الفرق بين الجيوش في الدول المتخلفة والمتقدمة هو أن الجندي في الدول المتقدمة يتمتع بهامش ولو ضئيل من حرية مناقشة القرارات الصادرة عن قياداته رغم الصرامة المعهودة للمؤسسة العسكرية، في حين أن نظيره في الدول المتخلفة تحول إلى آلة مجردة من القيم مبرمجة للفتك والقتل والتدمير والتنكيل وفق رغبة قياداته، وهذا ما يجعله يرتكب كل الجرائم دون تأنيب من الضمير بحجة أنه ينفذ الأوامر، لتتحول تلك الجيوش إلى عصابات من المافيا بحجم دولة تتمتع بثرواتها وتسخر قوانينها ومؤسساتها لفائدة عرابيها.

ولهذا، لم يتطلب انتقال الأمم التي تحترم الفرد إلى النظام الديمقراطي الشيء الكثير على عكس غيرها من الأمم الأخرى التي لا تزال تبحث عن ذاتها نتيجة الصراع الأزلي المفتعل لديها: أيهما أهم الوطن أو الزعيم؟

ففي الدول المتحضرة يمشى القائد العسكري خلف الرجل المدني ليس رهبة منه وإنما احتراما لشيء اسمه القانون، بينما لا يقيم العسكريون عندنا قيمة لشيء اسمه مدني لأنهم لا يرون الوطن إلا من خلال البذلة العسكرية والخوذة والرشاش و”نفذ يا عسكري ولا تناقش” لوجود شعوب ترضى أن تُعامل كرعاع بسبب عشقها للعبودية وعيشها تحت ظلال البيادة.

ولهذا، تحولت الجرائم عند المحسوبين على الإنسانية من عسكريينا إلى جزء من العمل العسكري لعدم قدرتهم على التمييز بين ما هو أمر وما هو راجع للضمير والقيم البشرية.

من البديهي أن يقظة الضمير عند أصحابه لا يعنى أنهم لا يحسنون فنون الإبادة أو أنهم ألِفوا التمرد عن قادتهم، ولكن هناك شيء اسمه “الثقافة” تحكم سلوك الفرد وتحول دونه ودون أن يكون مجرد آلة للبطش والتنكيل تضيف في بعض الأحيان سرعة أوتوماتيكية من أجل أداء أفضل.

في “تونس” نجحت الثورة لأن الجندي التونسي يختلف اختلافا جوهريا عن غيره من الجنود العرب، لأنه تعلم أن يفرق بين المواطن وحدود الوطن والمسؤولين، فلم نشاهد قتلا جماعيا رغم أنها ثورة عربية في دولة عربية ناشئة كغيرها من الدول العربية الأخرى التي لا تختلف عنها إلا في كون أن الثقافة علّمت الجندي أن الوطن من المواطن وأن لا قيمة للأمة إذا كان الفرد فيها مهان لا وزن له ولا قيمة مصيره الضياع والتهميش. لأن الخراب لم يطال الثقافة والعقل بل مورس في حدود الأيديولوجية السياسية مع صون كرامة الفرد وآدميته. وهذه إحدى مزايا العلمانية.

فـ “تونس” وكذا “تركيا” لم يحكمها رجل فاجر ملحد يتظاهر بالعروبة والإسلام كل همّه أن يحول بين العبد وربه لأنه أعجز من أن يقود وطنه وشعبه إلى بر الأمان أو لأنه خائن لا يرغب في هذا أصلا، بل أعاد للتونسيين آدميتهم التي مكّنتهم من التصدي لكل التحديات وعدم الانزلاق في وحل الصراعات الطائفية والعرقية والثقافية التي تؤججها النظم العميلة خدمة لمصالحها ومصالح عرابيها.

وليس من المفارقات أن نجد أن السجون في الدوَل التي تتغنى بحقوق الإنسان تفوق أضعاف المرات، السجون في غيرها من الدوَل لأن السجون في الأولى لا يدخلها إلا مجرمو القانون العام بينما في الأخرى هي معدة أساسا لسجناء الرأي لأن غيرهم أدوات في أيدي الأنظمة تسخرها متى أرادت وكيفما أرادت.

ولهاذا، نجد أن النظم المستبدة تلجأ كخطوة أولى في مواجهة الثورات إلى فتح أبواب السجون لتمكين اللصوص وقطّاع الطرق وشذاذ الآفاق من الفساد في الأرض وتعطيل الثورات من خلال ضرب المجتمعات في العمق كأفضل السبل وأقلها كلفة لقيادة الثورات المضادة وإجهاض كل حراك تحرري بدعوى حماية الوطن من الحرب الأهلية والأخطار الخارجية التي تهدده والقوى المتربصة به.

محمود حمانة
13 سبتمبر 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version