كثيرا ما تكون ذهنياتنا مهيأة للتضليل والتشويش والتدليس، لا لشيء سوى لأننا أهملناها، فلم نعطيها حقها من الحياة، وحياة الذهن هي القراءة، فلا نحن قرأنا ولا نحن تعلمنا في عالم القراءة، بل للأسف الشديد فقد حبسنا عقولنا وضمائرنا وحرمناها من بصيص نور، واستمر ذلك معنا طويلا، فلا شفعت لنا مآسينا ولا شفع لنا تاريخنا في ماضينا، قطعنا أرحامنا في حاضرنا، فلا أغنتنا أموالنا ولا أغنانا سؤالنا في عروشنا بين العالمين، عانينا في فراغنا وعانينا في أحلامنا وعانينا في رؤانا وعانينا في أسئلتنا عن مشكلاتنا، فلا نحن قرأنا ولا نحن تعلمنا ولا نحن سألنا في ماهية الدال والمدلول، ولا في علاقة السائل والمسئول، فاختلط علينا الأمل بالألم، والنجاح بالفشل، والطمأنينة بالجزع. قرأت مسألتي في كتاب وسألت سؤالي في مسألتي حتى تراءت لي صورتي بين الصور، رأيت في منامي ابن باديس في مجلسه معلما وموجها، وبجانبه الإبراهيمي البشير متأملا، وثلة من قادة ثورة التحرير أطفالا جالسين يستمدون نفسهم وعزيمتهم ورباطة جأشهم وصفاء الروح والبصيرة، ما أجملها من صورة وقفت عليها وأنا مستيقظ في أحلامي، نامت عيني ولم تنم بصيرتي فلما فتحت عيني اختلفت الصورة، رأيتها في سؤال من أسئلة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتحديدا في أشغال مؤتمر:

الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي
المكان: فندق شيراتون، الدوحة
التاريخ: 06/10/2012
من بين الحاضرين:

* المفكر حسن الترابي رحمه الله، رأيته وكأنه جالسا ينقش على أوراقه سخريتنا من أنفسنا، وغيابنا في حاضرنا، وغربتنا في ديارنا.
* الشيخ حارث الضاري الذي قرأت في عينيه وملامح وجهه الكريم مأساة العراق الجريح، والله لا أدري كيف أعبر عن مثل هذه الصورة التي تركت في ذهني ألما وفي قلبي وحشة وفي رؤيتي رضوضا وكسورا.
* بعض الحضور والحاضرات يتأملون في حضورهم بين الحضور وكأنهم في رحلة إلى الفضاء إلى الحد الذي يفقد الحاضر حضوره، فتغيب صورته ، حتى إذا عاد إلى وعيه لم يجد له من صورة.
* أساتذة يتساءلون في صمت مطبق، غير أنني لم أتمكن من قراءة الصورة إلا يسيرا، مما ساعدني عل إجراء مقارنة بسيطة بين مراكز الدراسات في أوربا وأمريكا في موقعها وعلاقتها بالنخب المبدعة والفاعلة، وبين مركزنا العربي للأبحاث ودراسة السياسات في موقعه وعلاقته بالنخب العربية الفكرية والسياسية التي لم تجد ضالتها بعد.
* تساءلت عن مثل هذا المؤتمر، لماذا مثلا، لا نعتمد طريقة القبعات الستة للباحث إدوارد دي بونو (Edward De Bono) كطريقة أو كتقنية تساعدنا لتركيز مجهودنا الفكري، علما أنهم يطلقون على هذه الطريقة طريقة التفكير المتوازي، ويقولون أنها بخلاف طريقة التفكير المتعاكس، غير أن الملاحظة التي أحبذ تسجيلها هي مشكلة الفكر الغربي في مسألة التفكير، أو في خطوط تفكيره، التي نجدها في دائرة العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية، وخصوصا في عالم الأنفس، خطوطا مهملة، كثيرا ما تكون مبهمة، مآلها في غالب الأحيان كمآل تلك الشهب المحترقة بعيدا عن أعيننا، إن إدوار دي بونو في حاجة إلى معلم يمكن من خلاله تجميع خطوطه المتوازية فيتحول التفكير من تفكير متوازي إلى تفكير دائري، والمشكلة نفسها عانى منها كثيرا الفكر الغربي حين رسم له مثلثا، قدمه كشعار للثورة الفرنسية التي أتت على ما تبقى من خيوط الكنيسة، فأحرقتها، تلك الخيوط التي ارتبطت بتعاسة الإنسان الأوروبي لزمن طويل، وإذا كان للثورة الفرنسية من فضل فهو في مواجهة طغيان رجال الكنيسة وانحرافهم، وجبروت الإقطاعيين وظلمهم، أما المبادئ ذاتها من حرية وإخاء ومساواة، فلم تكن هي الأولى التي نادت بها في واقع الإنسانية، ومثل هذا يحتاج إلى برهان لا يتسع له مثل هذا المقام، أما ما تعلق بالشعار المثلث في حد ذاته فيمكننا قراءة ما جاء في البروتوكول الثالث للفكر أو الفلسفة الصهيونية: ” تذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها الكبرى، إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لدينا جيدا لأنها من صنع أيدينا، ونحن من ذلك الحين نقود الأمم من خيبة إلى خيبة.” (1).

إن الشعار المثلث كان في حاجة إلى سياق وإلى مرجعية، وبمعنى آخر، كان هناك فراغ، والجهة التي ملأت الفراغ هي الفلسفة اليهودية، وإن شئتم مزيدا من التركيز فإن جوهر الشعار المثلث هو عقدة الاستعلاء التي استمدت بذرتها الأولى من عدم رضاء بني إسرائيل بين يدي سيدنا يعقوب عليه السلام ، عدم الرضاء والاستعلاء الذي كاد يودي بحياة سيدنا يوسف عليه السلام، وهم الذين جعلوا الأمر كله ماديا، فلا مكان في قاموسهم لمعاني الإيمان والأمانة والوفاء بالوعود والعهود وصلة الأرحام وكل أوجه الرحمة والسلام، فهم في عناد وشقاق إلى يوم الدين. وقد أخبرنا القرآن عن طبيعة عنادهم في قوله سبحانه: ” وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ” الآية 55 من سورة البقرة، والأسف كل الأسف فمسارهم لم يتغير، ولذلك لم يحدث الاستثناء مع الثورة الفرنسية في شعارها وفي علاقتها بالإنسان. أما بخصوص علاقة الفكر الغربي عموما بدائرة الدين، فهو ذو جذور، يقول المفكر روجه غارودي: “ونحن ندرك اليوم أن الجانب الأصيل في المسيحية هو الجانب الشرقي، وعندما أراد الباحثون أن يسكبوا في قالب الفكر الإغريقي تصورا عن الحياة بعيدا كل البعد عن النزعة الهلينية فقد أدخلوا إلى الغرب مسيحية أفسدتها تماما الثنائية اليونانية والمثالية اليونانية على الصعيد الفكري النظري، وأصابت بنيات الإمبراطورية الرومانية تنظيمها بتحول جذري ” ( 2).

ومثل هذه الشهادة تدل على أن مفكري الغرب لم يذهبوا أبعد ما ذهب إليه الفيلسوف أفلاطون قبل ذلك بقرون، يقول روجه غارودي: ” وقد ظهر سنة 1906 كتاب للأب ّ لابرتوكيل ّ بعنوان المثالية والواقعية المسيحية، ومن الطريف أن أعيدت طباعته سنة 1968، ونحن نجد المسيحية للمرة الأولى تنفصل عن تقليد إغريقي كان قد جعل منها ما أسماه نيتشه بازدراء صائب: أفلاطونية الشعب. ” (3). والسؤال الذي نسأله في نطاق المنظومة الفكرية الغربية: هل عثر المسيحيون بعد ذلك على حقيقة المسيحية وجوهرها، ثم هل اعترفوا أنهم أضاعوا ما استحفظوا عليه حتى يدركوا وتدرك معهم الإنسانية استحالة استرجاع ما ضاع نتيجة التحريف الذي طال كتاب الله التوراة وطال كتاب الله الإنجيل؟ لقد واصلوا طريقهم مع عقدة الاستعلاء ومنعوا عن الإنسانية الأمن والأمان وكثيرا من الراحة والاطمئنان. يقول روجه غارودي: “ولكن مسيحية المؤسسات التي حددت شكل الديانة المسيحية منذ عهد الإمبراطور قسطنطين إلى يومنا هذا، قد أفسدها الفكر الإغريقي والتنظيم الروماني، أفسدها الغرب” (4). إن الشعار المثلث هو الآخر في حاجة إلى روح تحفظ للغرب حريته وأخوته ومساواة الجميع في أبعادها الإنسانية التي لا تقف عند عرق أو جنس أو لون، وأن يتخلص الغرب وعلى رأسه فرنسا من عقدتها في علاقة الإنسان بالدين، تلك العقدة التي عبرت عنها إحدى شعارات ثورتها: (لا نريد ربا ولا سيدا)، وها هي تستمر معها نفس العقدة من خلال مواقفها من أحكام الدين، إذ لا غرابة أن يرفع الفاتيكان في أيام الناس هذه شعار توحيد الأديان، أهو التوحيد الذي يهدف إلى توحيد الله، أم هو التوحيد الذي يذوب معه كل توحيد؟

