سؤال: ما العجز؟ وما هي مظاهره؟

جواب: يولد المولود على الفطرة، إنها خلق الإنسان، فلا الجبال ولا الأرض ولا السماوات سوف تسأل عن الخلق، إن الإنسان هو وحده المسؤول، وإن الأمانة التي رضي ابن آدم حملها، أساسها هذا المولود، به تبدأ وبه تنتهي، يخلق الإنسان ثم يصنع بعد خلقه، إن الخالق هو الله، والصانع هو الإنسان نفسه، فكما أن لكل صناعة مختصين، فإن من يضع أسس صناعة الإنسان هو خالقه، أما من ينجز هذه الصناعة فهو الإنسان ذاته، إن أقامها وأحسنها استقامت الحياة بجميع عناصرها، وإن تخلى عنها أو أساء تقديرها اختلّت جميع فضاءاتها، إن الأبوة درجات، وأعلاها مرتبةً أبوة النخبة التي يهتدي بنورها الأفراد والمجتمعات، إن تهويد المولود أو تنصيره او تمجيسه يدخل في إطار هذه الصناعة وينضوي تحت سقف هذه الأبوة، فالتهويد من صنع اليهود والتنصير من صنع النصارى والتمجيس من صنع المجوس، إنه الإنسان الصانع، وليس الله الخالق سبحانه عما يصفون، إنه عمل اليهودي أو النصراني أو المجوسي وليس عمل الإنجيل أو التوراة. إن المولود يحتاج بعد خلقه إلى صناعة وإن أعظم الأمم هي التي تحسن صناعة مواليدها، وهذا هو دون ريب سرّ قول خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم: “تناكحوا تناسلوا تكاثروا إني مباه بكم الأمم يوم القيامة”. فعلى إثر صناعة الإنسان، وتبعا لطبيعتها، تتحدد طبيعة المجتمعات والأمم، ومن ثمة ملامح الحياة كلها، إن الرخاء والأمن والازدهار، أو الفقر والعنف وجميع أوجه الاستياء، مصدرها ومنبعها طبيعة صناعة الإنسان، وأن أيّ تفسير يتجاهل هذا الأساس ليس سوى صورة من صور العجز أو عجز الإنسان في إطار صناعة الإنسان.

أعود متسائلا من جديد: ما المقصود بالعجز؟ فأجيب: إن العجز يفسَّر بعدم القدرة، عدم القدرة على القراءة، عدم القدرة على الفهم، عدم القدرة على الحركة، عدم القدرة على الانجاز.

أو لا تعلم أن أول سورة من سور القرآن الكريم هي سورة “العلق”، وأن أول كلمة بدأت بها هي كلمة “اقرأ”، يقول الله عز وجل: ” اقْرَ‌أْ بِاسْمِ رَ‌بِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَ‌أْ وَرَ‌بُّكَ الْأَكْرَ‌مُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿5﴾ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿6﴾ أَن رَّ‌آهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿7﴾ إِنَّ إِلَىٰ رَ‌بِّكَ الرُّ‌جْعَىٰ ﴿8﴾ أَرَ‌أَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ ﴿9﴾ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ ﴿10﴾ أَرَ‌أَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ ﴿11﴾ أَوْ أَمَرَ‌ بِالتَّقْوَىٰ ﴿12﴾ أَرَ‌أَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿13﴾ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّـهَ يَرَ‌ىٰ ﴿14﴾ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ ﴿15﴾ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴿16﴾ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴿17﴾ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ﴿18﴾ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِ‌ب ﴿19﴾ “.

إنّ عجز المجتمع، أيّ مجتمع، هو عجز الإنسان، وهذا العجز ينعكس على عوالمه عبر الزمن، نتيجة صناعة المواليد من عدمها، إيجابيتها من سلبيتها، فمردّ ذلك كله ومنبعه هو عجز الإنسان عن القراءة وفهم وتقدير قيمة الوقت في واقع الحياة، ومن ثم جهله أو عدم إلمامه بكنه الأمانة التي رضي بحملها.

