بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

نواصل دائما في إطار أهمية عالم الأفكار في حياة الإنسانية، فنقول أن أول من طرح فكرة الحاكمية كمشكلة هم المسلمون، لأن غيرهم كانوا لا يمتثلون أصلا في حياتهم إلى شريعة رب العالمين، ذلك أن المسألة مرتبطة بعالم التوحيد بداية ونهاية، ففي حياة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لم تطرح، أو لم يطرح أي إشكال في هذا الموضوع من قبل المؤمنين، فالمسلمون يومها لم يكونوا يتصورون مجرد التفكير في مخالفة ما أنزل الله، إن الامتثال لأوامر الله ونواهيه، حينها، أمر مسلم به، ومن ثمة لم تكن الحاجة لطرح فكرة “لمن الحاكمية”؟

إن الدولة التي أقامها صلى الله عليه وسلم رفقة أصحابه، لم يخرج المجتمع في إطارها عن شريعة الله، دولة استجابت مؤسساتها لحاجات الإنسان، بغض النظر عن دينه ولونه و جنسه ولغته، لقد حررته من دائرة اللاهوت المزيف، أين كان الإنسان مسلوب الحرية والكرامة وممنوعا في كثير من الأحيان من التفكير، لا فرق بينه وبين باقي الأحياء من غير الآدميين، إلى دائرة العدل والأمن والسلام، وهي أيضا دولة يدير شؤون المجتمع فيها أهل القدرة والكفاءة على أساس أن تلك المهام واجب وتكليف أكثر منه حق وتشريف، ذابت من خلالها وفي نطاقها فوارق اللون واللسان وغيرها من اعتبارات أخرى، أمام مقاييس القدرة والكفاءة والقبول والتواضع بمفهومها الشامل والصحيح، فهل دولة كهذه دولة ثيوقراطية؟ أو قيصرية؟ أو غير ذلك من النعوت والأوصاف؟ ليست دولة ثيوقراطية، لأن الدولة ليست دينا منزلا، خصوصا أن الدولة تضعف وتقوى، كما يمكن أن تزول ويسري عليها ما لا يسري على الدين، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالدولة من صنع الإنسان، وفق ما كلف به، واستحفظ عليه من أمانة، في وقت أبت فيه السموات والأرض والجبال ذلك، إنها دولة تناسب المجتمع الإنساني ولا تتعارض مع ما جاءت به الكتب السماوية، وآخرها القرآن الكريم، إن المجتمع في إطار هذه الدولة، لا وزن فيه أمام القانون، لعامل الدين، بمعنى دين أو معتقد الإنسان المواطن أو الرعية، لأن القانون نفسه لم يكن ليتعارض مع الدين، مما يستلزم ويقتضي المساواة بين الجميع، يهودا، مسيحيين، مسلمين، وغيرهم، كما أنه لا وزن فيه لعامل اللغة أو اللون أو الجنس، إن القاضي، في إطار هذه الدولة، لا ينظر إلى المدعي أو المدعى عليه على أساس دينه أو لونه أو جنسه أو لغته أو جاهه أو نسبه، إن المجتمع في إطار هذه الدولة مجتمع حر، على أساس أن حريته مكفولة قانونا من قبل جميع أعضائه، ذلك أنه لو تصورنا الحرية مطلقة لما تحققت هذه الكفالة، ومن ثمة فالحرية محكومة بضوابط، مصدرها عالم المجتمع الثقافي وعمقه الحضاري، على عكس ما يذهب إليه الفكر الغربي أو الفكر الشيوعي، وقبل ذلك وبعده الفلسفة اليهودية الماكرة. إن مجتمعا كهذا في دولة كهذه، لا مجال فيه للتسلط ولا للتطرف، ولا للاستبداد ولا للإباحية، لذلك السبب لم تطرح فيه الحاكمية كمشكلة، إن على المستوى المفاهيمي وإن على مستوى الممارسات.

إن مفهوم الحاكمية عند بعض العاجزين تكافئ التسيب والفوضى وتنفي السلوك الحضاري عن المجتمع، إنه ببساطة، في نظر هؤلاء، حتى وإن رفعوا شعار “لا حكم إلا لله” قديما وحديثا، لا معنى لدور العلماء في حياة مجتمعاتهم، ولا معنى للقبول والتواضع والكفاءة والرضا، إن الحاكمية في نظرهم نفي وإلغاء، جمود وحسرة، كل ذلك نتيجة الخلل الرهيب الذي يعانون منه على مستوى الذهنية.