وإلى هذا الحد يمكن أن نسأل ضمن سؤال الفكر الغربي، ماذا بقي من الشعار المثلث وقد تشوهت حريته على حساب أخوته، أما المساواة فقد أتى على ما بقي منها الفكر الشيوعي بشعاره: (مجتمع بدون طبقية) التي عنت للأسف الشديد (مجتمع بلا إنسانية) وهو في جوهره يعني: (لا إله والحياة مادة)، ومواقف لينين، ستالين، وكارل ماركس في هذا الشأن معروفة نتائجها في العصر الحديث وآثارها على الإنسان داخل روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا خير شاهد.

إن القبعات الستة، رغم دائريتها فقد رآها إدوارد دي بونو في خطوط متوازية، أي أنه لم يتمكن من تغيير مساره الذي يدخل ضمن المسار الفكري الغربي المصاب بداء الاستعلاء، وحتى نتمكن من تغيير في طبيعة المسار، وقد تعمدت استعمال عبارة: في طبيعة المسار، بدل عبارة: طبيعة المسار، لأننا بصدد عملية إصلاح: ” إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ” الآية 88 من سورة هود. وإذن فالمسألة مسألة إصلاح وليست عملية اجتثاث كما فعل الغرب، للأسف الشديد، مع هنود أمريكا وأبرياء إفريقيا. إن أي تغيير في طبيعة المسار يتطلب معلما يصون النظرية والتطبيق على حد سواء.

إن مثلث الغرب في حاجة إلى هذا المعلم الذي يحدد علاقة كل من الحرية والإخاء والمساواة في تناغم تام يحفظ للإنسانية رأس مالها وأمنها وأمانها، فتتحدد العلاقة في صورة تشبه إلى حد بعيد حركة الشمس والقمر، وتعاقب الليل والنهار، فلا تعارض ولا تداخل بينها، بل كل منها له فلكه، وكل له حدوده، فيصدق عليها هي الأخرى قوله سبحانه: ” لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ” الآية 40 من سورة يس.
من الذي يستطيع تحديد منازل كل من الحرية والإخاء والمساواة وكثير من المسائل الأخرى المتصلة بحياة الناس، أهو الفكر الغربي الذي أثبت محدوديته في تدبير علاقة الإنسان بأخيه الإنسان؟ أهي الكنيسة التي خاطبها الغرب بالأمس القريب: (لا نريد ربا ولا سيدا)؟ أم هو الفكر الشيوعي الذي أبدع في مخاطبة إنسان القرن العشرين بقوله الفصل: (لا إله والحياة مادة)؟ من يستطيع ضبط مثل هذه المنازل حتى يمكن القول: لا الحرية ينبغي لها أن تدرك الإخاء، ولا المساواة تلغي الحرية، وكل في فلك يسبحون؟ من خلال هذا السياق نتوجه بسؤالنا في سؤال العلاقة بين الدين والديمقراطية إلى الدكتور عزمي بشارة.

* أول ما بدأ به الأستاذ محمد جمال باروت الذي افتتح المؤتمر وقدم الدكتور عزمي بشارة، قوله: المؤتمر ليس مؤتمرا للإسلاميين، وإنما هو مؤتمر أكاديمي، وكأنه يقول أن مثل هذا المؤتمر ليس لقادة العمل السياسي الإسلامي بأحزابهم وتنظيماتهم من أجل التفاهم، أو على الأقل التقارب من أجل بناء رؤية مشتركة حول النظام الديمقراطي، ولكن هو مؤتمر أكاديمي الغرض منه تحديد العلاقة بين الدين والديمقراطية وذلك من خلال النظر في إشكاليات وتحديات مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية، خصوصا بعد وصول بعض الحركات الإسلامية السياسية إلى عتبات السلطة في الوطن العربي بعد الثورات الشعبية، وأكد الدكتور أيضا أن المؤتمر علمي بحت خضعت أوراقه للتحكيم. والذي فهمته من مسألة التحكيم أن الورقة الرئيسية التي ستحدد محور النقاش هي مسألة العلاقة بين الدين والديمقراطية من وجهة نظر المؤتمر، وتحديدا من وجهة نظر رئيس المركز الدكتور عزمي بشارة من خلال النظر في تحديات وصول الإسلاميين إلى السلطة في بعض الدول العربية ومن خلال ضبط موازين القوى الفكرية المؤثرة في توجهات النخب أو حتى التوجهات الشعبية، ثقافة النخبة وثقافة الشعب، ثقافة الأقليات وثقافة الأغلبية المسحوقة، خصوصا أن المركز زود الحاضرين في مؤتمرهم بنتائج الاستطلاع الذي نظمه وأكد أن نتائجه جاءت مخالفة للتوقعات السائدة والشائعة حول خيارات الناس في عالمنا العربي، وإذن فالمهم هو توجهات الطبقة الشعبية، أو التوجهات الشعبية، أو الثقافة الشعبية، وبمعنى آخر قياس أثر المدرسة والمسجد والأسرة والمعمل والمزرعة والجامعة في محيط عالمنا العربي بعد سنوات من الترقب. وحتى إذا كان من الأهمية بمكان معرفة الجهة التي أدارت مثل هذا الاستطلاع في توجهاتها ودرجة مهنيتها ومصداقيتها، فإنني سأقتصر في هذا المقام على عرض نتائج الاستطلاع الذي استطلع آراء أكثر من ستة عشر ألف مواطن عربي في اثني عشر بلدا وكانت المؤشرات محسوبة كما يلي حسب المركز: 85 بالمائة من الفئة التي شملها الاستطلاع تعرف نفسها بأنها متدينة جدا، والمركز يقول أن 85 بالمائة من المجتمع العربي يعرف نفسه كمتدين جدا، هذه بطبيعة الحال صيغة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، إن كثيرا من القراء ضمن الطبقة الشعبية، أو هي ضمن دائرة الثقافة الشعبية، وحتى شريحة كبيرة من دائرة ما يسمى بالنخبة تقرا نفس القراءة، أي 85 بالمائة من المجتمع العربي هو المعبر، وليس أن النسبة هي ضمن فئة الستة عشر ألف مواطن فقط، ناهيك عن طبيعة هذه الفئة وموقعها في حد ذاتها. ثم يواصل في تقديم نتائج الاستطلاع: 11 بالمائة يعرف نفسه كغير متدين، و0.4 بالمائة غير مؤمن، و47 بالمائة يقول أن التدين يعني إقامة الفرائض والعبادات، وأن 47 بالمائة يعتقد أن التدين هو حسن معاملة الآخرين والتكافل الاجتماعي، ولا حظوا معي فإن كلمة (يعتقد) هي من اختيار المركز، ثم يختم الاستطلاع: أي أن نصف المجتمع تقريبا يرى الصلة بالآخر بعيون مدنية. لكنه يعود باستطلاعه ليؤكد على ما يلي وأشارت بقبة المؤشرات إلى أن معظم الأفراد، بمن فيهم المتدينون جدا، لا يعارضون إقامة الديمقراطية كنظام للحكم، ولا يعترضون على الفصل بين رجال الدين والسياسة. لقد تعمدت وضع سطر تحت العبارة.

