يقول الله سبحانه: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا” (الآية 18 من سورة الجن)

قال ابن عباس: بخصوص قوله سبحانه “وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا”، لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ومسجد إيليا: بيت المقدس، انتهى كلام ابن عباس. وإذن فالمسجد مكان لعبادة الله، وسمي بيت الله لخصوصية الأساس الذي قام عليه ومن أجله ألا وهو توحيد الله، وعلى هذا الأساس فمن غير المعقول أن نقول كلاما أو نفعل فعلا يغضب الله أصلا، فما بالك إذا كنا في بيته سبحانه وتعالى. والمسجد الذي أقامه خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة هو بيت الله الذي شهد فيه رسول الله والمهاجرون والأنصار على وحدانية الله سبحانه، وإذن فالغرض من بناء المساجد أو إقامتها هو توحيد الله، وينبثق منه العمل على توحيد سعي عباده من خلال توحيد القراءة باسم الله وتوحيد الفهم وتقريب الرؤى، وبالمقابل ترك كل قول أو فعل يبعد عباده عن دائرة توحيده سبحانه. فلا يليق بعباد الله أن يشغلهم قول أو فعل في بيت الله عن الله، فما بالك إذا شغلتنا دنيانا عن الذكر والتسبيح والدعاء في مساجدنا التي هي بيوت الله سبحانه، بعد أن انشغلنا عن مبدأ الشهادة بغير ما يرضي الله في بيوتنا وشوارعنا ومتاجرنا ومدارسنا وجامعاتنا، فنزعنا منها روحها وجردناها من لباسها وجمالها وطيبتها وصفائها.

ولقد ظهرت كلمة “الجامع” واتصلت بكلمة “المسجد” ، فأعطانا ذلك عبارة “المسجد الجامع”، وعملية التركيب هذه تولدت عن جانب وظيفي أملته حركة المجتمع ونموه الديموغرافي ومتطلبات بنائه العقدي والاجتماعي والثقافي، إذ لم تكن هناك جامعات ولا معاهد ولا مراكز دراسات ولا مراكز إعلام ولا شيء من ذلك كله، فكان لابد من أن يستجيب المسجد الجامع ويلبي مثل هذه الحاجات، وإذا كانت المسألة متعلقة بالمجتمع فقد كان الموعد كل جمعة يؤدي الناس فرضهم ويؤدي الإمام الخطيب مهمته وواجبه، ولذلك أطلق في بعض الأمصار فيما بعد على مثل تلك المساجد عبارة “جامع الجمعة”، إذ لم تكن كل المساجد تؤدى فيها صلاة الجمعة، حيث يتم إنشاء المسجد الجامع وإقامة صلاة الجمعة كلما دعت الحاجة إلى ذلك، والحاجة تمليها الضرورة، والضرورة تتصل بعدم كفاية المسجد الجامع الواحد لاستقبال الناس والخطابة فيهم، إذ كلما زاد العدد زاد ت الحاجة إلى مسجد جامع خدمة لرسالة أمة التوحيد من خلال الاجتهاد في توحيد الرؤى وتوحيد المواقف بما يخدم مبدأ الشهادة لا غير. وحرص الأولون من خلال ذلك على الامتثال لقوله عز وجل: “وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا”.

فإذا كانت الآية عامة بخصوص كل المساجد التي هي بيوت الله، سواء منها التي تقام فيها صلاة الجمعة أو تلك التي تؤدى فيها الصلوات الخمس فقط، فإن فحوى الآية يتصل أكثر بتلك التي تقام فيها الجمعة ويتصدى فيها الإمام الخطيب لتوجيه الناس وإرشادهم، لأن المطلوب هو توحيد الله في بيوته قبل غيرها من البيوت، إذ لا نتصور إنسانا لا يعظم الخالق سبحانه في بيته يمكن أن يعظمه في غيرها.

وعلى هذا الأساس فهم واستوعب الجيل الأول رسالة المسجد من خلال الدور والمهمة المسندة للإمام الخطيب.