إنك إن سألتهم عمن يدير شؤون المجتمع؟ قالوا: هؤلاء كفار، وإن سألت: كيف نسير وندير شؤون الجماعة أو المجتمع؟ قالوا: بالكتاب والسنة، وإن سألت عن الكتاب والسنة؟ لرأيت ووقفت على العجز قائما ممتثلا بين يديك يسمع ويتكلم. إن موقف هؤلاء من مبدأ الشهادة، لا يختلف عن موقف الذين خرجوا عن طاعة الصحابي الجليل عثمان رضي الله عنه، ذلك أن إنكار هؤلاء وأولئك العاجزين واقع شعوبهم في نطاق انحراف وتسلط بعض حكامهم، لا يختلف عن أسلوب الذين أنكروا على الصحابي الجليل مواقفه، إن قول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه: “إن الله لعله يقمصك قميصا، فإن أرادك أحد على خلعه، فلا تخلعه ـ ثلاث مرات ـ”. لا يعني بأي حال من الأحوال ـ كما يدعي البعض ـ تسلطا أو استبدادا باسم الدين، إنه ببساطة، كان مطلوبا من الخليفة الثالث للمسلمين وقد ولي عليهم، الوقوف بحزم أمام الخارجين عن قانون الدولة، والضرب على أيديهم بقوة، لأن في طرحهم وسلوكهم خطرا على المجتمع كله، هذا من جهة خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان، ومن جهة ثانية فإن موقف الخليفة رضي الله عنه أمام خصومه وتبعا لما جاء في خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام، ليس فيه ما يعبر عن الحكم اللاهوتي في شيء، كما ذهب إلى ذلك كثير من المغرضين، وإنما هو موقف الحاكم القوي الأمين الذي يجب أن يجتهد في إطار شريعة الله قصد الوصول بالمجتمع إلى شط الأمان، هذا ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله، كما أن الدرس الذي ينبغي استخلاصه واعتباره حقيقة تاريخية، اجتماعية وثقافية، هو أن أي مجتمع إنساني يمكن أن يواجه متاعب من بعض أبنائه أو المنتمين إليه، خصوصا منهم العاجزين فكريا، إلى درجة إلحاق الضرر به.

والنتيجة أو الحقيقة الثانية هي: أنه ليس لهؤلاء الأبناء أو المنتمين على اختلاف مشاربهم، حق التولية والخلع، لا لشيء سوى لأن التولية والخلع محكومان، أو يجب أن يكونا محكومين بضوابط السلوك الحضاري للمجتمع أو الأمة، وهذا بطبيعة الحال لا ينفي بأي حال من الأحوال المعارضة أو عملية النصح، لأن مثل هذا النشاط لا يخرج عن دائرة نشاط الحاكم والمحكوم المؤطر والمنظم في نطاق السلوك الحضاري للمجتمع على سبيل الإلزام، وما دام الأمر كذلك، فغير مقبول من الحكام على اختلاف مشاربهم، تبرير أخطائهم وإخفاقاتهم وانحراف بعض مديري شؤون المجتمع ممن هم تحت إشرافهم ومسؤوليتهم، بما يصدر عن الخارجين عن الطاعة، ذلك أن مصدر الانحراف ليس هو هؤلاء الخارجين أصلا، وإنما المصدر هو انحراف الحاكم عن مسار السلوك الحضاري في علاقته بالمحكومين أساسا، إن مثل هذا الانحراف هو التربة الخصبة التي تنتشر وتترعرع فيها الأفكار الميتة والقاتلة على حد سواء، فيتغذى منها ويتبناها الكثيرون الذين يتحولون إلى أداة هدم، تستهدف المجتمع ذاته، مما يستلزم ويقتضي زيادة في معاناة الشعوب وآلامها وقلقها.

إن الحاكمية تقتضي من الإنسان، المؤمن بالدرجة الأولى، عدم مخالفة أوامر الله عز وجل ونواهيه والاهتداء بسنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، على أن الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، على مستوى المجتمع والدولة، قصد إيجاد الأجوبة الكافية والشافية لمسائل يمكن أن تكون محل اختلاف، هي مهمة عظيمة وخطيرة، لا يتصدى لها فرد بعينه، أو جماعة بعينها، إنها مهمة مؤسسة يتولاها العلماء على مستوى كل مجتمع، أو أمة، إن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يحوزون عنصري القبول والتواضع، ومن ثمة فهم المؤهلون للرجوع للكتاب والسنة دون غيرهم ضمن دائرة تفاعل عقل الإنسان المنفعل بالتاريخ والواقع والتحديات مع الهدي الأزلي الخالد لاستخلاص ما يمكن استخلاصه من أجوبة وحلول.