وختم الدكتور عزمي بشارة نتيجة الاستطلاع بقوله: إن التحالف مع الاستعمار أو الصهيونية لدى بعض القوى التي تنادي بالديمقراطية هو مسألة معادية للديمقراطية في الجوهر. ما محل هذه الفقرة من الإعراب في قاموس الثقافة الشعبية، أو حتى بالنسبة لقراءة نخبنا العربية، و/أو بالنسبة لقاموس مركزنا العربي للأبحاث ودراسة السياسات؟

*ماذا قال الدكتور عزمي بشارة في محاضرته؟

– بدأ الدكتور عزمي بشارة محاضرته بسؤال: هل هناك علاقة بين الدين والديمقراطية؟ ليجيب أن الفكر الغربي حاول التوصل على مدى أكثر من عقدين إلى نوع من العلاقة الجوهرانية بين تقليد ديني معين وبين نشوء الديمقراطية في الغرب. وقد أصاب إلى حد بعيد في اختيار عبارة ( تقليد ديني)، لا لشيء سوى أن الغرب لم يبق له من الدين إلا ما هو عند الكنيسة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تخفي على إنسان اليوم تعدد النسخ وتناقضها، وهو للأسف الشديد الدين المحرف، كما أن الكنيسة لا يمكنها الاستغاثة والاستنجاد بالتقليد اليهودي في هذا الشأن نتيجة تحريف التوراة، ومن هنا جاءت فكرة الولاء، وصدق الله العظيم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” الآية 51 من سورة المائدة.

–  وواصل الدكتور كلامه: إن الغرب لم يكتف بالتطور الصناعي ونمو الاكتشافات العلمية والفنية التي أدت إلى قيام الثورة الصناعية، وتأسيس العلاقات الرأسمالية وظهور مختلف الممارسات التي ساعدت على قيام النظام الديمقراطي.

– وأشار إلى محاولة ربط نشوء الديمقراطية بالتقليد الديني من خلال التعاون اليهودي المسيحي. وأكد الدكتور عزمي بشارة أن كل محاولات الربط باءت بالفشل، ويصل من خلال كلامه إلى نتيجة، وهي أن ليس هناك علاقة مباشرة بين الدين والديمقراطية، لا كنص ولا كتجريد، أي لا كمفهوم ولا كنص، لا كعقيدة ولا كعبادة. وأصر مؤكدا على أنه لا يمكن ربط علاقة بين الدين والديمقراطية تستحق البحث في العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية.
وأكد أيضا أن الدين هو تدبير للعلاقة مع المقدس كعقيدة وكعبادة وإيمان، وأن هذا التدبير ليس له علاقة مباشرة مع نظام الحكم.

– وكذلك أن الديمقراطية هي وجهة نظر تجاه نظام الحكم وليست وجهة نظر تجاه الدين.

– أكد الدكتور في محاضرته على أن الديمقراطية من خلال مبادئها ارتبطت بالاتجاه أو التقليد الليبرالي، وكأنه يريد أن يقول لنا أن المرجعية في بناء النظام الديمقراطي هو التقليد أو النمط الليبرالي.

ذكر الدكتور الحاضرين ببعض مبادئ النظام الديمقراطي، وعلى وجه الخصوص:
* المساواة أمام القانون
* مبدأ التمثيل (تحديد المدة والصلاحيات والرقابة على من يمثل)
* الفصل بين السلطات
* الحرية هي القاعدة وتقييدها هو الاستثناء

ثم تساءل: هل من الحكمة الحديث عن علاقة بين الدين وهذه المبادئ؟

– محاولة البحث عن اشتقاقات من الدين أو تناقضات كوجهة نظر تجاه الديمقراطية هو سلوك مصطنع، لأن الدين حسب عزمي بشارة لم يأت لتنظيم موضوع الحكم.

– أكد على أن (ماكس فيبر) لم يبحث العلاقة بين الدين والرأسمالية، وإنما بحث العلاقة بين نمط معين من التدين وبين سلوك اجتماعي يساهم في نشوء الرأسمالية. وأن الزهد الدنيوي عند الكلفينيين (نسبة إلى كلفن) هو نمط معين من البروتستانتية يتصل بدوافع الناس من أجل تحويل العمل إلى عبادة وإقامة مجد الله في الأرض. وان مثل هذا له أساس كبير في الإسلام، لا كعبادة (ليس فقط في حي على الصلاة، حي على الفلاح) ويصل إلى أن (ماكس فيبر) أراد التأسيس لإعطاء قيمة للعمل وإتقانه في الحياة الدنيا، وأن هذا لا يعني البحث عن أي علاقة بين الدين والديمقراطية.

– الثقافة السياسية تأتي بعد نشوء النظام الديمقراطي.

– خلص الدكتور عزمي بشارة إلى نتيجة مفادها: لا أرى موضوعا اسمه الإسلام والديمقراطية

– يوجد نوعان من المشاريع:

*مشروع أمريكي ينظر إلى أي تحول في العالم العربي، ينبغي أن لا يصطدم بمصالح الغرب.
*مشروع أصولي هوياتي معادي للحداثة والدين، أي أن أي بحث عن الديمقراطية من وجهة نظر دينية هو مشروع أصولي معادي للحداثة.

هذا تقريبا ما جاء في محاضرة الدكتور عزمي بشارة، دون أن ننسى سبر الآراء أو الاستطلاع الذي قدمه بخصوص اهتمامات المواطن العربي في نظرته إلى الدين وعلاقته بالحياة عموما ونظام الحكم على وجه الخصوص، علما أن النتائج التي جاء بها على شكل نسب مئوية هي من باب الدخول على الناس في بيوتهم و/أو أوطانهم من أبواب متفرقة.

لم أتمكن من متابعة ما دار في جلسات المؤتمر المبرمجة، ومن خلالها مساهمات الحضور، سواء عن طريق المداخلات أو الأسئلة، وعلى هذا الأساس يمكنني فقط التركيز بكثير من الإيجاز على ما تضمنته محاضرة الدكتور عزمي بشارة لأنها هي محور ما دار داخل أروقة المؤتمر.

السؤال المثقل بكثير من الأسئلة الفرعية نابع من موقف الدكتور عزمي بشارة من العلاقة، أو رؤيته للعلاقة بين ما هو من الدين وما هو من الديمقراطية، وكذلك هو نابع من تصوره لقيام الرأسمالية في الغرب أو حتى البحث عنها في مساحات أخرى من المعمورة، بطبيعة الحال، العلوم الاجتماعية وحدها لا تقدم لنا إجابة واحدة عن مثل هذا الإشكال، لا لشيء سوى لأن مثل هذه العلوم هي الأخرى مطبوعة في كثير من الأحيان بعقدة الاستعلاء التي توارثها الغرب جيلا بعد جيل. وإذن، دعنا نطوي كثيرا من المسافات والأبعاد في نظرتنا وتحولنا في نطاق عالم الفكرة الذي لم يعد بمنأى عن تأثير اهتمامات مراكز البحث، والاستخدام المثير للمادة الإعلامية في التضييق على رؤى الناس واهتماماتهم، خصوصا في حدود ما يسمونه الثقافة الشعبية، و/أو حتى دائرة ما يسمونه النخب المثقفة المحروسة بدوائر المال والأعمال.

كثير من النقاط التي تضمنها طرح الدكتور، مثل الحديث عن الثقافة السياسية في القواعد الشعبية، أو قواعد النخب السياسية، وغيرها، لا أستطيع مقاربتها في مثل هذه العجالة، لأنها ستؤثر في جوهر السؤال الذي يتصل بضبط العلاقة تحديدا وقبل كل شيء بين ما هو من الدين، وما هو من الديمقراطية.

إذا سلمنا بوجهة نظر الدكتور، فإنه لم يعد من الآن وصاعدا، أمام النخب السياسية في عالمنا العربي سوى الاستغاثة والاستنجاد بالتقليد الليبرالي في مسألة بناء أنظمتنا الديمقراطية، وحتى إمكانية استنساخ رأسمالية على شاكلة رأسماليتهم، لكن في هذه الحالة سوف نجد أنفسنا في حالة من الانتظار والترقب، قصد الحصول على موافقة الغرب وقبوله لنا في منظومته الإنسانية والحقوقية والرأسمالية على قدم المساواة. وحتى نسلم بوجهة نظر كهذه من خلال علاقتنا بتراثنا في حاضرنا وعلاقة حاضرنا في تراثنا، في دائرة أفعالنا وانفعالاتنا، لا أتخيل الصورة واضحة في عقولنا وضمائرنا وساحاتنا ضمن ما هو متاح لنا في أيام الناس هذه.
إذا كان ولا بد من حديث عن إمكانية في العلاقة بين ما هو من الإسلام وما هو من الديمقراطية، أو نفيا لتلك الإمكانية أصلا، ينبغي أن نؤكد على ما يلي:

1- الفكر الغربي المسيحي هو فكر المسيحيين في الغرب وليس هو المسيحية ذاتها، إن الفكر الغربي المسيحي هو تفاعل عقل الإنسان المسيحي في الغرب، المتكيف بالعلوم المنفعل بما يحيط به من ظروف، مع ما خلفه المسيحيون أنفسهم من تحريف للمسيحية مما اقتضى احتواء الفكر الغربي عموما للفكر الديني أو الفكر الكنسي الذي هو فكر رجال الكنيسة الذي حول المسيحية السمحة إلى وثنية، استحال على الناس فهمها وقبولها على مر العصور نتيجة ضخامة التناقضات تقول الدكتورة زينب عبد العزيز: ” معذرة، كدت أنسى، أرجو ألا تغفلوا ذكر، أن الكنيسة أكدت في مجمع الفاتيكان الثاني ( 1965)، أن كل هذه الاختلافات والمتناقضات ليست متناقضات بالمعنى المفهوم وإنما هي اختلاف وجهات نظر، خاصة أنه ثبت لديها أنها ليست منزلة من عند الله، وأن بها الصالح والطالح، وقد قام بكتابتها أسماء غير التي هي معروفة بأسمائهم، وأنها كتبت بوحي من الروح القدس. وللعلم فقد وصل عدد المتناقضات الثابتة والواردة في الموسوعة البريطانية إلى 150000تناقض. وقد تضاعف هذا العدد باكتشاف مخطوطة كاملة للإنجيل معروفة باسم ّ إنجيل سيناء ّ وهي نسخة كاملة ترجع للقرن الرابع، أما ندوة عيسى التي أقيمت في معهد ويستار بأمريكا، وحضرها أكثر من مائتي عالم متخصص في اللاهوت والتاريخ واللغات القديمة، وبعد دراسة عدة سنوات أكدوا أن 82 بالمائة من الأقوال المنسوبة ليسوع لم يتفوه بها، وأن 86 بالمائة من الأعمال المسندة إليه لم يقم بها” (5).

هكذا اهتز الإنسان المسيحي في معتقده وفي علاقته برسول الله عيسى عليه السلام، وفي علاقته بوحدانية الله التي شهد عليها تسبيح الليل والنهار، والشمس والقمر، كل منها في فلكه، لا الشمس يمكن لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق للنهار، وكل في فلك يسبحون، هذا ما تعلمناه من الإسلام الذي شهدت به التوراة ودل عليه الإنجيل، وشهد به موقف ملك أرض الحبشة الذي سالت دموعه فرحا أمام حجة المؤمنين من أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم على رسالة المسيح عيسى ابن مريم البتول عليه وعليها سلام الله، حجة الحق التي دحضت أباطيل المشركين إلى غير رجعة.
 
2- الفكر الإسلامي، ليس هو الإسلام، الإسلام هو الهدي الأزلي الخالد، أما الفكر الإسلامي فغير ذلك، يقول المفكر حسن الترابي: ” فالفكر الإسلامي هو التفاعل بين عقلنا المتكيف بهذه العلوم، المنفعل بهذه الظروف مع الهدي الأزلي الخالد الذي يتضمنه الوحي والذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.” (6).

وأؤكد عند هذا الحد، أننا في تراثنا في حاضرنا، وفي تراثنا في أزمنته المتعاقبة، تبقى العلاقة بين ما هو من الفكر الإنساني وما هو من الهدي الرباني الخالد قائمة على مدى فهم الإنسان ورضاء الإنسان، وهلع الإنسان، وانزعاج الإنسان، ومنع الإنسان، ليس إلا. وحتى بالنسبة لرأسمالية الإنسان فهي مرتبطة برأس مال الإنسان في حدود الدائرة ذاتها.

وأؤكد أيضا على أن الفكر الإسلامي، كما هو الفكر اليهودي، أو الفكر الغربي المسيحي، تسري عليه عوامل الضعف والقوة ن والحياة والموت، والنفع والإساءة. أما الإسلام فهو الهدي الأزلي الخالد الذي تكفل الله عز وجل بحفظ الكتاب الذي أنزل لأجله: “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”. وعلى هذا الأساس وجب التمييز بينه وبين الفكر الإسلامي الذي هو فكر المسلمين في تراثهم وفي حاضرهم.

3- إن ما جاءت به بعض الأقلام في نطاق الفكر الإسلامي الذي هو فكر بشري غير معصوم ولا منزه، في كثير من المسائل المتصلة بأسئلتنا في مشكلاتنا، وفعل مخابر الغرب في واقعنا هو فكر استغرق في الفروع، بعيدا عن جوهر الإسلام من ناحية، وتجاهل واقع الناس وحاضرهم من ناحية أخرى.

وللتوضيح أكثر فإننا في هذه الحالة، نجد أنفسنا بين نوعين من الفكر الإسلامي، الذي هو فكر بشري.

*فكر تجريدي بعيد عن حقيقة الحياة، نجده مميزا في كثير من الكتابات والخطب التي تكتفي بإصدار كما هائلا من الأحكام دون أدنى تحليل أو تعليل بدعوى التمايز، وحجة هذا الفريق هي: (عندنا ما يكفينا في الكتاب والسنة)، ثم لا شيء بعد ذلك سوى الاستغراق في العموميات والتكرار والاجترار، لعل ذلك ما ميز كثيرا من ملتقياتنا. وعليه فإن مثل هذا الفكر أو التفكير لا يقوى على التصدي لمعالجة قضايا شعوبنا التي تئن تحت وطأة التخلف والقابلية للاستعمار، ولذلك فإن مثل هذا الفكر يقف بين أمرين، لا ثالث لهما، إما المضي على نفس المنوال مما يستلزم الاستسلام للتقادم والموت البطيء، خصوصا أن بذور التقادم والضعف تحيط به من كل جانب وتزداد وتتوالد يوما بعد يوم، وإما التجدد من خلال التخلص والتحرر من البذور القاتلة التي هي من صنع الإنسان في أرض الإنسان، والتزود ببذور الحياة من خلال الرجوع إلى دائرة الهدي الأزلي الخالد بكثير من الإيمان والرضاء والطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية، علما أن الرداءة في واقعنا صارت لها عروش وممالك ودور ورأسمالية، أحس بذلك كثيرا وتألم لذلك كثيرا السيد مهري عبد الحميد رحمه الله، حيث قال: (هذا زمن الرداءة وللرداءة أهلها).

* أما النوع الثاني من الفكر الإسلامي فهو فكر يحاول الوقوف على عتبة التجديد، لكنه يعاني في كل مرة من تقديم النموذج تقديما علميا وواقعيا يتناسب ودرجة معاناة الشعوب والمجتمعات والأمم، وهو يعاني إلى جانب ذلك من قلة في عالم الرضاء وقلة في عالم الصبر ذلك أنه سرعان ما يتعجل قطف الثمار دون مساهمة منه في غرسها ولا حتى معرفة بأطوار حياتها ومواعيد جنيها، أو هو للأسف الشديد قد حسبها لحسابه وغمرها برأسماليته، فكان في أحسن الأحوال حبيس عوائق ذهنية نفسية وموضوعية، يراوح مكانه في حيرة من أمره. وبين هذين النوعين من الفكر الإسلامي أو / والعربي، يقف فكر متغرب، دعاته للأسف الشديد، أسرى التفكير الغربي بكل امتياز، يدورون في فلكه دورانا سلبيا نظرية وتطبيقا، عن وعي وعن غير وعي، كدمى تحركها دوائر المال والسياسة من خلال مخابرها ومراكزها الإستراتيجية، واضعة إياها في طريق بعض الجهود النهضوية المخلصة. ومثل هذه الفئات المستلبة روحا وذهنية، لا تحسن سوى التعامل مع الأفكار المعلبة، الميتة منها والقاتلة.

4- في هذه العجالة أقدم بعضا من الصور المعبرة عن بعض وجهات النظر حول العلاقة بين ما هو من الدين وما هو من الديمقراطية.

* يقول أبو الأعلى المودودي في كتابه ّ تدوين الدستور الإسلامي ّ في فقرة تحت عنوان:

(الخلافة الجمهورية): “ولا يذهبن بكم سوء الفهم من كلمة النيابة إلى أنها عبارة عن ظل الله أو البابوية أو حقوق الملوك الإلهية، فقد قضى القرآن أنه ليست هذه المنزلة ـ من الخلافة والنيابة ـ من حق فرد من الأفراد أو أسرة من الأسر أو طبقة من الطبقات، وإنما هي حق لجميع من يسلمون بحاكمية الله ويؤمنون بعلو القانون الإلهي الذي جاءهم من عند الله تعالى بواسطة أنبيائه ورسله، وهذا ما يجعل الخلافة الإسلامية  ديمقراطية ّ على العكس من القيصرية أو البابوية أو الثيوقراطية (الدول الدينية) على حسب ما يعرفها الغرب ورجاله، غير أن النظام الذي يعبر عنه رجال الغرب  بالديمقراطية ّ اليوم، لا يتبوأ منصب الحاكمية فيه إلا الجمهور أو الشعب، وأما نظامنا الديمقراطي الذي نعبر عنه بالخلافة، فلا يكون في الجمهور إلا حاملي الخلافة لا الحاكمية نفسها، فكما أنه تتألف الحكومة في جمهوريتهم لتدبير شؤون البلاد وتتغير بالرأي العام كذلك تتقاضى ديمقراطيتنا أن لا تتألف الحكومة ولا تتغير إلا بالرأي العام، ولكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يحسبون ديمقراطيتهم حرة مطلقة العنان ونحن نعتقد الخلافة الديمقراطية متقيدة بقانون الله عز وجل.” (7). انتهى كلام الشيخ المودودي.

