لم يكد قلمي يتنحّى جانبا، عن دواة الحبر، ليسترجع أنفاسًا لفحتها حرّ كلمات تسعّرت في دفتر ذكريات الأحزان وأحزان الذكريات حتّى عاودت قسنطينة تداعب أشواقه إليها.. تهمس في خفوت أن ائتنا فثمّة جرح ينزف وعيون تنزّ مكان الدمع دمًا..

ها هو يلملم شتات أنفاسه.. يغادر المدينة التي حوّلها الجنرال عبد العزيز مجاهد ذات صيف، ذات شتاء، ذات ربيع، ذات خريف إلى مدينة نزع الحياة وزرع الممات..

في طريقه إليها صورة العلامة عبد الحميد بن باديس ماثلة أمامه ينظر إليه وهو في صحن مسجد – سيدي قموش – بين أحبّائه وتلامذته.. ينظر وعينه قطرات حبر تسأل: ماذا فعلوا بقسنطينة يا سيدي؟ لكنّ الإمام ليس هنا كي يجيب.. لكنّه أجاب “واقلعْ جذورَ الخائنين * فمنهم كلُّ العطبْ”..

لم أشأْ أن أترك قلمي بلا أنيس، بلا رفيق، وهو يعبر بوّابة الزمن، فحاجته إليّ كما حاجتي إليه..

عبرنا بوّابة الزمن.. عقارب الزمن رست على الساعة العاشرة وخمس وأربعين دقيقة.. مفكّرة الأيام مازالت كما تركوها كما غادروها لم يمسسها سوء، إنّنا في اليوم الثاني والعشرين من شهر جوان سنة 95.. كان يوم الإثنين..

بيوتات قسنطينة أسبلت أجفانها بعدما أرخى الليل سدوله فوقها.. لكنّ ثمّة من لم ينم لأنّ هناك كبد حرّى تتلوّى من الألم.. قلب نعيمة معها يحنو ويعطف.. يد أبو بكر تبسط كفّ الحنان فوق جبين خولة.. وفي الغرفة المجاورة كان حسني يتقلّب في فراشه ومثله كانت ريمة.. فبينهما وبين إجراء اختبارات شهادة التعليم المتوسط مسافة ليل قصير.. عدّة الاختبار كانت جاهزة، حتّى ملابس الصباح كانت معدّة، ربّما التفت حسني نحو اخته ريمة وسألها: هل تكون المواضيع سهلة؟ وبما تكون هي من سألته: حسني قل لي هل تكون سهلة أسئلة الغد؟ ربما هذا الذي دار بينهما يومها، ساعتها، وقتها، لا أحد يعلم.. ربمّا التي تدري هي أمّهم نعيمة، نعيمة فرقاني زوج – أبو بكر فرقاني – فذهابها وإيابها وهي تحمل بين أحضانها خولة جعلتها تسمع ما يدور من حديث بين حسني وريمة.. لكنّ الذي لم تسمعه ولم تعلمه السيّدة نعيمة حتّى رأتها وجهًا لوجه، أنّ الحيّ الذي كانت تقيم فيه كان وقتما كانت تخفّف من أوجاع خولة رفقة بعلها، كان يختنق.. فالمدرّعات وناقلات الجند لم تترك للحيّ متنفّسًا..

كان يختنق في صمت، لا صوت يعلو فوق صوت المحرّكات وقرع النعال الغليظة وهي تقترب وتقترب وتقرب تجاه بيت عائلة فرقاني المكوّن من ثلاثة طوابق، كلّ طابق ضمّ أهلين السيد – أبو بكر فرقاني – ختيار العائلة كما تسميه زوجه وحِبّه نعيمة، فهو مدير شؤون العائلة بعد وفاة الأب، والد أبو بكر وإخوته.. والدة أبو بكر تلك العجوز المسنّة في حضن أولادها وعلى عين أبو بكر، يسهر يقوم بتوجيهاته لإخوته ولنسوة البيت على خدمتها.. لم يعد يفصل بين هدأة البيت والهرج والمرج سوى باب حديدي – أحسبه حديدي -، وتمتدّ إليه يد الغلظة وتمزّق صمت المكان.. تهرع نعيمة نحو الباب.. عرفت من خلف الباب.. هم كثر.. فتحت.. قبالتها رشّاشات وبنادق ووجوه سافرة وملثّمة.. افتحي الباب.. تنحيْ جانبا.. سننسف البيت بمن فيه.. وبين رعشة الخوف وألم فراق خولة بوجعها وفراق ريمة وحسني وخليدة التي ما صدّقت أنّها سلمت من صداع وقلق وخوف اجتياز امتحان شهادة التعليم المتوسط، فخليدة لم تصل بعد لمرحلة التعليم متوسّط.. كان أبو بكر يستعدّ للنزول.. ليظهر أمام من جاءوا بعد أن حاصروا المكان ليأخذوه.. نزل.. قلب نعيمة يرتعد.. قلب أمّه كما كبدها يتفتّت.. كلّ من في ساحة البيت من أهل البيت خائف.. نعم خائف.. فحكايا من سبقوا ومن سيقوا من وسط ذراريهم وأزواجهم وأمّهاتهم سبقت وحطّت قبلُ في الدّار، في الحيّ، في المدينة، في الوطن..

لن أكمل المعاناة.. لن أذكر ماذا قالوا للسيّدة نعيمة.. ماذا قالوا للسيّد أبو بكر قبل أن يأخذوه.. قبل أنّ يغيّبوه بعد أن غيّبوا رأسه داخل كيس.. ولا حتّى كيف استقبل تلامذته خبر اعتقال أستاذهم، أستاذ مادة الاجتماعيات.. ولا حتّى كذلك كيف قضت عمرها والدته العجوز بعد فراقه.. لأنّكم ستعرفون كلّ ذلك وأنتم تشاهدونها وتستمعون لها صوتًا وصورة..

غادرنا قسنطينة.. حملنا صورتها.. غرسنا حبّها زنبقة في فؤادنا على أمل العودة، على أمل اللقاء.. ودّعناها ووتر العشق لها لأهلها يغنّي أغانيها:

بالله يا حمامي أرسل معاك كتاب

لمن يهوى غرامي خلفني في التهاب
اقرا لهم سلامي واعرف منهم جواب
احبابي فارقوني عنهم بكت عيوني
ما كانوا يعرفوني ونسو مودتي
لو كانوا يعرفوني ما نكروا عشرتي
لو أنصف الحبايب ما كانوا هاجروني
لكن جرت غرايب يا أهل الهوى اعذروني
جسمي نحيل وتاعب والقلب ما صبر
احبابي فارقوني عنهم بكت عيوني
خلوني مع حمامي كيف قدر الحكيم
لمن يهوى غرامي في جنة النعيم
اقرا لهم سلامي بالله يا نسيم
احبابي فارقوني عنهم بكت عيوني

حكيم قاسم
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
28 فبراير 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version