يعتبر الإسلام من القضايا الشائكة في الغرب وخاصة في دولة مثل فرنسا بحيث تدافع طبقة كبيرة من مثقفيها وسياسييها على ما يسمى «الاستثناء الفرنسي» في الهوية والثقافة أمام ما يعتبرونه زحف الثقافة العربية والإسلامية عموما و المغاربية خصوصا. ووسط الجدل القائم منذ عقود، وعلى غير عادة الحناجر و الأقلام الفرنسية ها هي اليوم شخصيات أخرى فرنسية من الضفة الاخرى للبحر الأبيض المتوسط ترفع عقيرتها منددة بأبواق الإسلاموفوبيا من بني جلدتها و في عقر دارها خصوصا، والهيمنة الغربية عموما. من هؤلاء يطيب لنا إماطة اللثام للقارئ العربي عن قامتين من قامات الأقلام  الغربية ، في شخص كل من  “ريجيس دوبري” و ” إدوي بلنيل “.

الأول هو الفيلسوف الفرنسي المعروف “ريجيس دوبري” صاحب عشرات المؤلفات و الذي طالب ـ قبل أسبوعين ـ  بتغيير مقر منظمة الأمم المتحدة، من مدينة نيو يورك الأمريكية  إلى مدينة القدس الفلسطينية، مهد الحضارات العالمية، مشيرا إلى أنّ اختيار نيويورك، العاصمة الاقتصادية لأكبر قوة عسكرية في العالم، ينبع من “خلط غريب” بين الحق والقوة ، إذ أوضح “دوبري”، خلال مؤتمر عقد في تونس، أنّ “مقر منظمة الأمم المتحدة التي تمثل أداة للقانون الدولي بامتياز، موجود في قلب أقوى قوة عسكرية، وأمر نقله لا يتطلب سوى تنظيم تصويت في الجلسة العامة، غير أنّ مجلس الأمن وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، سيرفع الفيتو  أمام القرار، كما عهدتهم أروقة الأمم المتحدة..

مقدما بالمناسبة ذاتها، أحدث مؤلفاته الصادرة تحت عنوان “ما الذي تبقى من الغرب؟” (1)، شارحا دعائم الهيمنة الغربية التي يصفها بأنّها “فن ترغيب السيطرة في قلوب المسيطر عليهم ” وهو أحد معاني ” القابلية للإستعمار عند المفكر الإسلامي مالك بن نبي حيث يعتبر” دوبري”  أنّ الغرب الذي تتمثل إحدى أهم أهدافه في “تحويل العالم إلى سوق كبيرة يتحول بموجبها جميع سكانه إلى مستهلكين، مجردين من الذاكرة، و من القيم”، و بالتالي يفتح الباب حينها للثنائية المدمرة بقوله: “حين نتوقّف عن التفكير بطريقة استراتيجية، نجنح إلى أسلوب تفكير قيمي، عندئذ نسقط في فخ الرؤية الثنائية للأمور التي تقوم على منطق أن العالم ينقسم إلى “طيبين” و”أشرار”، “من ليس معنا، فهو ضدنا”، في إشارة إلى تصريح الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن.. شارحا ذلك بقوله ” أن العالم الغربي يمتلك ملكة تقديم مصالحه الخاصة على أنها تعبير عن مصالح الإنسانية جمعاء. ويتحول بهذا المفهوم إلى الكتلة الوحيدة التي يمكنها أن تقدم نفسها على أنها هي ذاتها المجموعة الدولية”، مركزا على ما أسماه بالـ “القوة الناعمة” التي تظهر عبر “قوة الدولار”، عملة العالم منذ 1945، و بـ “موافقة طبيعية” يبديها الجميع، وكل ذلك “عائد بشكل كبير إلى القوة العسكرية الأمريكية، وهو ما يمكّن الولايات المتّحدة الأمريكية من التداين دون أن يؤثّر ذلك عليها بشكل كبير”، على حد رأي الفيلسوف الفرنسي..

والشخصية الثانية الذي حضرنا ندوته هذا الأسبوع ، هو الصحافي البارز المستقل والكاتب الفرنسي المعروف”إدوي بلنيل” المدير السابق لجريدة «لوموند» والمدير الحالي للجريدة الرقمية ذات التأثير الواسع «مديبار» ـ التي فضحت أخيرا كثير من سياسيي فرنسا وصناع قرارها. وقد حل “إدوي بلنيل” ضيفا على «مسرح فيدي » بدعوة من أسبوعية «ليبدو» السويسرية و دار « بايو»  للنشر الاوروبية، الذي جاء لعرض و”الترويج” لكتابه الجديد، بعنوان «من أجل المسلمين» ، يدعو  فيه صاحبه الى معالجة موضوعية لإشكالية الإسلام بعيدا عن التوظيف السياسي واعتبار المسلمين الفرنسيين مصدر ثراء للبلاد. ويثير كتابه اليوم جدلا سياسيا كبيرا في الأوساط الإعلامية والسياسية الفرنسية بسبب جرأته في الدفاع عن المسلمين، وقد وصفه الكثير ممن اطلع عليه من أبناء الجالية أنه يعد بحق سباحة جريئة ضد تيار الإسلاموفوبيا الجارف في فرنسا، وقد جاء بعد طول انتظار ـ على حد تعبير بعضهم ـ كصرخة منصفة للمسلمين، لما لا وعنوان الكتاب «من أجل المسلمين»..  

