الحمد لله القائل في كتابه “وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” (سورة البروج، الآية 8) لتكون شهادة على أول اضطهاد للمؤمنين بوحدانية الله على يد أول ملك ادعى الربوبية أو الألوهية هو النمرود في عهد نبينا إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام.
 
والاضطهاد الديني هو سوء المعاملة لفرد أو مجموعة بسبب انتمائهم الديني ولكن هذا التعريف يختلف من ديانة إلى أخرى ومن فترة إلى أخرى ويمكن تقسيم تاريخ الاضطهاد إلى فترتين تاريخيتين اختلف فيهما مفهوم الناس للاضطهاد دون أن يتغير معناه.
 
الاضطهاد في العصر القديم
 
يزعم اليهود أن الاضطهاد الذي تعرّضوا له لم يكن مبنيًا على أساس إيماني أو ديني ولكن كان مبنيًا على أساس عرقي كاضطهاد فرعون لليهود عن طريق قتل أطفالهم وسبي نسائهم لقوله تعالى “وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْ‌عَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ” (سورة البقرة، الآية 49). لكن القرآن الكريم يبين أن اضطهاد فرعون لبني إسرائيل كان نتيجة انتمائهم الديني وإيمانهم بالله الواحد الأحد وليس نتيجة انتماءاتهم العرقية. لأن الاضطهاد الذي تعرضوا له جاء قبل نزول التوراة على نبينا موسى عليه السلام وهذا يعني أنهم كانوا يؤمنون بما أُرسل على من جاؤوا من قبل نبينا موسى عليه السلام وهما إبراهيم ويوسف عليهما السلام.
 
أما عن الاضطهاد الذي تعرّض إليه المسيحيون فليس لأنهم مسيحيين، بل هو نتيجة إيمانهم بالله الواحد الأحد واختلافهم مع الكنيسة حول طبيعة يسوع وإنكار ألوهيته وأنه لم يكن إلها بل مجرّد إنسان مخلوق وهي الأقرب إلى عقيدة التوحيد وليس العكس ولكن الكنيسة أو المسيحية بشكل عام تنكر هذا. والغريب أن أول اضطهاد للمسيحيين كان على يد اليهود وذلك بعد نزول عيسى عليه السلام ونزول الإنجيل نتيجة إخفاء اليهود التوراة وتحريفها فما كان لليهود الذين حرّفوا التوراة إلا الانتقام من المؤمنين بالله ووحدانيته واضطهادهم وهذا نتيجة إيمانهم وإنكارهم لتحريف اليهود للتوراة ممّا ينفي ما يُعرف اليوم بالميراث اليهودي المسيحي للدين.
 
أما الاضطهاد الثاني الذي عرفه المسيحيون (المؤمنون بوحدانية الله ونبوة عيسى عليه السلام)، فهو اضطهاد ما بعد حريق روما سنة 64 م الذي أشارت فيه أصابع الاتهام إلى الإمبراطور نيرون Néron، وقد هلك في هذا الحريق الآلاف من السكان.
 
وأمام الاتهامات الموجهة إلى الإمبراطور نيرون واتهامه بحرق روما أراد هذا الأخير البحث عن كبش فداء يقدّمه للشعب الذي أصبح لا يثق فيه، فما كان له إلا أن يختار إحدى الطائفتين اليهودية أو المسيحية اللتان كانتا أهل كتاب. أما الطائفة اليهودية فكانت تحت حماية بوبييا سبينا Poppaea Sabina الزوجة الثانية للإمبراطور نيرون.
 
وكان الإمبراطور نيرون يقوم باضطهاد المسيحيين (المؤمنين بوحدانية الله ونبوة عيسى عليه السلام) بتقديمهم للوحوش الكاسرة أو حرقهم بالنيران أمام أهل روما في الستاديوم، ومن نجا من المسيحيين أصبحوا يعيشون في سراديب تحت الأرض، ولقد استمر هذا الاضطهاد مدة أربع سنوات حتى أعلنه مجلس الشيوخ (السناتو) “عدوا للشعب” فمات منتحرا عام 68 م.
 
ولم تنته معاناة المسيحيين (المؤمنين بوحدانية الله ونبوة عيسى عليه السلام) مع الاضطهاد بموت الإمبراطور نيرون بل امتدت إلى عهد الإمبراطور دقلديانوس Dioclétion حيث سقط المئات ضحايا محاكم التفتيش التي أسسها الإمبراطور دقلديانوس.  

فقد أمر بتهديم الكنائس وحرق الكتب المقدسة وإلقاء القبض على رجال الدين من القساوسة والرهبان وقد سمي عصره بعصر الشهداء إلى غاية وصول الإمبراطور قسطنطين الأول Constantin Ier وتوليه الحكم والتي عرفت مرحلة حكمه تحوّلًا جذريًا في حرية الاعتقاد وهذا بعد إعلان الإمبراطور الجديد مرسوم ميلانو (Edict Milano) عام 313 م حياد الإمبراطورية الرومانية تجاه شؤون العبادة مما أزال العقبات أمام الممارسات الدينية المسيحية والديانات الأخرى ونالت الكنيسة المسيحية الحرية والاعتراف الرسمي من طرف الإمبراطورية، وأمانة للتاريخ نريد أن نبين أن أول ديانة تم الاعتراف بها رسميا والعمل بها كديانة رسمية للدولة هو الإسلام وإعلان التوحيد على يد عزيز مصر نبينا يوسف عليه السلام والعزيز بمثابة الوزير الأول أو رئيس الوزراء في عصرنا هذا.
 