لقد أضاف الشيخ المودودي رحمه الله وصف الديمقراطية إلى وصف الخلافة بقوله: (ونحن نعتقد الخلافة الديمقراطية)، وقبلها قال: (وهذا ما يجعل الخلافة الإسلامية ديمقراطية). إن السؤال الجدير بالطرح، هو هل الديمقراطية جزء من الخلافة الإسلامية، أهي وليدتها؟ زد على ذلك فالقارئ الكريم لا يصل ببساطة إلى إدراك طبيعة مصطلح الخلافة وأبعاده وعلاقة ذلك بمصطلح الديمقراطية ذاتها، ثم هل المقصود بالخلافة هي خلافة الحاكم في منصبه، المعبر عنه بصيغة التداول على السلطة، أم هي الخلافة بمعنى الدولة الإسلامية وفق طرح آخرين. كذلك قول المودودي: ( غير أن النظام الذي يعبر عنه رجال الغرب بالديمقراطية اليوم، لا يتبوأ منصب الحاكمية فيه إلا الجمهور أو الشعب )، إن الشيخ، دون ريب، يقصد عدم امتثال إنسان الغرب إلى أوامر الله ونواهيه، إن طرح الأستاذ المودودي بهذه الكيفية يمكن أن يفهم منه القارئ كذلك أن الديمقراطية هي مصدر انحراف الغرب عن تعاليم الله، وهذا غير صحيح، لأن المشكلة تكمن في منظومة الفكر الغربية المتصلة بمنظومة الفكر الكنسي الغربي، فهي مصدر الانحراف ومصدر تحريف كل صورة في عالم القيم، وبالتالي فإن الديمقراطية التي تحولت إلى متهم في تصور بعض الناس بريئة من ذلك كله، وأن الغرب استخدم وصف الديمقراطية طويلا في إخفاء إخفاقاته ومظالمه في دائرة رأس مال الإنسان، ولذلك أقول أن الأستاذ المودودي، لم يتعرض بالمناقشة والتحليل لموضوع الديمقراطية في حد ذاته، فقد دخل عليه من غير باب، لقد ذكر المصطلح من خلال حديثه عن صورة من صور الغرب في واقع الناس، وربط بين الخلافة والديمقراطية ربطا غير موفق، وجعل الإضافة في هذا المجال لا طائل من ورائها.

* يقول الدكتور يوسف القرضاوي من خلال كتابه ّ بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين ّ : “فقد ذكر المودودي خصائص الديمقراطية الغربية ثم قال: وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء، فلا يصح إطلاق كلمة ديمقراطية على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيرا كلمة الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية، ثم استدرك فقال، ولكن الثيوقراطية الأوربية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافا كليا، فإن أوربا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم، حسب ما شاءت أهواؤهم وأغراضهم ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية، وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشؤونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله، ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة “الثيوقراطية الديمقراطية” أو “الحكومة الإلهية الديمقراطية” لهذا الطراز من نظم الحكم لأنه قد خول فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من منصبها، وكذلك جميع الشؤون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح لا يقطع فيها إلا بإجماع المسلمين وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيان كل من بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين، فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي ديمقراطيا “(8). انتهى كلام الشيخ القرضاوي.

إن هذا العرض، إن دل فإنما يدل على كثير من الغموض الذي رافق موضوع الديمقراطية طويلا في دائرة الفكر الإسلامي الذي هو فكر المسلمين، في علاقة المفهوم بمصطلحات أخرى كمصطلح الخلافة أو مصطلح الثيوقراطية، أو الليبرالية، مما أدى إلى رفض فكرة الديمقراطية حينا وقبولها أحيانا، وأكثر من ذلك فقد انعكست وجهات النظر هذه عبر الزمن على رؤى كثير من الناس في عالمهم الثقافي، مما جعلنا نقف في أحيان كثيرة مشدوهين عند الاشتقاق اللغوي للعبارة، دون التعرض أو النظر في كنهها وأبعادها، ولعل مثل هذا الغموض والدوران السلبي، هو الذي أثر في طبيعة كثير من الكتابات في نطاق الفكر الإسلامي الذي هو فكر المسلمين.

لعل مثل هذا الغموض هو الذي جعل الشيخ القرضاوي يقول في كتابه، الحلول المستوردة: ” ونظرا لأن بعض الدارسين يفصلون بين مفهوم الليبرالية ومفهوم الديمقراطية فقد آثرت أن أضيف وصف الديمقراطية إلى وصف الليبرالية لبيان الاتجاه الذي أتحدث عنه هنا، والذي ساد البلاد العربية قبل عهد الثورات العسكرية، فهو اتجاه ليبرالي ديمقراطي رأسمالي، فنحن مع الذين يستعملون هذه التعبيرات بمعنى واحد تقريبا ويذهبون إلى أنه لا يمكن الفصل بينها الآن.”(9)

إن الشيخ فضل بعد جهد مضني، الربط بين الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية وكأنها جميعا في عالم المفهومية متلازمة ومتداخلة ومتناغمة إلى الحد الذي لا يمكن بناء أي تصور في غير سياقها ومرجعيتها التي ألبسها إياها فكر الإنسان. وعلى هذا أسال في سؤال فكرنا في حاضرنا كما هو الشأن بالنسبة لتراثنا الذي كان حاضرا على أقل تقدير بداية القرن العشرين، وخصوصا بانتهاء خمسينيته الأولى، أسأل: هل حددنا كنه الديمقراطية ومعناها وأبعادها، حتى نساوي بينها وبين الليبرالية أو الرأسمالية، أو نميز هذا الوصف عن غيره من لأوصاف الأخرى؟ إن مثل هذا الربط أو الإضافة وبمثل منهجيتنا، لا يزيد موضوع الديمقراطية إلا مزيدا من الغموض، وإذن فنحن في مثل سؤالنا هذا بين فريقين:

* فريق يرفض الديمقراطية جملة وتفصيلا على أساس رفضه للرأسمالية والليبرالية.
* وفريق آخر يأخذها مثلما قدمها له الغرب وأملاها عليه ممارسة ونظرا.

وفي خضم هذا كله لا ينبغي أن يغيب عن نظرنا وأفقنا علاقة الفلسفة البراغماتية في امتداداتها الميكيافيلية بموضوع الديمقراطية الذي ألبسته لبوسها حتى تبرر قيام صورتها في صورة إنسان القرن الواحد بعد العشرين.

* إذا كان رفض الدكتور عزمي بشارة ربط العلاقة بين ما هو من الديمقراطية وما هو من الدين انطلاقا من موقف الفكر الإنساني في حدود فهم نصوص الدين لمفهوم الديمقراطية ربطا وإضافة كما هو شأن بعض الرؤى التي ألقت بضلال من الغموض على موضوع النظام الديمقراطي ومقاربة السياسات القائمة في عالمنا العربي والإسلامي، فهذا في الصميم، أما أن يكون استبعاده للعلاقة من منظور أن ليس في الدين، وتحديدا، في الإسلام، ما نضبط به منطلقاتنا ورؤانا وممارساتنا، خصوصا في دائرة ضبط وقياس علاقة الحاكم بالمحكوم فهو شأن آخر. ثم إذا كان التقليد الوحيد الذي يراه الدكتور كسياق وكمرجعية لإنسان عالمنا المعاصر هو التقليد الليبرالي، فإن مثل هذا الطرح يعيدنا إلى الحديث عن بداية البدايات، انطلاقا من إنسانية الإنسان في عالم الأنفس والآفاق، ومثل هذا، لا يمكن مقاربته في مثل هذا المقام. وإذا كان لا بد للفكر الإنساني من مجال مقاربة، خصوصا في دائرة الاهتمام بالعالم العربي والإسلامي فالأولى أن نقارب سؤال: مشكلة الديمقراطية، أو: الديمقراطية بين المفهومية والممارسة، كما أن مقاربة فيلسوف الحضارة المفكر مالك بن نبي لموضوع الديمقراطية في كتابه: القضايا الكبرى، تحت عنوان: الديمقراطية في الإسلام، التي هي مقاربة خالية من أي إضافة أو ربط غموض وإبهام، مقاربة تصدى من خلالها الأستاذ المفكر في ملامسة لمفهوم الإنسان المفكر في فهمه لنصوص الإسلام من خلال فهم النص القرآني من وجهة نظر سننية النص وعلاقة ذلك بسننية الكون الذي لا تستقيم الحياة فيه إلا بسننية رأس مال الإنسان.

