كم كانت ملفتة تلك التغطية الإعلامية المكثفة والمتواصلة على مدار أسابيع حول ملفات الفساد الثقيلة التي ملأت الساحة، تغطية واكبتها جل الوسائل الإعلامية بنكهة مشابهة إلى حد “الاستنساخ” بما يؤكد أن جل هذه الوسائل تغرف من معدن واحد أوحد، صاحب اليد الطويلة والذي يحدد ما يجب نشره وما يستلزم قصه، لكن ما أثار الاندهاش أنه فجأة وبقدرة قادر، انتقل الاهتمام إلى موضوع آخر حيث وجّهت ذات الوسائل الإعلامية بشكل منسق أقلامها وكاميراتها نحو قضية أخرى والدفع بها إلى صدارة الأحداث لإطفاء وهج قضايا الفساد، إنها قضية مجموعة من “الإرهابيين” قيل أنه تم القضاء عليهم في منطقة الأخضرية، وما صاحبها من نقل لصور جثت متفحمة، في انتهاك تام للكرامة البشرية، ليتساءل المرء ألا يفترض أن هذه الجثث لمواطنين جزائريين، وأنهم بشر بغض النظر عن هوية أصحابها المفترضة، لاسيما وأن تعاليم الدين الإسلامي الحنيف حرمت التمثيل بالقتلى.

فضلا عن واجب “الدولة” في احترام وتكريم قتلى مواطنيها، دون أن ننسى واجب التحقيق الذي يقتضي المحافظة على الجثث لإجراء تحاليل مخبرية للتعرف على أصحابها وتحديد سبب الوفاة بشكل علمي نزيه ومستقل، وليس وفق تصريحات إعلامية أو بيان الدرك والأمن الذين نفذوا عمليات الإعدام؟ لكن ذرونا نكون واقعيين، ليس ثمة أي مجال للاستغراب لمثل هذه الجريمة من قبل من استولى على وطن برمته وأسال وديانا من الدماء، ليحكم قبضته على شعب بأكمله بالحديد والنار، فلا عجب ممن استمد شرعيته بتقتيل وتمثيل جثت المواطنين، أن يتباهى بمثل هذه الجرائم مثله مثل عصابات المافيا.

لقد أثار فعلا نشر تلك الصور موجة من الاستنكار والتساؤلات، حيث رأى فيها البعض عزم السلطة على إحداث صدمة لدى المواطنين وتذكيرهم “بإنجازاتها” إبان العشرية الدامية، من خلال مشاهد مشابهة طالما وظفتها لتبرير وجودها، فيما اعتبرها البضع الأخر حرصا من النظام الجزائري على تقديم “الدليل القاطع” لإقناع العالم أنّ ما زال هناك إرهابْ في الجزائر، أو ما أسمته “بقايا الإرهاب” terrorisme résiduel ومن ثم كان لا بد من تقديم هذه الجثث قرابين لمحور الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، والتذكير بذلك البعبع الذي يخولها مواصلة حملاتها القمعية ضد المواطنين مقابل ضرورة غض طرف المجتمع الدولي عما تقترفه من انتهاكات “ضرورية ومقبولة” للحريات من أجل السلم والأمان في المنطقة!

هذا الانتقال الدراماتيكي “إعلاميا” من محاربة الفساد إلى “محاربة الإرهاب”، جعل كذلك الكثير يتساءل ماذا وراء ذلك، وماذا تهيئ لهم السلطة؟ وهل هي رسالة إرهاب يوجهها النظام للمواطنين وتذكيرهم بما يمكن للسلطة أن تقوم به من جرائم الأرض المحروقة لإسكات كل معترض على هيمنتها، سواء كان مواطنا عاديا أو سياسيا أو مناضلا ترى فيه مشاغبا وفتانا وعميلا.