و رغم حرص الجالية المسلمة في سويسرا للحضور بكثافة للترحيب بالكاتب والكتاب ، إلا أن قاعة المسرح اكتظت من دقائقها الأولى بالحضور ” الغربي” مع “أقلية محتشمة من المسلمين تمثل أقل من 20 في المائة رغم مجانية الدخول “، حسب تعليق زميلنا عبد المولى  المنحجر الأستاذ بحامعة فريبورغ الذي حضر خصيصا لشكر الكاتب الفرنسي على مجهوده الأخير.. وبعد تقديم مقتضب للمحاضر من طرف السيدة شونطال طوكس، نائبة رئيس تحرير مجلة  “ليبدو”،  إنطلق المحاضر” إدوي بلنيل” مستهلا  ندوته التعريفية بكتابه وأفكاره، بدءا بتقديم تعريف مطولا بأصوله المختلطة بقوله ” وُلدت في منطقة البروطان بشمال غرب فرنسا، من والدين بروطانيين، كاثوليكي وبروتستانتية، ولم يتم تعميدي. ترعرعت بعيدا عن فرنسا حتى سن الثامنة عشرة، بجزر المارتنيك ثم الجزائر ـ بعد استقلالها ـ  واللذان أعتبرهما – حقيقة – بلدي طفولتي وموطنيْ شبابي. لقد تشكلتُ إذن بفضل تنوع الثقافات : بروطانية، أنتيلية، كريولية، كراييبية، مغاربية، عربية، أمازيغية، فرنسية، إلخ.. تحت مختلف التأثيرات الدينية كالكاثوليكية وبروتستانتية و .. والإسلام، وصولا إلى اليهودية وذلك من طرف زوجتي وأهلها المنحدرين من هجرة يهود أوروبا الوسطى. دون ذكر التنشئة على قيم الجمهورية التي اكتسبتها من والدي المرتبطين بالمدرسة العلمانية.”..” إنني ببساطة لاديني؛ ولا يهمني التسامي الروحي، لكنني لا أحمل أي هوس تجاه من يهمهم هذا الأخير. خاصة أنني أنتمي لجيل ما بعد الكوارث العالمية للنصف الأول من القرن العشرين، الجيل الذي أدرك أن الحضارات التي تدعي العقلانية، بل وترفض الإله، يمكن أن تستسلم للاعقلانية جماعية قد تقودها لارتكاب حماقات إجرامية هائلة”..”همي الوحيد ينصب إذن على عالمنا الآني الذي نتحمل في الحاضر مسؤوليته جميعا، سواء آمنا بالسماء أم لم نؤمن. هذا العالم المشترك الذي علينا جميعا المساهمة في البناء، لا تدميره بإغراقه في حرب الكل ضد الكل..”

ثم أنتقل لصلب الموضوع، أي تفسير سبب إختياره لعنوان كتابه «من أجل المسلمين» (2)، بقوله ” يأتي هذا العنوان، على غرار أي عنوان آخر، كان في إمكاني تسميته (من أجل الأقليات) أو( من أجل فرنسا)، ذلك مقصد كتابي الأخير الذي يقف اليوم بصف مواطني بلدي المسلمين أصولا أو ثقافة أو معتقدا، في وجه من نصّبهم أكباش فداء لهمومنا وشكوكنا”.. “إنها صرخة تحذير ولفتة تضامن وتحذير من الاستسهال ـ اللبق ـ الفكري والإعلامي لخطاب شبيه بخطاب ما قبل الكارثة الأوروبية المتمثلة في الحرب العالمية الثانية، والذي كان يومها يؤكد على وجود (مشكلة يهودية ) في فرنسا. وتضامنا مع مواطنينا الذين تركهم صمتنا ولامبالاتنا عرضة للعزلة تحت وطأة هذا التشهير بالقول أن هناك اليوم في فرنسا (مشكلة إسلامية)، كما يحلو لبعض سياسيينا تكرارها علينا يوم مساء..”.
 
مقترحا  نظرية جديدة في السياسة الفرنسية، ” قادرة على تحويل أصولنا المختلفة وثقافاتنا المتعددة وتنوعنا الديني إلى عامل إيجابي وقوة لمواجهة الخلل الذي يعاني منه العالم الغربي خصوصا، وتقديم حلول، عوض الزيادة في التأزيم”. حيث عدد المؤلف عدة مسائل، خصوصا منها قضية ” العلمانية على الطريقة الفرنسية” ومرحلة الاستعمار المنهكة المهلكة. بحيث قال أنه أراد من كتابه أن يكون “صرخة أمل ضد التيار، في محاولة للاستفزاز وربما رفع مستوى النقاش،  بمنأى عن التلاعن و التلاسن الذي يعد تربة خصبة تفرخ فيها المخاوف و الكراهيات”، قائلا  ” لقد كتبت كتابي «من أجل المسلمين» بفرنسا، وأنا متأكد أن كتابات مماثلة ستظهر في البلدان ذات الأغلبية المسلمة «من أجل» أقليات أخرى، مسيحية، يهودية، ملحدة، بل حتى المنحدرة من الإسلام ذاته، سنة يدافعون عن الشيعة، والعكس.. ولن تكون الجرائم المقترفة على أيادي من يقدمون أنفسهم كمسلمين ومتورطين في حروب لا نهاية لها، ذريعة لاضطهاد مسلمي فرنسا..”.