إنك – دون ريب – توافقني إذا قلت: أن قوة المجتمعات والدول لا تقاس بعدد أفرادها بقدر ما تقاس وتوزن باستراتيجيات ومناهج التربية والتعليم المعتمدة لديها، ونوعية المؤسسات المهتمة بتفعيل ذلك، فعلى سبيل المثال، يمكن أن نسأل أنفسنا، تحديدًا عن علاقتنا بالقراءة، هل نقرأ؟ وإذا قرأنا، ماذا نقرأ؟ ثم هل بإمكاننا أن نفهم ما نقرأ؟ وإذا فهمنا، هل أسسنا فهمنا وقومناه ووظفناه في حياتنا؟ ناهيك عن أهمية إدراك النخبة لاستراتيجيات القراءة ومناهجها وسننها، إنّ أيّ شعب أو أمة تعاني من التبعية هي أمة عاجزة، وأن من يستهدفها بالتبعية، يستهدفها بالدرجة الأولى في عالم أفكارها، فينعكس عجزها بعد ذلك ويتحدّد في صورة ما تعيشه من فوضى وقلق وأزمات نفسية، اجتماعية، سياسية واقتصادية، وصولًا إلى عدم قدرتها على فهم مشكلاتها، ناهيك عن قدرتها على حلّها مكتفية بما تحصل عليه من مهدئات لأوجاعها، ليزداد قلقها يوما بعد يوم، وتتأكد تبعيتها    لأصحاب الفعل في عالمنا الغارق في أوحال الفلسفة البراغماتية وليدة الفلسفة اليهودية الماكرة. إنّ الأمم التي تعرف قدرها هي التي تقرأ وتتدبّر، يقرأون ويتدبّرون في حياة الإنسان كخلق ثم كصناعة إنسانية، يقرأون تاريخهم وتاريخ الآخرين، ويبنون على إثر ذلك مجتمعاتهم ودولهم، فهم لا يتعبون من القراءة، لأنها مصدر راحتهم ومصدر إلهامهم، أما نحن فلم تنصلح قراءتنا ومن ثم لن تنصلح حياتنا كما يمكن أن لن تنصلح آخرتنا.

لقد تساءلنا عن ماهية العجز، وحاولنا، ولو يسيرًا تقريب الأفهام وكشف اللثام، فهل يمكننا تسليط قليل من الضوء، الذي لن يرقى حتمًا إلى مستوى النور، على بعض مظاهر هذا العجز؟

مظاهر العجز

إن مظاهر العجز في حياتنا، أفرادًا، جماعات، شعوبًا ومجتمعات، كثيرة. إن موروثنا الثقافي، كما هو الموروث الثقافي لأيّ أمة، مليء بمظاهر العجز، بداية بخطابنا، كترديد بعض العبارات دون أدنى قدرة أو كفاءة على إدراك مدلولها وأبعادها، مثل قولنا: “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”. إننا نردد هذه العبارة كثيرًا، غير أن قولنا هذا لا يتجاوز حدود العبارة وألفاظها، مما يؤكد فعلا عجزنا، إن المشكلة لا تكمن في صلاحية الإسلام، وهذا يدركه اليهود والمستشرقون على حدّ سواء، غير أن المشكلة بالنسبة إلينا هي الزمان والمكان الذي نعنيه ونقصده، إن السؤال المنهجي الجدير بالطرح، هو عن أيّ زمان ومكان نتحدث؟ إننا – دون ريب – نغفل زماننا ومكاننا، والحقيقة التي ينبغي أن نتجرع مرارتها، هي هل أصلحنا، نحن، مكاننا وزماننا بالإسلام؟ أم أن الذي نعنيه هو زمان ومكان غيرنا، كما أن نظرتنا إلى الأقوام والشعوب الأخرى التي لا تدين بدين الإسلام، هي نظرة عدائية في جوهرها مما انعكس على تفكيرنا وسائر سلوكاتنا ومعاملاتنا، مما أدى إلى حرمان كثير من الناس من الاهتداء بنور الإسلام، ناهيك عن طغيان أصحاب هذا التصور وهذه الأفعال، خارج نطاق القراءة والهدي، حيث انسحبت نظرتهم على المسلمين أنفسهم، خصوصا المستضعفين منهم فالمطلوب من النخب المهتدية في عالم اليوم تجاوز تصورات وأفعال الذين طغوا، والوصول إلى نور الهدي الأزلي الخالد والاحتكام إلى تعاليمه وتوجيهاته وقوانينه من خلال القراءة التي أمرنا بها الله وأكد عليها خاتم أنبيائه ورسله، إننا حصرنا خطابنا كله في دائرة الكلمة، الكلمة التي لا تقوم على منهج، التي لا تعكس أي مسؤولية فردية أو جماعية، الكلمة التي لا تعبر عن تطلعات الناس المشروعة، الكلمة التي تزيد الإنسان همًّا وقلقًا وحيرة، إن خطابنا في طريقه إلى الانحسار أكثر في دائرة الكلمة المبهمة، وإن عبر فإنما يعبر عن حقيقة عجزنا وحسرتنا.

