية. تقديري، وهذه وجهة نظر ربما خاصة، أن نظام الحكم الحالي بني بتراكم غير مدروس وغير خاضع للنقد في تطوراته، وكل من ساهم بطريقة من الطرق في مسؤوليات الحكم ساهم في بناء هذا النظام، حتى من صمت في بعض الظروف ساهم أيضا في بناء هذا النظام. فنظام الحكم الحالي هو نتاج تجربتنا بعد الاستقلال. تقديري الخاص أن هذا الحكم على ما فيه من السلبيات والإيجابيات وصل إلى مداه وإلى حدوده وأصبح عديم الفعالية، حتى وإن استمر فإنه عاجز عن حل مشاكل الجزائر وعن تحديات المستقبل، لماذا؟ تقديري أيضا أن المطلوب بعد الاستقلال كان تكريس الجهد العام لبناء أسس الدولة الجزائرية وفق المنظور الذي نادت به الثورة قبيل إعلان الكفاح المسلح، وهذا العمل كان يتطلب إبقاء صيغة الجبهة، أي صيغة جمع كل الطاقات الجزائرية وتشريك كل الجزائريين في وضع أسس الحكم، أي في وضع أسس الدولة التي تحتضنهم جميعا.

الذي وقع بعد الاستقلال أننا، بدرجات مختلفة، اعتبرنا أن الاستقلال هدف ينبغي أن يجمع كل الجزائريين، أما بناء الدولة فلا يحتاج لكل الجزائريين، ومن هنا دخل الإقصاء كعامل أساسي في بناء الدولة الجزائرية بدل الجمع الذي كان قائما أثناء فترة الكفاح المسلح، وتقديري أن العلاج، أي علاج الحالة هذه والخروج إلى نظام حكم وإلى أسس دولة تشمل جميع الجزائريين، يتطلب العودة إلى منطق جمع الجزائريين، أي السعي في إيجاد الجامع بين الجزائريين الذي يمكن من بناء نظام حكم صالح للحاضر والمستقبل. إذن النقاش يمكن أن يدور في مستويين: المستوى العام والجوهري ويتناول الحكم وتجربة الحكم ككل، والمستوى الأدنى أو التفصيلي الذي يتناول سلبيات الحكم كما نعيشه اليوم. وأعتقد أن للإخوان بدون شك تجارب شخصية ومباشرة في معالجة هذه الأمور، وتقديري أن الاستماع لكل واحد من الإخوان سيزيد هذا اللقاء ثراء وأننا في النهاية يجب أن نقدم منظورا واضحا يمكن أن يجمع كل الجزائريين ويضع خطوات العاملين في هذا الحقل على طريق الصواب. وشكرا “.
انتهى كلام السيد مهري عبد الحميد.

لا أدري كم عدد الجزائريين الذين قرأوا ورقة السيد عبد الحميد، وكم هم الذين وقفوا على جواهرها، لا أدري، والله لا أدري، إنه يؤكد لنا موقعنا، بل هو بمثابة من يدق ناقوس الخطر، ليس، كي نخاطر، أو نتناحر، أو يسب بعضنا بعضا، أبدا، هو يدعونا إلى سماع بعضنا والاستفادة من بعضنا لكنه يحذرنا من الإقصاء، فهو يحثنا على الجمع، وإذن فمنطق السيد عبد الحميد هو منطق جمع وليس منطق فرقة، إن كل ما في الجزائر جامع لكل الجزائريين، وما يفرق الجزائريين هو غريب عن الجزائر، إن الداء العضال الذي حذرنا منه السيد مهري هو الإقصاء الذي أقصى كل الجزائريين. من، من قادة الجزائر حاباه الإقصاء، أثناء الثورة، وبعد الاستقلال؟ من منهم نجا من عواقبه؟ إن السيد عبد الحميد لم ينطلق من فراغ، فهو ابن الثورة وابن الاستقلال، وهو الذي وقف شامخا، لم يركع لوثن من الأوثان، خصوصا أوثان الدنيا وزخرفها.

المطلوب منا جميعا قراءة ورقة الأستاذ، ليس مرة واحدة، بل مرات ومرات.

