يقول المثل الصيني، مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، وعملا بهذه الحكمة، أطرح سؤال، أو بالأحرى تساؤل، هل بوسع المواطن أن يؤثر في مداخل شركة دجيزي من خلال حملة مقاطعة، ويجعل من ذلك درسا ورسالة ردع لكل الفاسدين، وعلى رأسهم السلطة القائمة؟ طبعا قد يسأل البعض ما علاقة هذا بذلك، أو ربما حتى قد يرى البعض أن مثل هذا التصور ضرب من ضروب الخيال وأحلام اليقظة، ورغم أن لمثل هذا الاعتراض ما يبرره، إلا أنه من الناحية العملية، ليس بوسعنا الحكم على أي بمبادرة، بشكل موضوعي، عن فشلها أو نجاحها، ما لم نضع هذه المبادرات على المحك، ونشحذ لها الهمم والطاقات لإنجاحها. هذه المقاربة أطرحها فقط للتنبيه أن الفشل أو النجاح قضية ذهنية قبل أن تكون عملية، وكل مبادرة قبل أن تتجسد في الواقع، لا بد أن ترسخ بذورها في العقول وما لم يتحقق ذلك، لن يرى أي مشروع تغيري أو إصلاحي النور، وخير ما يعزز هذه القناعة قوله سبحانه وتعالى في سورة الرعد: “إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

أعود لما أصبح يعرف بفضيحة دجيزي، لولا الإعلام البديل، ما كان أحد ليسمع عنها، وعن مديريها الصهيوني الذي يموّل الاستيطان في الأراضي الفلسطينية بأموال الجزائريين، بفضل الإعلام البديل ولّى ذلك الزمن الذي عمدت فيه الأنظمة المستبدة على كتم أنفاس المواطنين والتستر على فضائحها وجرائمها وفسادها من خلال احتكارها وسائل الإعلام العمومية المموّلة من مال الشعب. أمّا الآن هناك وسائل بديلة، رغم تواضع وسائلها، لا تستطيع الأنظمة الفاشية التحكم فيها، وتمكنّت هذه الوسائل من كسر هذا الاحتكار وإجهاض سياسة المقص التي عمّرت عقودًا.

وكما كان متوقعا أثارت فضيحة دجيزي ردود فعل متباينة، بين مطالب بمقاطعة هذه الشركة، والتنديد بها وبمالكها الروسي ميخائيل فريدمان المعروف بموالاته لإسرائيل وتمويله الاستيطان الإسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، وبين من لا يرى جدوى من المقاطعة، كون أن شركات الاتصالات الأخرى لا تقل إجراما من دجيزي، إلى جانب طرف ثالث يرى في فضيحة دجيزي عملية مفتعلة من جهات خفية ترمي إلى تحقيق مصالحها الاقتصادية البحتة، ولا علاقة لذلك بتمويل الصهاينة. في الواقع، قد يكون الأمر كذلك، لكن هذا لا ينفي أن دجيزي وفريدمان مناصران للصهاينة، حقيقة لم تحاول دجيزي نفيها نظرًا لما يؤكدها ويوثقها بالصوت والصورة، وفضلت الشركة بدل ذلك التركيز على جوانب هامشية خارج هذا السياق، الأمر الذي لا ينقص من شرعية وأخلاقية عملية “مقاطعة” دجيزي، باعتبارها وسيلة حضارية للتعبير عن رفض سياسة الشركة إزاء الظلم الحاصل ضد شعب يرزح تحت احتلال استيطاني غاشم، والكل يعلم أن المقاطعة التجارية أسلوب سلميٌ وراقٍ يصبو إلى جعل دجيزي وغيرها يفكر مليًا قبل استفزاز المواطنين، وهي أيضا رسالة يريد من خلالها المواطن إسماع صوته وفرض إرادته من خلال ممارسة حق من حقوقه، والمقاطعة هي إحدى الوسائل لممارسة حقه، وردع كل من يهينه ويمس من كرامته. ومن خلال هذه التجربة يمكن للمواطن أن يوسّع من نطاق نضاله المتبصر الحضاري، لتمتد دائرته لاحقًا إلى كل ظالم متعسف، سواء كانت شركات أو جهات نافذة ولما لا السلطة اللاشرعية التي صادرت حقه وسيادته عقودًا عدة. الدرس المستخلص من قوة الفعل المواطني، وفعالية غضبه عندما تُترجم على أرض الواقع، كفيلة بأن تجعل الجميع ينصت إليه ويتحسّس جانبه.