إن مثل هذه المهمة العظيمة، لا يقوى عليها الزاعمون وإن زعموا من الغوغاء أمثال من خرجوا عن طاعة سيدنا عثمان وبعده عن طاعة الإمام علي عليهما سلام الله. والحقيقة التاريخية التي لم تسجل هي أن الذين خرجوا وأحرجوا سيدنا عثمان بغير وجه حق تسببوا لأمة التوحيد في كثير من المتاعب والفتن، وهم الذين أحرجوا الإمام علي ووضعوه في موقف مزلزل أمام خصوم أمة التوحيد، والدليل على ذلك الفتنة التي ألقت بضلالها على المؤمنين جميعا وكانت مقدمة المقدمات التي مهدت لولادة الاستبداد من رحم الفتنة ذاتها.

وإن مثل هؤلاء الذين خرجوا عن مركز دوران أمة التوحيد في وقتها تشكلت لهم صور خلال العصور المتعاقبة، ونستطيع القول أنهم صنف لا يخلو منه عصر، والحاكمية منهم براء كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب عليهما السلام.

لقد استخدموا “الحاكمية” أسوأ استخدام، أفرغوها من مضمونها وقدموها للناس جسدا بلا روح من خلال جهلهم بطبيعة الأمانة الملقاة على عاتق الإنسان، الأمانة التي تستلزم منه القيام بدور القيادة في هذه الأرض قبولا وتواضعا، لا استعلاء واستبدادا، ودور الشهادة في دنيا الناس إيمانا وامتثالا.

إن قيمة القيادة تكمن في طبيعة الإنسان الرسالي فهما وممارسة، الانسان الذي يجمع بين الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية، سواء في دائرة المهام والواجبات أو في مواجهة المتاعب والتحديات، مما ينفي تصور مجتمع خال من الانحراف والفساد، إن الإنسان الرسالي مطالب بعملية الإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كمهمة عظيمة وملازمة، أساسها ومنحاها طبيعة صناعة الإنسان.

أما أصحاب النفوس المريضة، الذين لا يخلو منهم عصر، فهم من فصيلة الطفيليات البشرية التي تتغذى من الصراعات المصطنعة داخل هذا المجتمع أو ذاك، إنهم لا ينطلقون من داخل عقولهم بقدر ما ينطلقون من داخل عقول غيرهم.

إنني لا أجد ضرورة أو حاجة للإطالة في الحديث عنهم، خاصة أن سلوكهم يعبر عن الحالة النفسية التي لازمتهم وانعكست عبر الزمن على مناعتهم الروحية والفكرية على حد سواء. وحتى تتضح أهمية عالم الأفكار في حياة الإنسانية، ومدى الحاجة إلى تلازم كل من الطمأنينة الإيمانية واليقظة الذهنية وضرورة الانسجام بينهما يمكن أن نقرأ ونتأمل ونتدبر ما يلي: “فهناك فئات كثيرة من المسلمين اليوم، تتجاذبها تيارات ومفاهيم متباينة ذاتية مستحضرة أو مسترجعة من ميراثنا الحضاري العام، ومستوردة من التراث الغربي القديم والمعاصر، بحكم تخلفنا الروحي والأخلاقي والعقدي والفكري والعمراني العام… وظهور الغرب علينا في جوانب حضارية واسعة تقدمه التنظيمي والتكنولوجي المدهش.” (1)

