غداة الربيع العربي، تكهّن البعض بقرب “ثورة سليمة” في الجزائر للتخلّص من أركان حكم أوغل فسادًا وقمعًا وفشلًا، ثورة شعبية على غرار أخواتها في تونس ومصر واليمن، خاصة وأنّ نفس العناصر أو المسبّبات التي دفعت بالثورات العربية، موجودة في الجزائر أيضا.

وبالمقابل تعالت أصوات تتحدّث عن “الاستثناء” الجزائري، أي أنصار “كل شيء بخير” وأنّ تغيير الوضع “مؤامرة صهيونية أمريكية”. والغريب أنّ الواقع ميدانيًا بدا وكأنه يعزّز هذا الطرح ويصدّق أنصاره، فبدت الجزائر “مستعصية” حقًا عن كل تغيير فعلي. أقول بدت “استثناءً” لأنّ الواقع لم يكن سوى فقاعة أو بيت عنكبوت تشبّث به كل المتضرّرين من تغيير الوضع القائم، فثبت شيئا فشيئًا أنّ ما أطلق عليه اسم “الاستثناء” لا علاقة له البتة بالوهم الذي نسجه خيال هؤلاء الذين اعتقدوا أنّ “الجزائر” تخترق سنن الكون بما يجعلها فوق قوانين التغيير التي تسير على الجميع متى توفّرت عناصره.

قراءة ميدانية للوضع السائد غداة الربيع العربي، تكشف طبيعة العوامل “المحسوسة” التي عطّلت عملية التغيير، يمكن إجمالها في أربعة ركائز أساسية.

أولها وفرة المال (مبيعات النفط والغاز حصرًا) التي وظّفتها السلطة لتجنّب الانفجار من خلال إنفاق الملايير لشراء السلم المدني، بدلًا من توظيفها في تحريك آليات الاقتصاد المنتج القادر وحده على النهوض بالبلاد والإقلاع الحقيقي.

ثانيًا، التلويح بشبح “الإرهاب” واستغلاله كوسيلة للترهيب والتثبيط من كلّ حركة تغييرية، وترهيب المواطنين من سنين الدم التي لا زالوا يتجرّعون ويلاتها.

ثالث هذه الركائز هو الاتفاق الضمني بين أقطاب السلطة الفعلية على تجنّب كلّ ما من شأنه أن يفصم عرى هذا التوافق المصلحي القائم على ضرورة البقاء في الحكم، الضمانة الوحيدة لتجنيهم دفع ثمن فشل التسيير وجسامة الجرائم المرتكبة على مدار نصف قرن من الزمن.

رابعًا، تلغيم الساحة السياسية من خلال تدجين الأحزاب السياسية الرسمية بكلّ أطيافها بما أفقد الثقة وسط المواطنين في بديل لهذه السلطة.

أمّا الآن، بعد أربع سنوات على انطلاقة الربيع العربي، فقد بدأت تتّضح حقيقة – أو بالأحرى زيف – هذا “الاستثناء” الجزائري، الذي تهاوى بفعل انهيار مفعول الركائز الأربعة، خاصة الوفرة المالية التي لم تعد كسابق عهدها مع انهيار سعر برميل النفط،  كما أنّ هاجس الرعب لم يعد متحّكما في رقاب المواطنين الذين قهروا الخوف، ولا تفاهم أقطاب الحكم الفعلي أصبح مضمونًا مثلما توضحه حروبهم بالوكالة، كما أنّ تيئيس السلطة للموطنين من الفعل السياسي لم يعد مجديًا بعد أن برهن المواطن أنه إذا استطاعت السلطة تدجين الطبقة السياسية المعترف بها، فلن تثنيه عن العمل من أجل تغيير الوضع، وابتكار بدائل غير تقليدية، ولم تستطيع النيل من عزيمته في التغيير الجذري، مثلما يشهد على ذلك عشرات التظاهرات في كافة أرجاء الوطن.

بعد عقود من صناعة وبيع الأوهام واغتيال الحلول الحقيقية لمعضلة البلاد، يحدث ما كان متوقّعًا، ويجد بائعو الأوهام أنفسهم أمام مأزق حقيقي، فلا الأموال المبدّدة حلّت مشاكل الجزائر الاجتماعية والاقتصادية وأنى لها ذلك، ولا استنساخ الهياكل السياسية العبثية العليفة استطاعت ملء الفراغ، ناهيك عن تقديم الحلول لأنه كما يقال فاقد الشيء لا يعطيه، ولا المصالحة الكاذبة أعادت اللحمة وضمّدت الجراح.

وكعادتهم، للخروج من هذا المأزق وفي غياب أموال “الجزرة” النفطية، لم يجدوا بديلًا سوى العودة إلى سابق عهدهم، أي تشديد الخناق على الحريات وكتم الأنفاس مثلما يؤكّده اختطاف الشاب علي عطار قبل أيام من مقهى الانترنت، والاعتقالات بالجملة ضد مناضلين سلميين في الأغواط وغيرها من مدن البلاد.

هذا الوضع المأساوي أكّدته عدة منظمات وطنية لحقوق الإنسان، وكذلك هيومن رايتس ووتش التي قدّمت في تقريرها الأخير (2014) صورة قاتمة عن حالة الجزائر في مجال “حرية التجمع”، فأشارت فيه إلى “مواصلة السلطات سياسة القمع الاستباقي للاحتجاجات السلمية باعتقال واحتجاز منظمي الاحتجاج مسبقًا، من نشطاء حقوق إنسان وزعماء نقابات عمالية”.