أعود للأم رابعة، وإلى رابعتنا، سندي في ذلك هو بيان أول نوفمبر 1954. بطبيعة الحال، البيان في متناولكم جميعا، ولذلك سأختصر، وأنقل فقرات فقط من البيان:

بسم الله الرحمن الرحيم
نداء إلى الشعب الجزائري
هذا هو نص أول نداء وجهته الكتابة العامة لجبهة التحرير الوطني
إلى الشعب الجزائري في أول نوفمبر 1954
” أيها الشعب الجزائري،
أيها المناضلون من أجل القضية الوطنية،
أنتم الذين ستصدرون حكمكم بشأننا ـ نعني الشعب بصفة عامة، والمناضلون بصفة خاصة ـ نعلمكم أن غرضنا من نشر هذا الإعلان هو أن نوضح لكم الأسباب العميقة التي دفعتنا إلى العمل، بأن نوضح لكم مشروعنا والهدف من عملنا، ومقومات وجهة نظرنا الأساسية التي دفعتنا إلى الاستقلال الوطني في إطار الشمال الإفريقي، ورغبتنا أيضا هو أن نجنبكم الالتباس الذي يمكن أن توقعكم فيه الإمبريالية وعملاؤها الإداريون وبعض محترفي السياسة الانتهازية “.انتهت الفقرة.
* إذن العنصر الأول هو الشعب الجزائري، شعب واحد، رغم أنف المحتل الذي عمل من خلال فرنسته على جعل الشعب الواحد شعبين أو أكثر، إن فرنسة الاحتلال = فرق تسد.

البيان يؤكد بكل وضوح، أن مصدر الحكم، رأيا وسلطة، هو الشعب، وهذا نجده واضحا في الفقرة التالية: ” ولكي نبين بوضوح هدفنا فإننا نسطر فيما يلي الخطوط العريضة لبرنامجنا السياسي.

الهدف: الاستقلال الوطني بواسطة:

1 ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.
2 ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.” انتهت الفقرة.

* العنصر الثاني هو: الدولة الجزائرية، ونفهم من نص الفقرة، أن الاستقلال يتحقق فقط بقيام الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.

إذن متى يتحقق الاستقلال؟ يتحقق إذا تحقق وتحقق فقط، بلغة الرياضيات، أو بلغة العلم، وقبل ذلك بلغة الصدق والوفاء بالعهود والوعود، يتحقق إذا تحقق مجتمع جزائري واحد في ظل دولة ديمقراطية بكامل سيادتها ضمن إطار المبادئ الإسلامية. إن المبادئ الإسلامية هي الضامن الأصيل والقوي لحرية المعتقد.

لقد أكد السيد مهري عبد الحميد رحمه الله على أهمية الإجماع من خلال السعي في إيجاد الجامع بين الجزائريين الذي يمكن من بناء نظام حكم صالح للحاضر والمستقبل. وعلى هذا الأساس أعود بكم إلى مصدر آخر من مصادر الإجماع، ماذا قال الشيخ عبد الحميد بن باديس بخصوص إجماع الجزائريين ووحدتهم؟ ماذا قال بشأن الجزائر وطنا وشعبا ودولة؟

لقد قال بكل وضوح، مركزا على ما يجمع الجزائريين، ولا يفرقهم، لقد قال رحمه الله: ” الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا “.

لقد أكد بيان أول نوفمبر على الإسلام، لأنه جامع لكل الجزائريين، ولأنه الضامن لحرية المعتقد.

أما اللغة العربية، لأنها كانت الضامن لوحدة الجزائريين في ثورتهم، والحصن الحامي لكل الجزائريين في وجه المسخ إبان الاحتلال الغاشم، وهي فقط الضامن والحامي لوحدة الجزائريين مهما كانت لهجاتهم وألسنتهم في وجه الفرنسة التي تتربص بوحدة الجزائريين، إن اللغة العربية التي أكد عليها ابن باديس، ولم يتكلم بغيرها الرئيس بومدين، حتى من على منبر الأمم المتحدة، هي المحفز القوي لتعلم كل لغات العالم، حتى لغة فولتير. وهي قبل ذلك وبعده لغة القرآن الكريم.

*العنصر الثالث هو الإسلام، أما العنصر الرابع فهو اللغة العربية.