مقاطعة دجيزي خطوة مهمة وناجعة، وتشكل فرصة وامتحان، ليس فقط لمعاقبة هذه الشركة بل لاختبار أنفسنا إن كنا حقًا قادرين على التعبير الإيجابي والفعلي عن مواقفنا بدل التخندق المزمِن والمترهل في مربع الشجب، بحجة أن المقاطعة، سلاح عديم الجدوى، ولن يؤثر كثيرًا على هذه الشركات العملاقة، مثلما يعتقد البضع عن جهل أو ما يروّج له البضع الآخر من المثبّطين للفعل التغيري الحقيقي.

مقاطعة دجيزي توجه أكثر من رسالة، أولها أن المواطن قادر على التأثير في الوضع عندما يريد، ثاني رسالة إلى كل الشركات والمؤسسات والدوائر ومختلف الجهات التي دأبت على استفزاز المواطنين معتقدة أن السواد الأعظم في حالة عجز ذهني وحركي لن يُقدموا على أي فعل ذا بال، وثالثها، إلى السلطة، التي سمحت لهذه الشركات بأن تهين المواطن وتأخذ ماله، وفي كثير من الأحيان يملك رجالها حصصًا في هذه الشركات. إذا استطاع المواطنون التأثير في مداخيل دجيزي، فسيشكل ذلك أكبر درس لن تنساه دجيزي أو غيرها، نظرًا لما يعرف عن جبن الشركات وعدم المجازفة بأموالها، وتحقيقًا لذلك لن تتردّد في تغيير مواقفها حفاظًا على مصالحها، المقدّس الوحيد في حسابها.

هذه القضية الجزئية تعيدنا إلى المربع الأصلي، إلى قضيتنا الجوهرية، التغيير، وأهمية تنظيمه في وجه الظلم والفساد، بدل الاكتفاء بالفعل الانفرادي وخلف الأسوار. لماذا الجهر بالفعل التغييري وتنظيمه؟ لذلك تفسير نفسي وتطبيقي، فالجهر بالفعل يحفز الغير على العمل ويقوي عزيمتهم ويعزّز لديهم الشعور بالجماعة المتضامنة، ويظهر لكل فرد منهم أنه ليس وحده من يفكر بضرورة التغيير، وأنهم بتضافر جهودهم مع الغير يمكن لعملهم أن يجني ثماره. لا شك، هناك الآلاف بل الملايين الذين يرفضون الوضع المتهالك السائد، ويرغبون في وضع حد لظلم وتعسف هذه السلطة، لكن كل واحد منهم يعتقد أنه معزول، بلا حول ولا قوة، ومن ثم يرى عدم جدوى “فعله” لكن عندما يرى أن الآلاف من أمثاله، يشاركونه موقفه ورأيه، سيتشجع للمضي قدمًا نحو خطوات أكثر جرأة، ولهذا السبب تحديدًا تستعمل السلطة كل أجهزتها القمعية بعشرات الآلاف لمحاصرة بضع أفراد، مثلما نشاهده في محاصرة أقارب المختطفين، من النساء والشيوخ، وتعنفهم، أو مضايقة البطالين والحقوقيين، وهي تقصد من خلال هذه المعاملة المروّعة زرع الرعب وسط كل من يتعاطف معهم، أو يحدث نفسه بالالتحاق بهم، وتصبو من خلال ذلك ردع وهزم نفسيا كل من يرغب في ترجمة تعاطفه إلى تضامن مع التجمعات المنددة بقهر النظام. لكن ماذا لو وقف الآلاف أو عشرات الآلاف في أماكن شتى ومدن مختلفة في آن واحد، مساندة لكل قضية عادلة ولكل مظلوم؟ بالتأكيد لن تستطيع حينئذ هذه السلطة ولا أجهزتها المختلفة المدججة بالسلاح فعل أي شيء، وهي تدري ذلك، ولا تريد أن تصل إلى هذه المرحلة، لأنها تضطر عندئذ إلى نقطة اللاعودة، بما يذكرنا بخطاب الجنرال عمر سليمان قبيل انهيار مبارك وخطاب بن علي قبل فراره، وكلمته المشهورة “افهمتكم”، لكن بعد فوات الأوان. الأمر إذن بأيدينا، لا يتطلب لا موافقة السلطة ولا خشية بطشها، لا يستلزم سوى ترجمة إرادة التغيير إلى فعل ميداني حضاري سلمي، فهل نحن فاعلون؟

رشيد زياني-شريف
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
6 مارس 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version