وفي أيامنا هذه تقام الجمعة في أغلب المساجد وكأن فرض صلاة الجمعة واجب الأداء فيها جميعا ،لقد ركزنا على الشكل وأهملنا الجوهر، حتى صارت صلاة الجمعة عندنا شكلا بلا مضمون، وإلا فما معنى أن يتصدى للخطابة في الناس يوم الجمعة في بيوت الله سبحانه أناس يمجدون الطائفية، ويكرسون الفرقة، ويسيئون للقرآن والسنة، حتى أن بعضهم لا يتورع عن الدعاء على الناس أو على فئات من المسلمين ويصل ذلك بقراءة القرآن وسرد الأحاديث النبوية الشريفة، فلا العلم هو العلم الذي أمرنا به الله، ولا القراءة تتم باسم الله، ولا الدعاء هو الدعاء الذي دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى درجة يخجل فيها المرء من نفسه، فكيف بنا لا نستحيي ولا نخاف من الله في بيوت الله.

إن مثل هذه السلوكيات هي أعراض لا ينبغي الاسترسال في عرضها، فالمشكلة كل المشكلة تكمن في علاقة أولي الأمر ببيوت الله، فإذا لم يعظموا هم بيوته سبحانه ويستجيبوا لندائه وتوجيهه، فلن تستقيم حالنا، لا في بيوتنا ولا في بيوت الله، إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة.

إن الذي دفعني لمثل هذه المقاربة هو المقالة التي قرأتها على صفحة “منبر حر” لمعهد الهوقار بتاريخ 5 ماي 2016 تحت عنوان: تركيا تحتضن الملتقى العالمي الأول للأئمة والخطباء لمواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.

 ذكر صاحب المقالة مشكورا، ما يلي:

1/ الجهة المشرفة على تنظيم الملتقى هي: الهيئة العالمية للمساجد التابعة لرابطة العالم الإسلامي بمكة بالتعاون مع اتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي.
2/ عنوان الملتقى: دور الأئمة والخطباء في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.
3/ مدة الملتقى يومان، 29 و 30 أبريل 2016.
4/ المكان: اسطنبول ـ تركيا ـ
5/ المشاركون: أكثر من خمسمائة عالم ومفكر وإمام وخطيب من سبعين دولة ومن القارات الخمسة.
6/ عدد البحوث المقدمة: عشرون بحثا أو أكثر.
7/ عدد المحاور: أربعة
* مسؤولية إمام المسجد تجاه دينه ومجتمعه.
* دور إمام المسجد في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.
* تطوير مهارات الإمام لتحقيق رسالة المسجد.
* المبادرات والممارسات الناجحة في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.

وذكر الكاتب أنه تم عرض الخطة الاستراتيجية للهيئة العالمية للمساجد التي حظيت بالرضا والتقدير.

أشار كذلك الكاتب إلى بعض المداخلات:

1/ مداخلة الدكتور أحمد سالم باهمام الأمين العام للهيئة العامة للمساجد الذي أكد على رسالة المسجد الحضارية بصفة عامة وفي زمن الفتن والحروب بصفة خاصة مبرزا قيم الوسطية والتسامح في مواجهة الغلو والتطرف، مبرزا دور المملكة العربية السعودية وجهودها في هذا المضمار ، وكذلك جهود ودور الجمهورية التركية.
2/ الدكتور إبراهيم بن محمد عضو مجلس شورى المملكة العربية السعودية الذي تحدث عن ضرورة تضافر جهود الحكومات والمؤسسات الإسلامية ودعمها لدور المسجد والإمام في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.
3/ المحامي التركي السيد علي كورت رئيس اتحاد المنظمات الأهلية في العالم الإسلامي الذي تحدث عن أهمية التواصل بين المؤسسات الدينية وتعاونها لمواجهة التحديات.
4/ الدكتور حسن يلماز نائب رئيس الهيئة الدينية التركية الذي تحدث عن دور الإمام والخطيب في المجتمع المعاصر ودور المسجد في تحقيق القيم الأخلاقية.
5/ الدكتور عمر فاروق مستشار رئيس الوزراء التركي الذي أبرز أهمية إيجاد طريقة فاعلة مع أئمة المساجد وخطبائها لتفعيل دورهم.
6/ السيد محمد غورميز رئيس الشؤون الدينية للجمهورية التركية الذي دعا إلى التحاور حول ما أصاب المسلمين ودور العلماء والأئمة والخطباء في حفظ الأمن وتوفير السلام للمسلمين، وأهمية الأمن في الأنفس والمجتمعات وأثره في التنمية والإبداع، وأن أساس الأمن هو الأمن الفكري.