مما سبق ذكره، هل نستطيع استخلاص رابعتنا في جزائرنا التي تسعنا جميعا في ظل احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني.
وإذن فإن رابعتنا، وفق تقديري المتواضع، هي الرباعية التي تميزنا في وطننا وشعبنا ومجتمعنا ودولتنا في تواضع ورضاء وقبول، بعيدا عن كل جزع ومنع، إنها رباعية إجماع، لا رباعية فرقة، رباعية قوة، لا رباعية ضعف.
1/ الجزائر وطننا
2/ والإسلام ديننا
3/ والعربية لغتنا
4/ والديمقراطية سبيلنا
وما دام الشعب هو مصدر الحكم، رأيا وسلطة، فلنستفتي شعبنا بكل سيادة وحرية.

4/ رابعة بلاد الشام

كانت في الأصل تضم كل من سورية، لبنان، الأردن، فلسطين، وأراضي أخرى. إن الشام هو الملاذ، ملاذ للسوريين، وللفلسطينيين، ولكل المستضعفين الموحدين، الشام بأهله، وأهل الشام أهل إيمان، فطوبى لأهل الشام بشامهم وبإيمانهم.

أدخل إلى رابعة الشام من خلال أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

*عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقع إذ قال: طوبى للشام قيل له: ولم؟ قال: إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم”. (أحمد والترمذي).

*عن عبد الله بن حوالة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ستجندون أجنادا، جند بالشام، وجند بالعراق، وجند باليمن، قال: فقمت فقلت خر لي يا رسول الله ـ أي اليمن أم العراق أم الشام ـ قال: عليك بالشام، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله ـ “. (أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم).

*عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعه بصري فإذا هو نور ساطع فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام “. (الحاكم).

الذي أفهمه وفق تقديري المتواضع، من خلال استحضار الجامع بين أهل الشام عموما، وأهل سورية خصوصا، هناك شيء واحد يفرقهم، هو الاستبداد، منذ ” صفين ” وإلى يم الناس هذا، وإذن، فإن مشكلة بلاد الشام، هي مع الاستبداد، ورابعة سورية، ضمن رابعة الشام، هي في التحرر والتخلص من الاستبداد، هذه هي روح رابعة بلاد الشام، التي تتضمن رابعة سورية اليوم، وأي تجاوز لهذه الحقيقة، التي إذا تذوقتها وجدت: حلوها مرا، ومرها حلوا، كل تجاوز لهذه الحقيقة هو تجاوز للتاريخ وتجاوز للحاضر وتجاوز للمستقبل.

الذي أفهمه، وفق تقديري المتواضع، أن مشكلتنا مع الاستبداد ولدت بأرض الشام، وأن اجتثاثها سيتم على أرض الشام الطاهرة، ولذلك فهي بأهلها الطاهرين ستدون بأحرف من نور شهادة وفاة الاستبداد وتخليص الأرض الطيبة من بذوره، وإلا فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام”. اقرأ الحديث مرات ومرات.

إن دور كل من تركيا، قطر، إيران، ولبنان، وكل العرب والمسلمين، إلا من أبى، مهم في تقريب الرؤى والجلوس إلى الأرض، وإعادة السيوف إلى أغمادها، لا ينبغي أن يغريكم بريق السيف، لا بريق القنابل والصواريخ، الجلوس إلى الأرض، فهي ملاذكم وهي أمكم وفيها رابعتكم وفيها أمنكم وأمانكم، لا تعولوا على الاقتتال، أبدا، إنه من بذور الاستبداد، تخلصوا من تلك البذور يرحمكم الله.

إن الله تكفل بالشام وأهله، ليس محاباة، العراق تحترق، واليمن تحترق، أتدرون لماذا؟ لأنكم أهل طهارة وأهل إيمان، أنتم الأكثر استعدادا، أنتم الأكثر رضاء بما قسم الله لعباده، إن رأس مالنا هو رأس مالكم، ورأس مالكم هو رأس مال كل المستضعفين، بارك الله فيكم، ما شاء الله لا قوة إلا بالله.

وإذن فرابعة بلاد الشام عصية، سوى على أهلها، أهل الشام أهل إيمان: “ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام”.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بشير جاب الخير
10 أوت 2016

الإحالات:

(1)، (2)، (3)، مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، ص 48 ـ 49.
(4)، جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الاثنين 06 ـ 12 شوال 1437 هـ / 11 ـ 17 جويلية 2016 العدد: 815.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version