خالتي زينب امرأة جزائرية فُجعت في ولدها حسين.

رحلة عذابها بدأت فجر الثالث من شهر ديسمبر لسنة ثلاثة وتسعين وتسعمائة بعد الألف.

في شهادتها المسجلّة والموثّقة من قبل المناضلة – فريدة أوغيسلي، المفجوعة هي كذلك في زوجها، تروي خالتي زينب تفاصيل الاختطاف القسري العلني لفلذة كبدها حسين عريبي.

شاب لم يعد يفصل بينه وبين سنّ العشرين سوى عامين، كما لم يعد يفصل بينه وبين دخول معهد الهندسة المعمارية غير امتحان الصباح. هذا الصباح الذي أوقفت وصوله لبيت خالتي زينب طرقات رجال الأمن على السّاعة الرّابعة صباحا.

توقّف كلّ شيء ساعتها. شاحنة ترحيل الآمال والأحلام لعالم الضياع والنسيان كانت خارج البيت تنتظر.

خالتي زينب لم تكن تعرف ذلك. فالذين جاؤوا والذين طرقوا والذين سألوا عن فلذة كبدها قالوا لها: سنأخذه، ثمّ نعيده.

أخرجوه حافي القدمين قبل أن تهرع اخته الصغيرة وتُلبسه ما يقي قدميه وخزات الطريق الغارقة في أوحالها.

كان الجوّ فجر ذلك اليوم ممطرًا، وممطرًا بغزارة.

لا أحسب أنّ حسين عريبي كان يدرك ما ينتظره. ولا أمّه ولا إخوته، ولا حتّى أبوه المسكين الذي كان غائبًا ذلك اليوم، كان يدرك ما يجري وما سيكون. الذي نعرفه الآن من خلال شهادة خالتي زينب أنّ والد حسين صار معاقًا؛ معاق الجسد، معاق الاحساس معاقا حياتيًّا. كلّما جاءت سيرة ولده حسين شهدت عيناه هطول الدمع وقد خطّت ندوبًا وجراحًا لا أظنّها يوما تندمل وتتعافى.

تسمّرت قدما خالتي زينب. تقلّب كفّا على كفّ. تمسح بعينيها المكان. لا شيء سوى صور لوحات بداخلها حياة تسري. هي لوحات حسين الفنّان المبدع.

ماذا تنتظرين يا أمّي، تقول ابنتها الصغيرة: لقد أخذوا حسين؟ الشاحنات التي كانت خارج البيت تعجّ بحسين وحسين وحسين، هكذا رأت المشهد حين جرت بلهفة نحو النّافذة المطلّة على الخارج. لم يأخذوا حسينًا واحدًا بل أخذوا خمسة وثلاثين حسينًا في تلك الليلة الغارقة في الأوحال والدموع والآلام والغدر.

اثنان وعشرون سنة مرّت على تلك الليلة. اثنان وعشرون سنة مرّت بمرارتها وأجاجها، وخالتي زينب حبيسة تلك الليلة. مواجعها، فواجعها تكبر عاما بعد عام. ذبلت خالتي زينب، لم تعد كما رسمها ذات يوم دافئ حانٍ حبيبها حسين. قلبها كما قالت لك ولي ولنا ولهم – لأولئك الذين جاؤوا كما الخفافيش – قد مات، أجل مات وكبدها صار قطعة من العذاب.

لم يعد لخالتي زينب من رجاء، من أمل، قتلوها وهي حيّة، دفنوها في قبر الأحزان والذكريات الغارقة في واد القتام.

ما يخيف ويزيد من عذابات خالتي زينب أن يطرق بابها من يخبرها أنّ حبيبها حسين مازال حيّا لكنّه مجنون.

يا الله كم أحرقت قلبي هذه الكلمة حين قالتها للسيّدة فريدة.

لم تنته بعد قصّة خالتي زينب. لكنّني سأنهيها هنا فلا الدمع طاوعني ولا القلم ولا الكلمات.

فأمثال خالتي زينب كُثر في المواجع والفواجع ولوحة المشهد في بداياتها الأولى.

انتظرونا إذن…

حكيم قاسم
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
21 جانفي 2016

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version