إن مقاربة أستاذنا بن نبي في حاجة إلى قراءة وحضور من قرائنا وباحثينا في مدارسنا وجامعاتنا ومراكز الدراسات عندنا وفي كل محيطنا الحيوي، في عالمنا المثقل بآثار وتبعات رأسمالية الغرب وليبراليته وفلسفته.

وحتى لا يسوق لنا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سلعة ثبت لكثير من متعاطي المنظومة الفكرية الغربية كسادها، وأراه بعيدا في منهجيته واهتماماته عن ذلك، وأتمنى أن لا يكون كذلك، خصوصا أنه المركز الوحيد في عالمنا العربي الذي أشعل في ساحتنا العربية شموعا، أملي أن لا تنطفئ. ولكن يمكن أن تصل السلعة بديكورها وبريقها من خلال وسائل الاتصال المعاصرة التي لا تأخذ الإذن في حركتها وتموقعها من أحد، إلى ما تبقى من ثقافة شعوبنا المشتتة في اهتماماتها المنهكة بمأساتها، إن مثل هذه السلعة لم تعد مغرية في عالمنا ولكنها تبقى من باب الاستماتة ذات أهمية في زرع بذورها والاستنساخ على منوالها في عالمنا العربي المولع باستجداء الغالب في غير حاجة والاستغاثة به في غير مطلب، يمكن أن تأخذنا إلى طريق غير الطريق، لأنها للأسف الشديد تستثمر في رداءتنا بشكل رهيب، خصوصا في مدارسنا ومساجدنا ومزارعنا ومعاملنا، وفي كل محيطنا الحيوي، إنهم لا يرقبون في ثقافة شعبنا إلا ولا ذمة. السلعة التي يجتهدون في البحث لها عن قبول داخل أسواقنا هي من باب (أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)  مقولة يراد بها التضييق على عقول الناس وعلى ضمائرهم، وفي نفس الوقت يراد بها التستر على إهمال الإنسان في دائرة إنسانيته، يراد بها إخفاء إخفاقات الفكر الغربي المسيحي في عالم الأنفس التي تتوق إلى رؤية فيها صفاء وجلاء ونقاء وجمال وبهاء مستمدة من صفاء ونقاء وبهاء سيدنا عيسى عليه السلام، وإلى رؤية لبيت المقدس الشريف في ثوبه الراقي الجميل الصافي النقي من شوائب المعصية والعقوق، يسع العباد الموحدين لله، إله آدم وإدريس ونوح وهود، وصالح ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، وشعيب وأيوب وذو الكفل ويونس، وموسى وهارون وإلياس واليسع، وداود وسليمان وزكريا ويحي، والمسيح عيسى بن مريم وسيدنا محمد بن عبد الله عليهم جميعا الصلاة والسلام.

إذا كان لا بد من تصويب لرؤى خلق الله، في جدهم وهزلهم، في صلاحهم وفي انحرافهم، في صوابهم وفي خطئهم، في غيابهم وفي حضورهم، لا ينبغي أن يتحول ذلك إلى عقوق في حق الله أو إساءة إلى دينه. وفي الوقت نفسه، من غير اللائق والمقبول أن يتستر أي من خلق الله، مهما كانت درجته في عالم الناس، على إخفاقاته وسوء نظره بأي لقب من الألقاب أو أي صفة من الصفات. وعلى هذا الأساس أيضا فمن غير المقبول الدخول على الناس في دائرة تدبير شؤونهم والسهر على نظامهم وأمنهم وراحتهم وطمأنينتهم، وعلاقة حاكمهم بمحكومهم، بشعار من الشعارات، أو مذهب من المذاهب، أو عرق من الأعراق.

كما لا ينبغي أن نقبل من بعيد أو قريب، أن يستخدم أحدنا الدين بصفته إماما في مسجده، أو معلما في مدرسته، أو واليا في ولايته، أو قاضيا في سلكه، ليتستر به على حقيقته وجوهره. الدين ليس سجلا أو رخصة مرور تجعل الإنسان مقبولا من غير قبول أو مرضيا عنه من غير رضاء. إن ميدان العمل والممارسة في كنف التواضع والرضاء والقبول هو السبيل الوحيد لمقاربة دائرة تدبير شؤون الناس من أجل الاستجابة لتطلعاتهم في مساواة الجميع أمام القانون، وصب حرياتهم العامة في هوياتهم، لقد تطلع إلى ذلك اليونانيون القدامى وعبر عنها فيلسوفهم وأحد حكامهم المنضبطين ( بريكليس) الملقب بـــ: أبو السياسة، 431 قبل الميلاد: ” على الدولة الديمقراطية أن تعمل لخدمة السواد الأعظم من الناس وأن تطبق مساواة الجميع أمام القانون، وأن تصب الحريات العامة في هوية المواطن “(10).

إن (بريكليس) لم يتكلم من فراغ، لقد نبع موقفه من تجربته خلال إشرافه على أثينا في بداية تشكل الوعي الجماعي في مدينتها، إذا كان ولا بد من سؤال في مدنية أثينا فينبغي أن نسأل في مصدر حكمة بريكليس وجماله في إنسانيته وفي جمال مدينته ومدنيته، لا ينبغي أن نبحث عن ذلك من خلال ليبرالية الغرب ورأسماليته الملطخة بدماء هنود أمريكا وأسود إفريقيا الأبرياء الذين كانوا يتطلعون إلى الأمن والأمان.

وإذا كان لا بد من وقفة في سؤال التحول الديمقراطي في عالمنا العربي، لا يمكننا أن ننطلق من فراغ، أو نستأنف رحلتنا في غير رحلة، أو نسجل حضورنا في غير حضور، سؤالنا يمكن أن يبدأ مع الإنسان العربي خلال القرن السابع للميلاد، أين كان العرب رحلا، يعيشون حياة متخلفة مقارنة بحياة شعوب أخرى سبقتهم إلى التعارف والاجتماع والمدنية، والعرب كانوا هم من أسس للنظام القبلي كنواة للاجتماع والاتصال والتعاون بعد ذلك، إذ كانت الفكرة السائدة هي سلطة القبيلة إلى الحد الذي لا يستطيع الفرد عنده التعبير عن نفسه إلا من خلال قبيلته وباسمها حيث كانت قوتها عنوانه للتحدي، يقول (لال نهرو): ” كان عرب الصحراء ذوي عزة وأنفة وشعور مرهف، ومولعين بغزو بعضهم البعض، كان الفرد ينتسب إلى قبيلة وعشيرة وهذه القبيلة تتقاتل مع غيرها من القبائل، وكانت لهم هدنة واحدة في كل عام يحرم فيها القتال، ويحج إلى مكة لزيارة الآلهة التي صوروها على شكل أوثان وعبدوها بالإضافة إلى الحجر الأسود.” (11). عند هذا الحد يمكن أن نسأل سؤالا آخر من داخل السؤال الذي سبقه، فأقول: ما هو مصدر يقظة العرب وتحولهم، وقد كانوا من قبل مشتتين متناحرين لا تجمعهم ولا تفرقهم سوى الحرب، كيف تحول هذا الشعب الجريح في اجتماعه ولقائه وملتقياته، منهك الأوصال في جزيرته العربية، كيف تحول في صحرائه فجأة وصار قوة ضاربة في قلب العالم، رغم أنه لم يساهم في بناء الحضارات القديمة في مصر وفي بلاد الرافدين؟ يقول (لال نهرو): “والمدهش حقا أن نلاحظ هذا الشعب العربي الذي ظل منسيا أجيالا عديدة بعيدا عما يجري حوله، قد استيقظ فجأة ووثب بنشاط فائق أدهش العالم وقلبه رأسا على عقب، وأن قصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وإفريقيا، والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم هي أعجوبة من أعجوبات التاريخ، إن الإسلام هو الباعث والفكرة لهذه اليقظة العربية بما بثه في أتباعه من ثقة ونشاط، حمل رسالة الإسلام إلى العرب نبي جديد اسمه محمد..”(12)