ورغم هذا الاعتراف إلا أنّ الاختلاف حول طبيعة يسوع وإنكار ألوهيته وأنه لم يكن إلها بل مجرد إنسان مخلوق وهي الأقرب إلى عقيدة التوحيد العقيدة المسيحية ظل قائما. فقد عرفت القرون الميلادية الثلاثة الأولى بروز المذاهب الدوناتية نسبة لمؤسسها دونا Donatus Magnus والأريوسية نسبة لمؤسسها Arius والتي تمّت محاربتهما من طرف الكنيسة الموالية للإمبراطورية الرومانية.
 
وفي القرن الخامس حدث الانشقاق الكبير بين الكنيستين الشرقية والغربية بسبب مجمع خلقيدونيا عام 451 م، فأصبحت كنائس الشرق تحت قيادة كنيسة الإسكندرية تعرف بالكنائس الأرثوذكسية، وكنائس الغرب تحت قيادة روما وتسمى الكنائس الكاثوليكية إلى غاية القرن الحادي عشر حيث انفصلت كنائس القسطنطينية واليونانية عن الكنيسة الكاثوليكية وأصبحت تعرف بالكنيسة الأرثوذكسية. وفي القرن السادس عشر وبالتحديد سنة 1529 م قام مارتن لوتر بثورة ضد الكنيسة الكاثوليكية أطلق عليها ثورة الإصلاح. اعترض فيها على بعض التعاليم، وأطلقوا على أتباعه اسم المحتجين Protest ومعناها البروتستانتية كما عرفت البروتستانتية ظهور عدة انشقاقات.
 
الاضطهاد في العصر الحديث
 
في الحقيقة، عرف العصر الحديث حروبا كثيرة خلفت عددًا لا يحصى من القتلى ولا نعني الاستعمار وإن كان أحد أهم أشكال الاضطهاد، إلا أننا نريد الحديث عن الاضطهاد الديني الرافض لكل أشكال الاندماج ذي الطابع الديني في المجتمعات التي تحوّلت من مجتمعات دينية إلى مجتمعات علمانية خاصة الغربية، كما عرف عصرنا هذا شكلًا جديدًا من أشكال الاضطهاد لم يُعرف من قبل هو الأخطر في التاريخ الاضطهاد هو التهويد.

والتهويد هو محاولة فرض طابع جديد مستحدث وهو الطابع اليهودي عن طريق نزع ومحاربة الهوية الإسلامية التاريخية لفلسطين باستعمال كل الوسائل والطرق أهمها تحريف وتزييف التاريخ، وقد بدأ التهويد قبل الاحتلال إلا انه أخذ شكلا آخر بعد الاحتلال وذلك بتغيير معالم فلسطين تطبيقا لما تم تحريفه وتزييفه تاريخيا وأهم أهدافهم تدمير المسجد الأقصى.
 
كما أن كلمة التهويد فيها تحريف وتزييف للتاريخ هدفها إعطاء الحق اليهودي للاحتلال بحجة استرجاع أرضهم إلا أنّ هذا التهويد تسبّب في أكبر عملية إبادة واضطهاد عرفها اليهود في هذا العصر على يد النازيين بين عام 1942 و1944 راح ضحيتها حوالي مليون يهودي رفضوا الهجرة إلى فلسطين المحتلة اختاروا أن يعيشوا في ألمانيا لكن ألمانيا النازية آنذاك رفضت أيّ اندماج عرقي في المجتمع الألماني.

والدليل على هذا هو اتفاقية هآرفا أو هعفراه Haavara التي أبرمت بين الوكالة اليهودية الصهيونية وألمانيا النازية بتاريخ 25 أوت 1933 لتسهيل عملية تهجير اليهود إلى فلسطين حيث هاجر حوالي 50000 يهودي إلى فلسطين فقط من أصل 500000 يهودي يعيشون في ألمانيا و200000 يهودي يعيشون في النمسا.

وعند غزو ألمانيا النازية لبولونيا واندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 عرضت المنظمة الإرهابية الصهيونية شتيرن أو ليحي Lehi التحالف مع ألمانيا النازية ليس للمواجهة العسكرية لأنها لم تكن قوة عسكرية بل كانت عبارة عن عصابات كان هدفها الانتقام من اليهود الذين رفضوا الهجرة وأرى أنه الاحتمال الأقرب إلى الحقيقة خاصة وأن اليهود الذين كانوا محتجزين داخل معتقلات اوشفيتزبيركينو Auschwitz-Birkenau كانوا مدنيين غير مدانين.

وبفضل هذا التحريف والتزييف استطاع الصهاينة تأسيس دولتهم الصهيونية ونجحوا في إقناع الغرب بأحقيتهم في فلسطين المحتلة مكنتهم من تغطية جرائمهم وعمليات الاضطهاد التي يمارسونها ضد أصحاب الحق. لكن هذا التحريف وهذا التزييف سوف ينقشع كما ينقشع الضباب وصاحب الحق لن يضيع حقه بشرط أن نعيد كتابة التاريخ بصدق وإخلاص وأن نسترجعه فهو أول خطوة نحو تحرير المسجد الاقصى وفلسطين المحتلة.

محمد العربي أوشن
كاتب وعضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
12 فبراير 2015

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version