توصيات الملتقى:

1/ حث الهيئة العالمية للمساجد على إصدار دليل إرشادي للأئمة والخطباء.
2/ إصدار ميثاق عالمي للمساجد من الهيئة العلمية للمساجد.
3/ تنظيم ورش عمل وبرامج تدريبية لرفع المستوى العلمي والأدائي للأئمة والخطباء.
4/ إقامة معارض للمساجد في العالم.
5/ نشر وترجمة خطب الأئمة المتمكنين وعلى رأسهم أئمة الحرمين الشريفين.
6/ استحداث جائزتين لأفضل إمام وخطيب مسجد في تحقيق السلم المجتمعي.
7/ ضرورة عقد مؤتمرات وملتقيات قارية وإقليمية وقطرية حول رسالة المسجد الحضارية ودور    الأئمة والخطباء لتعزيز منهج السلم والوسطية والاعتدال.
8/ إنشاء آلية تواصل عبر الشبكة العنكبوتية بين المساجد والمراكز الإسلامية للتنسيق بينها فيما يحقق رسالة المسجد ويخدم مجتمعاتها.
9/ إعداد قاعدة بيانات علمية للمساجد تضع الهيئة العالمية للمساجد مواصفاتها.
10/ السعي لإنشاء مؤسسات في مجتمعات الأقليات المسلمة تهتم بالإعداد الجيد للإمام والخطيب والمسئول الديني بما يحقق الضوابط الشرعية والالتزام بالحكمة والموعظة الحسنة والبعد عن الإفراط والتفريط والاندماج مع المجتمعات.
11/ حث الهيئة العالمية للمساجد على مزيدٍ من التواصل الإعلامي لإرساء دور المسجد من خلال إنتاج برامج إعلامية وإصدار خطب نموذجية.
12/ التأكيد على أن تتضمن رسالة المسجد ترسيخَ الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع، والآثار الإيجابية الناتجة عن التآلف والتقارب في رقي المجتمع وازدهاره، وترسيخ أمنه واستقراره.
13/ حث الأئمة والخطباء ومسئولي المساجد على تقديم صورة الإسلام الحضاري المؤمن بالقيم الإنسانية والمسهم في وضع التقدم البشري وقيم الحوار والتعاون بين المجتمعات.
14/ العمل على تحديد معايير ومواصفات دقيقة لعناصر منظومة الدعوة: (الداعية-المسجد-المحتوى- الوسائل- الإجراءات)، قياساً على مجال التعليم، بأن توضح مؤشرات كل مجال، واشتراطات الجودة الخاصة التي تحميها من الدخلاء، وممن لا يملك مؤهلاتها.

هذا جل ما ذكر الكاتب في مقالته.

استأذن لأتساءل:

1/ خمسمائة عالم ومفكر وإمام وخطيب، هل هذا الذي حدث هو مهرجان خطابي، أم هو برلمان من نوع خاص؟ ألم يكن موضوع الملتقى موضوع بحث؟ ثم هل قدمت البحوث كلها وعددها أكثر من عشرين في يومين؟ كيف تم التعامل مع الأوراق البحثية، وما هي المنهجية المتبعة، ثم كيف كان رد فعل الحاضرين، وهل تم تحديد بعض المؤشرات التي يمكن أن نستدل بها على مدى فعالية أنشطتنا؟ هذه الأسئلة ومثلها كثير لا يسمح بطرحها مثل هذا المقام هي أسئلة متصلة بطريقة وطبيعة الأعمال التي نقوم بها في واقعنا الاجتماعي، هل هو عمل مؤسس ننتظر آثاره في علاقة الحاكم بالمحكوم على مستوى الأسرة والمدرسة والمتجر والمزرعة والشارع، إن ما يقوم به الإمام الخطيب ينبغي أن يكون كغصن الشجرة يستمد منها حياته وتستمد منه قوتها، وبالتركيز على ما ذكره الكاتب يمكن أن نستشف من أعمال الملتقى نوعين من التوجيه، أي أننا نجد أنفسنا بين توجيهين، الأول سياسي والثاني علمي.

الدلالة على ذلك:

*الدكتور إبراهيم بن محمد عضو مجلس شورى المملكة العربية السعودية الذي تحدث عن ضرورة تضافر جهود الحكومات والمؤسسات الإسلامية ودعمها لدور المسجد والإمام في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.
 هذا موقف سياسي وتوجيه محدد من خلال الصورة الواجب تقمصها من طرف الإمام والدليل على ذلك ما تمت الإشارة إليه في التوصيات: نشر وترجمة خطب الأئمة المتمكنين وعلى رأسهم أئمة الحرمين الشريفين.