وإذن فإن السر في تحول العرب إلى أمة واحدة متماسكة ودولة قوية لم يشهد لها من قبل مثيلا، سياسيا، اجتماعيا، وثقافيا، ليس هو (هويتهم) العربية التي لم تشفع لهم أمام حروبهم التي لازمتهم دهرا طويلا متباعدين متناحرين، إن السر كل السر كان في رسالة الإسلام التي بلغها النبي العربي الأمي خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أحسن تبليغ، إنه التفاعل الإيجابي الذي لم يحدث مثله من قبل في زمن القوميات، تفاعل عقل الإنسان المكبل بعواصف الأهواء، مع الهدي الأزلي الخالد، إنه التواصل بين ما هو زماني وما هو روحاني، بين يقظة الفكر وطمأنينة الإيمان، الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية في تناغم تام، إنه الشعور الإنساني القويم النابع من إيمانه وتوحيده ورضاه بقسمته ونصيبه واكتمال صورته في رأس ماله الذي هو إنسانيته، إنها النظرة المتوازنة والوسطية الرائدة التي وقفت حاجزا منيعا وحدا فاصلا بين نافيتين، نافية الـ (أنا ) ونافية الـ ( آخرين ).

أما يثرب (شمال مكة) التي هاجر إليها الأوس والخزرج 300 ميلادية، فقد سبقهم إليها اليهود، اللافت وقتها في طبيعة النزاع الذي كان بين اليهود من جهة، والأوس والخزرج من جهة أخرى، كيف تحول إلى نزاع وصراع بين الأوس والخزرج، وكيف استطاع اليهود ملأ الفراغ، حيث وظفوا مكرهم في تفعيل التناقضات للحيلولة دون اجتماع القبيلتين؟ ثم ما هو السر الذي حول الأوس والخزرج والمهاجرين إليهم من مكة أمة واحدة، خابت في وجهها سياسات اليهود ومكرهم وخداعهم، هل هو الاجتماع والتعارف فحسب، أم هي الصدفة التي جمعتهم وحررتهم؟ خصوصا العرب المهاجرين من مكة إلى يثرب، كان لهم ضمن قريش من القوة والمنعة ما يغنيهم عن غيرها في مواجهة تحديات الطبيعة وتحديات القبائل الأخرى والشيء نفسه ينطبق على الأنصار في يثرب، وإذن فالسر والدافع هو رسالة الإسلام التي بلغها النبي الأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 لقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة المنورة الذي أشع بنوره وعدله حياة الناس، وقد كان الإنسان يعاني من وطأة الاستبداد والاستعباد، فلا اليونان ولا الرومان ولا العرب، ولا غيرهم من الشعوب الأخرى تمكنوا من وضع مبدأ لتحرير الإنسان من دائرة الاسترقاق، ذلك المبدأ الذي جاءت به أحكام السماء، فاعتمده رسول الله ومعه أصحابه، مستهدفا به تقويم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، محررا إياه من عبادة الآلهة المزيفة والمتعددة، حيث كان لكل فئة إلهها الذي تتصوره أو تصنعه وفق أهوائها في جاهليتها كظاهرة أثرت تأثيرا بالغا في نفسية الفرد وفي واقع الجماعة، والمبدأ ذاته اقتضى في إطار عملية التقويم تحرير الإنسان من دائرة الرق وقيوده وآثاره، فتحقق ذلك بصفة تدريجية، وحدث على إثرها التحول الأول والفريد من نوعه في تاريخ الإنسانية وعلى مستوى الفكر الإنساني من خلال تفاعل العقل البشري مع الهدي الأزلي الخالد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، لم يعتمدوا على عقولهم وخبراتهم فحسب في تحديد الأساليب الكفيلة بتحقيق مجتمع إنساني صالح ن ولكن كانت أحكام السماء هي المؤطر والموجه وفق ما تقتضيه سنن الأنفس ونواميس الكون، بدءا بتحديد القيمة الحقيقية للإنسان في علاقته بخالقه وفي علاقته بالآخرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أعتق رقبة اعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار” رواه مسلم. إن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يعني بأي صفة من الأوصاف، و/أو بأي تأويل من التأويلات موافقته على ظاهرة الرق و/ أو قبولها في واقع الناس، وقد اعتاد الناس تلقي الأوامر من رؤسائهم وتنفيذها دون انتظار، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدر أمرا بإنهاء ظاهرة الرق من واقع الناس، إن سؤالا كهذا يمكن أن يتبادر إلى أذهان بعض الناس، والجواب هو أن خطاب خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليعبر عن موقف شخص الحاكم أو الرئيس الذي يمكنه أن يقول في هذا الشأن أو في غيره ما يقول معتمدا في ذلك على عقله وأهوائه، أو حتى مستبدا برأيه دون سواه، ولكن خطابه صلى الله عليه وسلم جاء معبرا عن مصدر تكريم الإنسان، مستهدفا بذور الحرية والعدل والإخاء والمساواة المحفوظة في ضمير الإنسان والمتصلة بفطرته التي فطره الله عليها. لقد تعهد الرسول ومعه أصحابه تلك البذور بالعناية اللازمة، حتى إذا امتثل الناس لنداء رسول الله، كان ذلك ثمرة من ثمار تفاعل عقل الإنسان المخاطب، منفعلا بما يحيط به من ظروف وملابسات، مع أحكام السماء التي تضمنت تقويمه وتكريمه، حيث أدرك أهميتها وحاجته إليها، ومن ثم لم يكن ذلك امتثالا و/ أو طاعة مطلقة لشخص الرئيس أو الحاكم المستبد برأيه المنفعل باعتبارات اللون والجنس والمال، وما إلى ذلك من اعتبارات، لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوهلة الأولى في مجتمع المدينة النموذج الإنساني الذي ينبغي أن يكون عليه الحاكم والمحكوم على حد سواء، وهو الأساس الذي قام عليه مبدأ العدل والمساواة أمام القانون، والشعور الذي استهدفه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالتحقيق في نفسية الفرد وسلوك الجماعة. إن قول الرسول صلى الله عليه: ” من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه ” رواه مسلم. جاء ليعبر عن واقع الإنسانية حينها في دائرة الاسترقاق، وهو أي كلامه لا يعبر، لا من بعيد ولا من قريب، عن تبريره للاستعباد أو الإقرار به، كما يمكن أن يتبادر إلى بعض الأذهان والأفهام ، إن تعبير رسول الله إن دل فإنما يدل على الحالة التي كان يحياها الإنسان عموما، حيث كان يعامل الإنسان المملوك كأداة تستخدم عند الطلب وعند الحاجة وفق ما يراه ويرغب فيه صاحبها، إن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليعلن للإنسانية أن زمن الاستعباد قد ولى، وأن الإنسان المملوك يجب أن يعامل على أساس أنه إنسان في طريقه إلى الحرية، الحرية، يقدم خدمات لصاحب العمل أو المستخدم مقابل تلبية حاجاته من مأكل وملبس ومسكن، وهي الحاجات ذاتها التي يسعى الإنسان العامل لتحقيقها اليوم، وأن الاستخدام يجب أن يكون على هذا الأساس الذي هو عبارة عن عقد معنوي حينها، يلتزم وفقه وبطريقة تلقائية المستخدم بعدم تجاوز حدود الاستخدام إلى الضرب أو الإهانة وما شابه ذلك من تصرفات، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بمثابة الإعلان عن الجديد في علاقة الإنسان المستخدم مع الإنسان المملوك محددا حدود المعاملة ومحددا كذلك أن أي تجاوز تكون نتيجته إنهاء الاستخدام والانتصار لصاحب الحق، وهو جوهر كلام رسول الله: (فكفارته أن يعتقه). لقد تمت وفق هذا المنهج الاستجابة لمبدأ تقويم علاقة الإنسان مع أخيه الإنسان بصفة تدريجية حسب ما تتطلبه عملية بناء المجتمعات استجابة وإجابة، أو ما يمكن أن نطلق عليه في عصرنا الحاضر عملية نشوء أو قيام النظام الديمقراطي الذي هو مطلب إنساني خلاصته التطلع إلى دولة تخدم السواد الأعظم من الناس وتطبق مساواة الجميع أمام القانون وصب الحريات العامة في هوية المواطن.