وأيضا: “إن أحداثا جساما تمر في صمت من غير دراسة ولا تحليل دقيق لأسبابها وتمحيصها، لدليل على أن أمراض المسلمين لا تزال تتمتع بحصانة تمنعهم من مواجهتها وهذا الموقف غير الناضج يكون سببا في وقوعنا في أخطاء لم نكن نريدها البتة كأن نتبنى فكر الخوارج دون أن نقصد إلى ذلك ومن غير أن يخطر لنا ذلك ببال. والغموض الذي يحيط بهذه الموضوعات أدى إلى الاختلاط في أذهان قادة الرأي والفكر في ديار الإسلام، مما جعل الأزمة مأساوية وسوف يظهر واضحا للأجيال القادمة ما كنا نعانيه من عجز عن وضع الأمور في مواضعها، وكيف كان يختلط علينا موضوع الدفاع عن العرض والمال الوارد في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ’من قتل دون ماله فهو شهيد‘ وبين قوله صلى الله عليه وسلم في موضوع الفتن أن نكسر سيوفنا وأن نكون كخير ابني آدم وأن نلقي ثوبنا على وجوهنا إن خشينا أن يبهرنا شعاع السيف، وما دامت هذه الأمور مختلطة علينا وما دمنا نقف في صمت مطبق من دون أن نسلط شعاع الفكر الذي يزيل الغموض والاختلاط، فلن نرقب شفاء عاجلا، إن البيان والبينات هو ما تحتاج إليه الأزمة لحلها.. إن ما هو صعب الآن سيسهل تجاوزه حين تتناول العقول المتفتحة هذه المشكلات بالبحث والتحليل فنجد الخلاص من عقدنا كأنما نشطنا من عقال.” (2)

إن الأفكار الميتة والأفكار القاتلة التي تتوارث بذورها جيلا بعد جيل، تكاد تلازم الإنسان وتلاحقه في منشطه وفي سكونه، إلا أن جوهر المشكلة هو عدم الاعتبار، ولعل مرد ذلك هو عدم القراءة أو الاستئنافية في القراءة، وذلك هو مصدر الغموض الذي يحيط بموضوعاتنا كلها ويعيدنا إلى البدايات فكأننا لم نقرأ من قبل.

إن القراءة هي طريقنا إلى الوعي وهي طريقنا إلى السمع وهي طريقنا إلى الحضور وهي طريقنا إلى الشهادة، وعدمها أو الإساءة إليها يعيد الأحداث الجسام ويستنسخها.

إن البيان والبينات ليس سوى تلك القراءة التي أمرنا بها الله وأهملناها، فلا وعي ولا سمع ولا حضور ولا شهادة، إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، القراءة هي سبيلنا إلى النجاة وهي سبيلنا إلى الخلاص من عقدنا كأنما نشطنا من عقال. إن الأزمات، إن لم تحل في وقتها ستعطل حركة المجتمع وتزيد من قلقه وآلامه، خصوصا إذا لم نتعامل معها من داخل عقولنا على أساس من البيان والبينات، قراءة، وعيا، سمعا وحضورا وشهادة. إن مثل هذه الأزمات الجاثمة على عقولنا وقلوبنا، المعطلة لمنشطنا، يمكن أن تتغذى من بعضها، فتتوالد وتتركب وتتشابك خيوطها مع خيوط عقدنا، فيسهل على أقليات السحق والهدم تفعيل الصراعات المصطنعة (فتنة بعد فتنة)، وترتيبها في سلم أولوياتنا، فيزيد عمر تبعيتنا ونبقى على هامش التاريخ رقما لا قيمة له داخل مجموعة الأرقام الفاعلة ، وكأنني عند هذا الحد اسمع صوتا ينبعث من أعماق أمهاتنا وفلذات أكبادنا تردده حناجر شيوخ ركع، ترتعش له القلوب وتهتز له الضمائر لعلنا ننهض من غفوتنا، فنقرأ قراءة حضور واستحضار وسمع وقبول وتواضع وشهادة، فنستمسك ونسلم مقاليد القيادة في هدوء وطمأنينة إلى أهل القوة والأمانة، تسليم وجوب وتكليف لا انتزاع حق وتشريف، حتى يهدأ بال الجميع وتنسجم المقومات من جديد، فتحدث عملية التركيب بالقدر الذي يعيدنا إلى حلبة التاريخ، فنؤدي مهامنا وواجباتنا، فنسعد بين الإنسانية وتسعد هي بنا، فنكون بحق أمة وسطا تتحقق شهادتنا وننال أجرنا كاملا غير منقوص.

بشير جاب الخير
7 ماي 2016

الإحالات:

(1) الطيب برغوث، الخطاب الإسلامي المعاصر وموقف المسلمين منه، دار الامتياز ـ وادي الزناتي ـ قالمة ـ الجزائر، 1988، ص 4.
(2) جودت سعيد ” مذهب ابن آدم الأول أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي، المطبعة العربية ـ 7 نهج طالبي أحمد ـ غرداية ـ الجزائر ـ 1990، ص 11.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version