ومن مظاهر العجز أيضا، مفهومنا للدعاء، وعلاقتنا به، مفهوما يعكس، في غالب الأحيان، صورة واحدة، هي أننا لا ننتظر بعد ترديد عبارات السؤال سوى الاستجابة، وكأن مصدر الاستجابة لا علاقة له بكيان الإنسان وسلوكه في الحياة، إن الإخلاص في الدعاء تتولد عنه حالة وجدانية تحفزنا على الصبر عند المصيبة لفقدان عزيز، مما يستلزم التسليم سلوكًا وقولًا نعبر عن ذلك بقولنا: “إنا لله وإنا إليه راجعون”، دون أن يمنعنا ذلك من مداواة المريض والأخذ بالأسباب قبل الوفاة، ونفس الشيء حين نصاب في أموالنا، لسبب أو لآخر حتى إذا كان خارجًا عن إرادتنا أحيانًا، إن فهمنا لمقاصد القراءة وإخلاصنا في الدعاء، تتولد عنه حالة وجدانية تهوّن علينا ما حلّ بنا، وتمدّنا بقوة معنوية تخفف من حسرتنا وآلامنا، مما يقتضي أيضا التسليم فعلًا وقولًا، نعبّر عن ذلك بقولنا: “قدر الله وما شاء فعل”، دون أن يمنعنا ذلك أو يقعسنا عن السعي لكسب مال آخر يدخل على نفوسنا المسرّة والطمأنينة، كما أنّ الإخلاص في الدعاء تتولد عنه حالة وجدانية وقوة معنوية تحفزنا على حسن الإعداد وحسن الأداء في عالم البناء والإنجاز، فتأتي النتائج تعبيرًا صادقًا عن حقيقة هذا الإحسان.

إن نظرتنا القاصرة للدعاء، لا تعبر سوى عن حقيقة العجز الذي نعانيه على مستوى ذهنياتنا، من خلال قصور علاقتنا مع القراءة ومع الهدي الأزلي الخالد، بعيدًا عن الفهم السنني للقرآن والسنة النبوية العطرة، نقرأ حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تضمن دعاءً، كثيرًا ما نردّده ويردّده أئمتنا كل يوم جمعة على وجه الخصوص: “اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر”. نقف كثيرًا عند المعنى اللغوي، كما نقف عند بعض العناصر الجزئية، ونردّد هذا كثيرًا على مسامع الناس بنبرة تزيدهم غفلة على غفلة، بعيدًا عن التفسير السنني السليم الذي يقتضي استخراج معالم الإحسان والإصلاح وكلياته ومناهجه التي تضمنها حديث ودعاء خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم. إنّ الإحسان يدفعنا إلى الفهم الصحيح، ومن ثم إلى العمل الدؤوب عل إصلاح أنفسنا وحالنا وتعبيد طريق الآخرين، والتأكيد على أنّ: من لم ينصلح دينه يستحيل أن تنصلح حياته، ومن لم تنصلح حياته يستحيل أن تنصلح آخرته.

إن القراءة والفهم السنني للحديث والدعاء النبوي الشريف، وحده، هو الذي يرسم لنا المسار الصحيح الذي يقف معه الإنسان موقف الحارس القوي الأمين، وما لم تتفق حركته مع كليات هذا المسار ومناهجه، لا ننتظر أن ينصلح فكره وتنصلح بصيرته، وسوف ينعكس ذلك على قراءته في عالم الأنفس والآفاق، فيمرّ أمام آيات القرآن الكريم مرورًا، لا يطعم جائعا ولا يؤمن خائفا. ومن مظاهر العجز كذلك في حياتنا، التقليد الأعمى دون تمحيص لما يمكن أن نقلد غيرنا فيه وتلك هي حقيقة القابلية السلبية التي تطبع شخصيتنا بعدة ألوان، يصعب على المرء فهم كثير مما يصدر عنها من سلوكات، الأمر الذي يرفع من درجة قلق المجتمع ومن حدة انحرافه. إنّ مثل هذا العجز يولّد في نفسية الفرد والجماعة إحساسًا بالدونية، ومن ثمة غموضًا رهيبًا على مستوى الذهنية، وجهلًا وعدم إدراك للقدرات الذاتية، مما يؤثر سلبًا على مداركنا، فيتولّد لدينا كثير من الغباء الاجتماعي، فلا نشعر إلا بما يشعر به غيرنا، تلك هي الحالة التي تتجسد فيها القابلية السلبية، يتجلى ذلك في مدى انبهارنا، أفرادًا، جماعات، شعوبًا، ومجتمعات، بما يقدّمه لنا الآخرون من مشاريع جاهزة ومعلبة في مجال التربية والتعليم، وحتى في مجال تكنولوجيا الاقتصاد، وغيرها من المجالات والفضاءات الأخرى، الأمر الذي يطبع حياتنا، إنْ في عالم الأفكار، وإنْ في عالم الممارسات، بطابع ردود الأفعال الذي لا يعطي سوى نتائج مبتورة، تنمّي تبعيتنا وتحطّم عناصر القوة فينا إلى الحد الذي يستهدف مناعتنا الفكرية والروحية على حد سواء.