* الدكتور حسن يلماز نائب رئيس الهيئة الدينية التركية الذي تحدث عن دور الإمام والخطيب في المجتمع المعاصر ودور المسجد في تحقيق القيم الأخلاقية.

هذا توجيه فكري بحت خال من التوجيه السياسي المسبق، غرضه بحثي بحت، فهو عبارة عن سؤال أخلاقي حضاري والدليل ما جاء في جانب من التوصيات: التأكيد على أن تتضمن رسالة المسجد ترسيخَ الوحدة الوطنية بين أفراد المجتمع، والآثار الإيجابية الناتجة عن التآلف والتقارب في رقي المجتمع وازدهاره، وترسيخ أمنه واستقراره.

2/ عدد البحوث أكثر من عشرين، أيعقل أن نتعامل مع موضوع من الأهمية والحساسية بأكثر من 20 بحثا في يومين؟ ما هو مقياسنا في ذلك؟ هل تم التحضير لمثل موضوع هذا الملتقى الهام من قبل؟ هل هناك لجنة من المتخصصين قيمت مثل هذه البحوث وانتقت ما يلزمها ويتوافق مع أهداف الملتقى؟

3/ الغلو والتطرف والإرهاب، موضوع من؟  من المتهم؟ من المدعي؟ ومن هو المدعى عليه؟ ثم ماذا نريد من الإمام، نريده قاضيا، محاميا، مرشدا، شرطيا، وسيطا، أم ماذا تحديدا؟

4/ المبادرات والممارسات الناجحة في مواجهة الغلو والتطرف والإرهاب.

هل هناك نموذج تم الاتفاق عليه على أساس انسجامه مع منظومة الأمة الأخلاقية؟ هل هناك نموذج يكرس مبدأ الوسطية يكون محل إجماع؟ ما هي المبادرات والممارسات الناجحة، أهي تلك التي كافأت غلو السيسي وتطرفه وإرهابه لأبرياء رابعة؟ أم هي الممارسات الإرهابية التي أغلقت المعابر أمام الأبرياء في غزة؟ ما هي المبادرات والممارسات التي نوصي أئمتنا وخطباءنا بذكرها وتمجيدها؟ أين تكمن رسالة المسجد؟ وما هي المعايير العلمية والشرعية التي ينبغي بحثها استجابة لتحديات العصر ومتطلبات تمثل مبدأ الشهادة من المعلم والإمام والحاكم والمحكوم على حد سواء، إن سؤال رسالة الإمام ورسالة الإمام الخطيب ينبغي أن نبحث له عن إجابة من رحم الأمة الثقافي وعمقها الحضاري، يكون ذلك على حساب أنانيتنا وبعيدا عن هلعنا وجزعنا ومنعنا.

الشكر لصاحب المقالة الذي قرب لنا صورة الملتقى وترك لنا هامشا للقراءة من داخلنا لعلنا نقرب للقارئ ما خفي من الصورة. أما بخصوص عبارة “المسجد الجامع” فهو سؤال رسالة الإمام في الحضارة العربية الإسلامية، وسؤال الإمام في إسعاد الإنسانية تفعيلا لمبدأ الشهادة.

قال الله عز وجل: “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا”.

إن مهمة الإمام الخطيب، لا يمكن مقاربتها إذا لم نقارب أهمية ودور المسجد عموما، والمسجد الجامع خصوصا وموقع ذلك في عملية بناء صرح أمة الشهادة، ولن يتحقق ذلك إلا إذا تخلص أولو أمرنا من هلعهم وجزعهم ومنعهم، وتخلصنا نحن من أنانيتنا وهلعنا وجزعنا ومنعنا على حد سواء، لقد أعطانا خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم الدواء وشهد علينا، فأين هي شهادتنا، وقبل ذلك أين هي صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وسعينا وطوافنا، وحركتنا وسكوننا، أين كل ذلك من مبدأ الوسطية.

بشير جاب الخير
15 ماي 2016

تعليق واحد

  1. محمد بن عياد بتاريخ

    تحليل موضوعي و تقييم رائع حول مؤتمر تركيا
    تحليل موضوعي و تقييم رائع .. جزاكم الله خيرا و أحسن إليكم، حبذ لو يرد عليكم الكاتب أو من حضر المؤتمر

Exit mobile version