كما ذكرت “هيومن رايتس ووتش” أنّ “الحكومة الجزائرية تواصل منع أو عرقلة مساعي العمال من أجل تأسيس نقابات مستقلة، واضطهاد المظاهرات والإضرابات السلمية”. وعن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية المعتمد سنة 2006، ذكر التقرير السنوي للمنظمة أنّ هذا القانون “يواصل منح إطار قانوني في عدم معاقبة ممارسات التعذيب والمفقودين قسرا والإعدام خارج القانون، وغيرها من التجاوزات الخطيرة التي ارتكبت في العشرية السوداء، والقانون ذاته يُجرّم أيضا أي تعبير أو كلام يدين مؤسسات الدولة أو قوات الأمن عن دورها خلال سنوات الإرهاب، وما تزال جمعيات المفقودين تطالب بإظهار الحقيقة وتطبيق العدالة.”

الآن وقد اختفت “الاستثنائية” التي روّج لها بائعو الأوهام، وثبت أنّ سنن الكون تجري على المخلوقات جميعًا دون استثناء، ماذا جنت البلاد من سماسرة السراب؟ هل “إنكار” الأزمة ورفض الحلول الحقيقية المؤلمة أنقذ البلاد؟

مهما حاولوا تربيع الدائرة، فإنّ الواقع المرّ الذي لا تخطئه العين، كفيل برسم الصورة كاملة عن نتاج حكم فاشل فاسد رافض لحلول سلمية حقيقية دفع البلاد نحو الهاوية. لا بدّ من وقفة مع الذات والاعتراف بشجاعة ودون تعالٍ أو تعامٍ، من أيّ طرف كان، الحلّ لا يمكنه أن يأتي إلا بمواجهة الوضع كما هو وتقديم حلول جذرية وعقلانية تضع حدًا لأسباب الأزمة والمتسببين فيها وفي استدامتها.

والتاريخ أكّد لنا حقائق أقرّتها الأحداث اللاحقة: يستحيل التوصّل إلى تسوية عادلة دائمة تنهي النزاع إذا لم يحدّد الطرف أو الأطراف المرتكبة للجرائم المختلفة، سواءً القتل الجماعي أو الفساد الاقتصادي والمالي من نهبٍ للمليارات التي تمّ تهريبها خارج الوطن في حسابات للمسؤولين أو غيرها من الجرائم الأخرى.

كما أثبتت تجارب التاريخ أن معرفة الحقيقة ليست مجازفة وإرادة للانتقام بل ضرورة لتفادي تكرار المأساة، لأنه في حالة عدم معالجة أسباب النزاع، تبقى بذور الأزمة كامنة، ويظل الطرف الجاني يتمتّع بكامل جاهزيته لمعاودة الكرّة، بل وقد يدفع ذلك أطرافًا أخرى إلى اقتفاء خطاهم في مأمن من أيّ متابعة، ناهيك إذا شهدوا كيف يتمّ تكريم “الفاعلين” وتصويرهم أبطالًا منقذين، في إطار تسوية ظالمة على شاكلة “المصالحة الوطنية” أو نماذج أخرى في أمريكا اللاتينية، التشيلي والأرجنتين على سبيل المثال، التي رغم محاولات دفن ملفات سنوات الجمر، لم يدم الأمر حتى طفت الحقيقة من جديد، بعد عقود من الزمن، لتذكّر العالم بمجازر جنرالات الانقلاب هناك.

أين المخرج إذن؟

من نافلة القول التذكير بأنّ أيّ مخرج يقتضي توفّر إرادة صادقة بدونها تعجز كلّ الحلول مهما كانت عبقريتها. كما لا يجب أن نُصاب بوهم التمني، الإرادة لن يتبرّع بها طواعية أو اقتناعًا من أوصلوا البلاد إلى هذه الحافة من الكارثة، وإنما تأتي بفضل النضال المتواصل للقوى المختلفة وعدم يأسها أو تراجعها مثلما يبرهن عليه حراك أهل الجنوب في عين صالح وورقلة والأغواط الذين يقدّمون كل يوم نماذج من التضحية ورفعة الوعي وسمو الهمة.

وليس تكرارًا أن نذكّر من جديد بأنّ أيّ حلّ جدّي يقتضي أوّلا وقبل كلّ شيء مشاركة كافة فئات الشعب والتوقّف عن سياسة النعامة من خلال إقصاء ملايين من المواطنين بحجج واهية لم تعد تقنع أحدًا، ثانيا، الوقوف مع الذات وتحديد أسباب الوضع الذي نعيشه منذ سنين، وذلك لن يتأتّى قبل كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، لأنّ نماذج من أزمات مشابهة أثبتت أنّ الحقيقة مهما كانت مؤلمة، لا يمكن تجاوزها، والدليل أنّ الجزائر رغم محاولات دفن ماضيها القريب، لم تتعاف حتى الآن. كما أثبتت التجارب البشرية أنّ غياب الحقيقة والعدالة لا يعطّل الحلّ فحسب بل يديم الأزمة ويعقّد من إمكانية حلّها ويشجّع على تكرار ما حدث في ظل مناخ يحصّن المجرمين من كل متابعة. كما تكشف الأيام بمآسيها زيف قميص عثمان الذي رفعه البعض، وتذرّعوا بخشيتهم من أنّ البحث عن الحقيقية سيديم الأزمة ويحيي الجراح، متستّرين عن الهدف الحقيقي من ذلك، ألا وهو تورّطهم في تلك الجرائم إمّا تنفيذًا أو تدعيمًا أو سكوتًا.

الدعوة موجهة إلى الجميع نحو كلمة صدق وشجاعة ومسؤولية.

رشيد زياني-شريف
4 مارس 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version