أما التجارب الإنسانية في مجال الديمقراطية أو بناء النظام الديمقراطي، يمكن التعامل معها بكثير من التأمل والدراسة، إذ يمكن أن نستهدف بالدراسة النموذجين الألماني والسويسري كتجارب لها منظومتها الفكرية وتاريخها وظروفها وملابساتها، فبخصوص سويسرا يقول (ليسلي ليبسون): “فالحكم فيها هو أحد أنجع أنواع الديمقراطية وأكثرها دواما، رغم أنها حتى الآن تقتصر على مواطنيها فقط، إن السويسريين المعاصرين منقسمون دينيا ولغويا، فثلاثة أخماسهم من البروتستانت وخمساهم من الكاثوليك، ويتكلم 74 بالمائة منهم الألمانية و21 بالمائة الفرنسية وحوالي 4 بالمائة الإيطالية، وواحد بالمائة الرومانية وهي لغة مشتقة مباشرة من اللاتينية، وعندما يستعرض المرء أضرار الانقسامات الداخلية وضغط الدول المجاورة يجد أن نجاح السويسريين هي إيجاد سويسرا واستمرار اتحادهم، وتطور أمتهم ديمقراطيا يشكل معجزة”(13) .

إن مواقف فلاسفة الغرب من موضوع الديمقراطية معروفة، من خلال نظرتهم إلى الغرب وكأنه هو المعمورة بكاملها، وإلى واقعهم وكأنه هو الشاهد على الإنسانية كلها، نظرة لذائذية كما يسميها الدكتور عزمي بشارة، وأحب أن أسميها نظرة انتقائية، لأن الفيلسوف مالك بن نبي يعبر عنها بالجذبية، إن الفيلسوف (روسو) مثلا: اختصر رؤية الغرب في رؤيته فقال: (الديمقراطية في معناها الحقيقي والصارم لم توجد قط ولن توجد أبدا)، المقام لا يسمح بالاسترسال أكثر، إلا أن كثيرا من المفكرين الأوربيين الأحرار في الغرب هم في مقدمة من سيأخذون بالعجلة الأوربية إلى شط الأمان. ويمكننا من خلال فلاسفة الغرب أن نتأكد من قصور الفكر الغربي وعجزه عن غدراك المعنى الحقيقي والصارم للديمقراطية بشهادة أكبر الفلاسفة والمفكرين، أمثال: جان جاك روسو، تشارلز فرانكل، طوكفيل، مونروفي، نيتشة، وغيرهم كثير، كما يمكننا أن نتحقق كفاية من انحراف الفلسفة الشيوعية وشراسة نتائجها في واقع الإنسانية، في الوقت الذي يتواصل ( نجاح) الفلسفة اليهودية المستضعفة بشكل رهيب، وفي الوقت ذاته تتأكد حاجة الإنسانية إلى أحكام السماء وإلى كلمة سواء بين الجميع، الحاجة ملحة إلى تفاعل الفكر الإنساني في عالمنا المعاصر مع الهدي الأزلي الخالد، أوربا اليوم في حاجة إلى التخلص من جذبيتها في إنسانيتها، والعالم في حاجة إلى معلم من نوع خاص، معلم يصون النظرية وتطبيقاتها من الأهواء والقصور، ومن كل الفلسفات التي استعبدت الإنسان بشكل ينفي الشعور الديمقراطي في شقه الثاني، نافيته نحو الآخرين، حتى وإن كانوا هنودا، أو سودا، أو عربا. إننا في حاجة إلى من يقرأ لنا موقف الخليفة الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم”، مثل هذا الموقف يقرأه الحاكم ويشرحه للمحكوم، وتقرأه النخبة وتعلمه للشعوب. إن الشعار المثلث لدى الغرب، الذي ضاقت أضلاعه فلم تتحمل بعضها، لأن الفكر الغربي ضاق بها، فهل من سبيل يعيد لمثلثنا روحه ورونقه، إن مثل هذا السؤال من صميم ما يعانيه الغرب من تناقضات، لعل أقرب آثارها انسحاب بريطانيا من أوربا في اتحادها، إن الشعار المثلث في حاجة إلى معلم، يمكن لنا أن نحدد محوريه في تناغم تام، ليكون معلما متعامدا ومتجانسا بلغة الرياضيات، يتحول المثلث على إثر ذلك، وذلك فقط بنفس اللغة إلى مثلث قائم، أحد ضلعيه القائمين يمثل الإخاء، والضلع القائم الثاني يمثل المساواة، أما الضلع الثالث الذي هو الوتر فيمثل الحرية، لاحظوا هذا الضلع ليس قائما، لكنه محكوم بطبيعة المثلث الذي أخذ طبيعته هو الآخر من المعلم الذي استمد منه روحه ورونقه. أما جوهر المثلث فهو الرضاء، أي رضاء الإنسان بقسمته ونصيبه في هذا الكون، وهي الحالة التي تتشكل من خلال الدائرة التي يرسمها الإنسان، ليس وحيدا منعزلا في الطبيعة، ولكنه إلى جانب أخيه الإنسان، الدائرة في هذه الحالة، لا بد لها من المركز، إنه منتصف الوتر، أي الضلع الذي يمثل الحرية، ألا وهو الحد الفاصل بين نافية الـ (أنا) ونافية (الآخرين)، إنه الحد الفاصل الذي يعبر عن قمة الرضاء، تتشكل الدائرة المحيطة بالمثلث الجديد الذي يعبر عن الإنسان الجديد وفق تعبير فيلسوف مالك بن نبي وإيحاءاته رحمه الله. تلك هي الصورة التي ينبغي أن تتمثل فيها كلمة (سواء) بين المسلمين الموحدين فعلا وبين أهل الكتاب الذين سيختارون المثلث الجديد والأصيل الذي اختاره رسل الله، ومنهم موسى وعيسى ومحمد عليهم جميعا الصلاة والسلام ذلك أن التثليث هو شجرة العقوق التي لم ترحم شعار الغرب المثلث، فما بالكم ببقية الشعارات.

إن المفكر الفرنسي السويسري (جان جاك روسو) وصل إلى نتيجته ميؤوسا من إمكانية تحقق الديمقراطية في واقع الناس حينما قال: (الديمقراطية في معناها الحقيقي والصارم لم توجد قط ولن توجد أبدا)، ذلك هو سر حاجة الغرب والعالم أجمع إلى المثلث الجديد، الأصيل والبديل، وهو ما يمكن التأكد من صلاحيته من خلال بحث مبررات الديمقراطية في عهد خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. إن مبررات المعنى الحقيقي والصارم للديمقراطية ترجمته لنا مرحلة نشوء ونمو مثل هذا الشعور في بعده الإنساني وهي مرحلة الإشعاع الممتدة من اليوم الذي أشرقت فيه الهداية المحمدية إلى يوم صفين وفق تحديد بن نبي.

بشير جاب الخير
8 جويلية 2016

الإحالات:

(1) فؤاد بن سيد عبد الرحمان الرفاعي، دار الشهاب للطباعة والنشر ـ باتنة ـ الجزائرـ ص64.
(2) روجه غارودي، حوار الحضارات، الطبعة العربية الثانية، ترجمة الدكتور عادل العوا، منشورات عويدات ـ بيروت ـ، ص 35.
(3) روجه غارودي، حوار الحضارات، الطبعة العربية الثانية، ترجمة الدكتور عادل العوا، منشورات عويدات ـ بيروت ـ، ص 35.
(4) روجه غارودي، نفس المرجع، ص 36.
(5) من مقالة نشرها معهد الهوقار بجنيف ـ سويسرا، في صفحته ـ منبر حر ـ للأستاذة زينب عبد العزيز، بتاريخ 07/07/2016 .
(6) الدكتور حسن الترابي، تجديد الفكر الإسلامي، دار البعث ـ قسنطينة ـ الجزائر ـ الطبعة الأولى، ص9  
(7) أبو الأعلى المودودي، تدوين الدستور الإسلامي، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص30 ـ 31
(8) الدكتور يوسف القرضاوي، بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين، مكتبة رحاب، نهج روسيني، ساحة بور سعيد، الجزائر ص 175، 176، 177.
(9) د. يوسف القرضاوي، الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا، دار البعث ـ قسنطينة ـ الجزائر، ص52.
(10) مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دار الفكر المعاصر ـ بيروت ـ لبنان ـ ص 135
(11) لال نهرو، لمحات من تاريخ العالم، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت ـ لبنان ـ ص 23
(12) لال نهرو، نفس المرجع، ص 23-24
(13) ليسلي ليبسون، الحضارة الديمقراطية، منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ لبنان ـ ص 64 ـ 65.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version