وفي هذا المقام، لا مجال لحصر جميع أوجه العجز ومظاهره ومختلف صوره، ذلك أن الموضوع موضوع بحث، يمكن أن يستغرق حياة أجيال ومزيدًا من القراءة في عالم الأنفس والآفاق وعلاقة ذلك بنهضة الأمم وريادتها الحضارية، ولابأس، بعد استسماح القارئ الكريم، من التطرّق إلى عناصر، أراها ذات أهمية لما لذلك من علاقة بحياتنا، أولها قضية “الغلوّ والتطرّف” التي أرجعها أساسا إلى الأمية الفكرية والغباء الاجتماعي في نطاق القابلية للاستعمار، أخطر مظاهرها، تهميش النخبة وتغييب دورها، وما تبع عملية التغييب من خلط للمفاهيم وطمس للقيم وغمط للحقوق وظلم للتاريخ، واستهتار بالواجبات، واستعلاء على قدرات المجتمع، واستصغار للتحديات التي يمكن أن تعترض سبيله، وما يصحب ذلك من صراعات مصطنعة، وأقول مصطنعة، لأنّ الصراع الطبيعي يمكن أن يحدث بين أهل دين سماوي وبين مجموعة من اللادينيين ممن يريدون بغيرهم شرًّا، أو يحدث بين غزاة محتلين ظالمين وبين شعب يبتغي الحرية، أما أن يتولّد الصراع بين أبناء المجتمع الواحد أو بين أبناء الأمّة الواحدة، فهو صراع مصطنع، أي أنّ مادته الأولية، أو تربته، هي من صنيع الدوائر الفكرية الفلسفية المخبرية الماكرة، التي هيّأت ظروف الصراع واستثمرت نتائج الغلوّ والتطرّف. وللتبسيط أكثر، فإنّ مبرّرات الصراع المصطنع لا مكان لها إلا في عقول مدبّريه، أما مبرّرات الصراع الطبيعي فهي مبرّرات ما بين النور والجهل، أو بين الحرية والاستبداد من اختلاف، وإن أبسط شواهد الصراع المصطنع غياب معايير العلم ومقاييسه في حياتنا، أفرادًا، جماعات، شعوبًا ومجتمعات، وما يرتبط بذلك من تهميش للعلماء والكفاءات، وتبرير لسلوكات تستهدف ضمير المجتمع وجهازه العصبي ورحمه الثقافي على حد سواء، كما أنّ من مظاهر العجز داخل المجتمع الواحد، عدم التمييز بين السلطة والدولة، من خلال ما تعكسه سلوكات الفرد والجماعة، فعلى سبيل المثال، من لا يرضى على السلطة لسبب أو لآخر تجده يسعى للنيل من الدولة ومن هيبتها، التي هي هيبة الشعب بالدرجة الأولى، حتى أن بعض العبارات والأوصاف المستعملة، مثل: الدولة القمعية أو الدولة القهرية، لا تعبّر سوى عن الخلط الحاصل بين مفهومي السلطة والدولة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فهي ليست سوى أثرا من آثار الصراعات المصطنعة ونتائجها. كما أن الفرد الذي يبرر اختلاساته للمال العام وسوء تسييره، وما شابه ذلك من سلوكات، كون المال مال الدولة، ليس سوى نتيجة وثمرة من ثمار الصراع المصطنع، أو مظهرا من مظاهر عجز المجتمع، ليس إلا.

واعلم أن الحضارة السوية ليست بأي حال من الأحوال حضارة صراع، إن غايتها إخراج الإنسان وتحريره من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد “لا إله ولا معبود بحق إلا الله”، كما أنّ دائرتها تتسع للجميع (دائرة لا إكراه في الدين)، و دائرة الحرية والمساواة، والعدل والإخاء، يحكمها عامل النسبية في علاقة الإنسان بها، وذلك هو سرّ حاجة الإنسان للقوانين ومن يقوم على تنفيذها، ودائرتها “يسع الله بالسلطان ما لا يسع بالقرآن” قصد تحقيق الحد الإيجابي وهو الحد الوسط (لا إفراط و لا تفريط)، وهي الصورة المثلى التي يمكن أن يكون عليها المجتمع أو الأمة، أما غيرها من “الحضارات”، أو المدنيات فسرعان ما تنكشف على مظهر من مظاهر الصراع، كنفي الحرية في مجال معيّن مثل حرية التملّك أو حرية التعبير، أو معادات أحكام السماء، أو إطلاق عنان الغرائز والرغبات على حساب حرية الآخرين وراحتهم وطمأنينتهم، الأمر الذي ينفي الحد الإيجابي، وهو الحد الفاصل بين ما لنا وما للآخرين، وما علينا وما عليهم: “… أَرَ‌أَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ، أَرَ‌أَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَىٰ  أَوْ أَمَرَ‌ بِالتَّقْوَىٰ، أَرَ‌أَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّـهَ يَرَ‌ىٰ، كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ، فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ، كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِ‌ب”.