لكن عودة إلى هؤلاء “الإرهابيين” الذين قيل أنه تم القضاء عليهم، ثمة سؤال محيّر ومزمن لم نجد له جوابا مقنعا: لماذا تكون جرائم هؤلاء “الإرهابيين” دائما فقط ضد المواطنين العزل المطحونين؟ من يكون هؤلاء الإرهابيين حتى يقتصر إرهابهم على طحن المطحونين؟ لماذا لم نسمع يوما أنهم تعرضوا لمصالح الجنرالات وكبار المسؤولين المفسدين أو حلفائهم اللصوص والمضاربين؟ ثم كيف قضوا عليهم، وهم عتاة القتلة المدججين بالسلاح، حسب ما يروج عنهم، فيقتلون وكأنهم خرفان كانوا ينتظرون أن يجهز عنهم بعد محاصرتهمْ، دون محاولة القبض عليه أحياء، لتكتمل الجريمة وطمْسْ كل الأدلة المحرجة؟

هناك متابعون للوضع في البلاد، حتى من داخل صفوف الجيش وفق رسائل تم تسريبها، من يرى أن القضية وما فيها أن النظام يتوفر على “خزان” من عناصر الجماعات المسلحة اعتقلهم خلال العشرية الحمراء محتفظا بهم في سجون سرية لتلجأ السلطة لاستعمالهم عند الحاجة، مثل قضية الأخضرية، والكل يتذكر صناعة “الجيا”، البعبع القاتل الذي استنفدت مهامه، لينتقل النظام هذه المرة إلى ذات الخزان لمهام مختلفة، تتمثل في نقل “الإرهابيين” المجمدين في أماكن سرية جاهزين “للتنشيط” بعد تنويم وظيفي (ما يطلق عليه اسم “خلايا نائمة”، وهي في الواقع نائمة في أوكار بن عكنون وغيره من دهاليز التوفيق، وليس مثلما ينشره إعلام المهام القذرة، فينقل هؤلاء “الإرهابيين” إلى أماكن محددة ثم يقوم الجيش بمحاصرتهم و قتلهم، فتكون جثثهم الدليل المفحم على بقايا الإرهاب.

وحتى لا يتهم أصحاب هذه القراءات بالتحامل والتهم الجاهزة، نذكر باختطاف أكثر من 20 ألف مواطن ومواطنة، لا زالوا في عداد المفقودين بعد 20 سنة، فليس غريبا على من قتل آلاف الأشخاص الأبرياء بدم بارد وعذبهم حتى الموت أن يقترف مثل هذه الجرائم في إطار “مكافحة الإرهاب”. قبل أيام قليلة ارتكب النظام المصري جريمة لا تقل بشاعة وتشبه إلى حد كبير جرائم نظيره في الجزائر، عند تنفيذه في 17 مايو 2015 أحكام الإعدام في 6 شباب مصريين، والغريب (إن كان ثمة غرابة) أن المحكمة العسكرية المصرية أدانت الشباب الستة بالإعدام وحكمت عليهم بالإعدام في جرائم لم يرتكبوها، لسبب بسيط أنهم كانوا معتقلين في السر حين وقوعها، بل وحكمت بالإعدام على شهداء من كتائب القسام استشهدوا قبل سنين، مما يعزز مثل هذه التصرفات الإجرامية من قبل أنظمة دكتاتورية.

عند النظر إلى هذه العمليات في تصفية “الإرهابيين” لا بد أن يتذكر المرء ما كانت تقوم به فيالق الموت التابعة لمختلف أجهزة الأمن المخابراتي، إبان العشرية الدامية، في إطار توصية صاحب مقولة “يجب أن ينتقل الخوف إلى المعسكر الآخر”، وما تلاها من تقتيل وحرق ثم الإلقاء بجثث العشرات من الضحايا، من بينهم المختطفين الذين قتلوا تحت التعذيب في مراكز اعتقال سرية ثم ألقي بهم على الطرقات، لتأتي بعد ذلك ببعض أقلامها من الصحف “الوطنية” و”المستقلة” وتملي عليها مقالات- محاضر عن القضاء على إرهابيين خلال اشتباكات مسلحة.

خلاصة القول ليس هناك جديد، هذا تصرف “طبيعي” ومألوف لدى كل الأنظمة العسكرية الدكتاتورية التي تفشل في حل مشاكل المواطنين اليومية، فتلجأ إلى امتطاء صهوة شرعيتها الخاصة بها، ممارسة إرهاب الدولة بحق مواطنيها وفي الوقت ذاته ترفع لواء محاربة الإرهاب ضد مواطنيها والعودة على بدء.

رشيد زياني-شريف
27 ماي 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version