مردفا بقوله ” لطالما غاب تعاطفنا مع المسلمين، مع العرب، مع اليهود، مع السود، مع الغجر، إلخ.. مع كل من تعاقبوا أو تعايشوا ممن كانوا ضحايا الإيديولوجية الوحشية للحضارات المتفوقة تجاه الشعوب المنبوذة والتي ما فتئت تتربص بنا من جديد..” ،  داعيا جميع الحاضرين بقوله : ” أيها السادة والسيدات ..همي الوحيد ينصب إذن على عالمنا الآني الذي نتحمل في الحاضر مسؤوليته جميعا، سواء آمنا بالسماء أم لم نؤمن. هذا العالم المشترك الذي علينا جميعا بناؤه، لا تدمروه بإغراقه في حرب الكل ضد الكل”، مختتما محاضرته بما أنهى به كتابه، بقوله :” أيها الناس.. باسم الجمال والخير.. باسم الآلهة الخفية لهذا العالم الهش والقلق، يجب أن نقول لا لهذه العتمة القادمة، بالتضامن الفعلي مع من تتهددهم، وعلى رأسهم مواطنونا من أصل و ثقافة أو دين إسلامي..”

وبعد هذا العرض الشيق الرزين الذي رحل بنا عبر التاريخ والجغرافيا والشعوب والمعتقدات، والذي دام قرابة الساعة وصفق له الجميع مطولا، فتح باب النقاش.. ومن الأسئلة المتهاطلة ، تكرار أسئلة حول أسباب و نتائج ” الخصوصية العلمانية الفرنسية ومعاداتها للإسلام و المسلمين” وهل هي ” معدية لدول الجوار أم لا”، و قضية “ما أشبه اليوم بالبارحة التي تعيد نفسها دوما أي ( البارحة الضحية هم اليهود واليوم المسلمون).. ومن الأسئلة والتدخلات التي لفتت نظر الحاضرين، كلمة السيدة ” الدى مارة “برلمانية من الحزب الاشتراكي السويسري ، التي بعد أن شكرت المحاضر الفرنسي على مجهوده الرائع و قدومه لسويسرا لتقديم زبدة أفكاره في قضية من قضايا الساعة، مثيرة إشكالية تموين المؤسسات الإسلامية من قبل الدولة على غرار باقي الديانات المعترف بها رسميا، قصد سد باب أي تدخل مالي أجنبي في سويسرا .. من جهة أخرى أكد أحد الأساتذة المتدخلين على قضية ضرورة الإعتراف بالديانة الإسلامية كمثيلاتها اليهودية والمسيحية، خاصة في الوضع الحالي للعالم، وهذا الإعتراف قد يفتح “لهذا الدين الوافد لأوروبا للخروج لنور العلن من سواد الأقبية الموحش، التي طال بالسياسة ليلها ” والمساهمة في بناء الوطن الواحد من الجميع، لأن أوروبا في حاجة ماسة لكافة سواعد مواطنيها على اختلاف دياناتهم وأعراقهم..  

و في الختام ، وبعد إستراحة بيع الكتاب وتوقيعات الإهداء، همس في أذني أحد المثقفين الغربيين ناصحا بضرورة دعوة الجالية المسلمة لهذه “الأقلام المستقلة” في ندوات خاصة قادمة و ضرورة ترجمة بعض كتبهم، منها خصوصا كتابي «ما الذي تبقى من الغرب؟» لـ”ريجيس دوبري” و«من أجل المسلمين» لـ”إدوي بلنيل” وغيرها من مثل هذه المراجع المهمة، للغات عدة خاصة منها للغة العربية.

وبدوري أهمس في أذن الخيرين عموما و من العرب خصوصا، آملا أن تتبنى في الجزائر بعض دور النشر ولو بإيعاز من “جمعية العلماء” لترجمة هذه المراجع النفيسة لتنوير و ترشيد أجيالنا الصاعدة، والله يجازي المبادرين من الخيرين المحسنين.

محمد مصطفى حابس
1 ديسمبر 2014

الإحالات:

(1) كتاب “ما الذي تبقى من الغرب؟”، ريجيس دوبري

Régis Debray: « Que reste-t-il de l’Occident ? »,avec Renaud Girard, Grasset, 2014

(2) كتاب “من أجل المسلمين”، إدوي بلنيل، 2014

Edwy PLENEL: « Pour les musulmans », Ed. La Découverte, Paris 2014, 135 pages.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version