كما أنّ زيف مثل هذه الحضارات أو المدنيات، وقصورها، قديمًا وحديثًا، يظهر جليًّا من حين لآخر في تفعيل الصراع بين الرجل والمرأة، وهو صراع مصطنع بطبيعة الحال، إنّ المرأة ليست أكبر ولا أصغر شأنا ولا هي مساوية للرجل، إنها القطب الثاني للإنسانية، وفق ما ذهب إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله، على ما بين الرجل والمرأة من فروق في إطارها الكفائي والوظيفي، فاعلم أنّ حال من يتوهّم، أو يحاول أن يوهم غيره بإلزامية هذا الصراع فكرة وممارسة، هو كمن يحاول إقناعنا عبثًا، أنّ الشمس هي القمر، أو أنّ الأرض يمكن أن تقوم بأحد قطبيها فقط، لا بهما معا، إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل، لا علاقة تضاد، وأن ما يسمى بالتنظيمات النسوية، على مختلف مشاربها، ليست سوى مظهرًا ونتيجة من نتائج الصراع، أو الصراعات المصطنعة، كما أنّ من يدعو النساء إلى الاتحاد هو خير معبّر عن مثل هذا الصراع.

ولعل المتتبّع لتاريخ الشعوب والمجتمعات والدول، يدرك أن كثيرًا من التنظيمات العمالية، كانت في جوهرها ردود أفعال معبرة عن اتساع دائرة الطغيان والمظالم المتولّدة عن طبيعة الصراع ذاته داخل المجتمع الواحد أو الأمة الواحدة، مثل هذا الصراع الذي حال دون تأدية مؤسسات الدولة – إن وجدت – لمهامها قصد حماية المظلومين والمستضعفين، كما أنّ ما عاشته وتعيشه الإنسانية داخل كثير من المجتمعات، على المستوى الأمني، سواء الأمن من الجوع أو الأمن من الخوف، لا يخرج عن دائرة مثل هذا الصراع، وحتى الشعارات التي ترفع بين الحين والآخر، مثل شعار “الاشتراكية الأممية”، أو ما يطلقون عليه عبارة “الطريق الثالث”، هو طريق بلا عنوان، أو طريق، غير معلومة بدايته من نهايته، لأنّ مبرراته لا توجد سوى داخل عقول مدبّريه ممن يريدون بغيرهم شرًا، إنه بكل صدق تكرار لما قبله، مما ثبت للإنسانية فشله. ضف إلى ذلك شعارات أخرى، جد محتشمة، لا تعكس جميعها أي شعاع من نور، ولا تعبّر سوى عن قلق الإنسان وحيرته، وبحثه المتواصل، وحاجته إلى سبيل يصل به إلى شط الأمان، خاصة أن الرغبة في الوصول إلى هذا الشط مطلب من مطالب الإنسانية على مختلف مشاربها، حتى وإن اختلفت درجة الوعي بين حكامها ومحكوميها، ذلك أن من يزهق الأرواح، أو يتسبب في زهقها بغير حق، سواء عن طريق التشريد أو التجويع أو التقتيل أو التخويف والاستبداد، لا يعبّر ولا يستجيب من قريب أو من بعيد إلى هذه المطالب.

وأخلص القول: يمكن أن نستشف ملامح مجتمع إنساني صالح في منأى عن تأثيرات الصراعات المصطنعة، إذا أخضعنا أفكارنا وحركاتنا وأطرنا المؤسساتية إن وجدت كضرورة من ضرورات الإقلاع الحضاري، إلى معلم من نوع ومن طبيعة خاصة، تتحدّد على إثره أسس الدولة وشكلها وغاياتها، ذلك ما سنحاول الاقتراب منه، ولو جزئيا، من خلال مباحث مساهماتنا القادمة إن شاء الله.

بشير جاب الخير
26 أفريل 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version