مرة أخرى، كشفت المجازر الصهيونية بحق الأطفال والنساء والشيوخ الفلسطينيين العزل عن حقيقة الكيان الصهيوني الغاصب، وهي صفحة جديدة في سجله الإجرامي الوحشي، والتي زادت من الوعي العالمي بطبيعة هذا الكيان وسياساته اللاإنسانية.

ولا شك أن العدوان الإسرائيلي الواسع على قطاع غزة في شهر رمضان الفضيل  وبعده بأسبوع، وفي ظل الظروف الصعبة التي تمر بها المنطقة، والأزمات الداخلية التي تعاني منها الدول العربية والإسلامية، يرمي إلى تحقيق أهداف خبيثة، إذ تختبر حكومة نتنياهو من خلال هذا العدوان وعبر استغلال هذه الأوضاع الإقليمية، إمكانية تنفيذ مشاريعها السابقة الفاشلة، علها تتمكن في ظل الأوضاع الإقليمية المتدهورة، والصمت الدولي المطبق، وانحياز الإدارة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية للكيان الصهيوني، من تنفيذ ما عجزت عن تحقيقها خلال السنوات المنصرمة عبر الحصار وحربي 2008 و2012م.

و في أوروبا رغم تبرع بعض الدول بـكميات معتبرة من المساعدات الطبية والإغاثية هذه السنوات الأخيرة لضحايا غزة، لم تنجو سويسرا الدولة ذات السياسة المحايدة من سياط ألسنة وشعارات المتدخلين بالتظاهرة الوطنية التي دعت إليها أحزاب وتنظيمات وشخصيات مطالبة سويسرا بالحزم في موقفها مع الدولة العبرية..

ولئن بارك بعض المسئولين السويسريين خاصة من أحزاب اليسار،  البيان الصادر عن الأمم المتحدة، الذي دعا إلى فتح تحقيق دولي مستقل ومحايد حول انتهاكات القانون الدولي الإنساني في الأراضي الفلسطينية المحتلة و المجازر المرتكبة في حق المدنيين بقطاع غزة، من أطفال وشيوخ ونساء، فإنهم يُـصِـرون على أن “لا ينحصر دور سويسرا في الشرق الأوسط في حدود المجال الإنساني فقط، بل عليها أن تنخرط بشكل أكبر في البحث عن حل دائم، ولن يكون ذلك إلا من خلال تنفيذ القرارات الدولية وإقامة دولة فلسطينية حرّة ومستقلة على جميع الأراضي التي احتلّـت سنة 1967، الأمر الذي أغضب السفير الإسرائيلي في جنيف، وأخرجه  كعادته من جلسة قاعة محاضرات الأمم المتحدة، فأمام صمت غير مسبوق من المجتمع الدولي وتواطؤ معلن أحيانا، لاحظ السويسريون تواصل آلة الدمار الصهيوني عدوانها على قطاع غزة في جريمة إبادة جماعية، وبعد أن وصل الاعتداء على المحاصرين في غزة حدودًا لا يمكن لكل غيور أن يسكت عنه أو أن يدير وجهه ويكتفي بالتعاطف القلبي، ما يواجهه مليون ونصف مليون فلسطيني هناك في الظلام الحالك والحصار الخانق والقصف المتواصل، أمام هذا الوضع المأسوي خرج ألاف السويسريين في العديد من كبرى المدن السويسرية خلال هذه الأسبوع، بحيث تجمهر آلاف المتظاهرين  بالعاصمة بارن ومثله أو أقل نوعا ما في باقي المدن كجنيف ولوزان وزيوريخ وبازل، حيث رفعت شعارات بلغات مختلفة كالعربية والإنكليزية، إضافة للغات الرسمية الأربع السويسرية (الألمانية – الفرنسية – الإيطالية والرومنشية) مطالبة برفع الحصار على غزة وكف مسلسل المجازر في حق الأبرياء وتحرير فلسطين ومقاطعة الدولة العبرية اقتصاديا وسياسيا، كما رفعت شعارات عربية منها على سبيل المثال:

يا عرب يا أصحاب الجلالات.. يا أصحاب الفخامات بكفي الأمة اهانات!! قولوا قولوا يا أحرار.. لا لا للعار.. لا لا للحصار… اللهم إليك نشكو ضعف قوتنا، وقلةَ حيلتنا…أنت رب المستضعفين … الله أكبر على من طغى و تجبر .. إلخ.

و باللغات الفرنسية و الألمانية شعار “كلنا فلسطينيون” و”إسرائيل دولة إرهابية” وشعارات أخرى داعمة لصمود الفلسطينيين في غزة، ردّدها المتظاهرون الذين جاؤوا من مختلف المقاطعات، رغم حرارة الطقس أحيانا وصيام المسلمين في أواخر رمضان وأيام شوال، وصعوبة الوصول عن طريق السيارات والقطارات والحافلات، التي اكتظت بها ساحات التجمهر الكبيرة أمام مبنى الأمم المتحدة ..

تقدم التظاهرة رؤساء أحزاب سويسرية وبرلمانيون وحقوقيون و رؤساء منظمات إنسانية و خيرية، بعدها بدأت التدخلات  حيث طالب برلماني سويسري حكومة بلاده  بالضغط على الحكومة الإسرائيلية وقطع التعاون العسكري والإقتصادي معها، وأيضا بالعمل، بوصفها “راعية لإتفاقيات جنيف”، على تقديم القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية.

من جهته قال ممثل حزب الخُـضر مخاطبا الجموع الغفيرة “أدعو الحكومة الفدرالية إلى التدخل لدى الحكومة الإسرائيلة لإيقاف عملياتها العسكرية فورا في غزة”.. “إننا ندين كل تدخل عسكري يؤدّي إلى سقوط ضحايا في صفوف المدنيين.”

كما دعا الناطق باسم “تحالف الطوارئ من أجل فلسطين” إلى “إيقاف الأعمال العدائية في غزة وإلى رفع الحصار عنها وإلى وقف التعاون العسكري بين سويسرا وإسرائيل.”

من جهته دعا متحدث باسم “منظمة الهجرة الدولية بجنيف”، إلى العناية بالمشردين الفلسطينيين، مذكرا بأن” مذابح غزة تكرار لما جرى في لبنان وجنين و كل الجرائم البشعة التي ينجر عنها ليس فقط موتى و دمار، فالميت مرتاح بشهادته، لكن الذين يتعبون من بعده هم ذووه، آلاف المهجرين قصرا والنازحين الذين سوف يعيشون حياة أقل ما يقال عنها في مثل هذا الفصل البارد أنها حياة رحل من العراء إلى العراء ..”

كما أشاد النائب البرلماني ممثل الحزب السويسري للعمل، الذي شارك سابقا في حملة كسر الحصار على غزة عن طريق باخرة الكرامة، بما أسماه “الصمود البطولي للمقاومة بغزة”، وقال: “نقف اليوم لنقول لإسرائيل وللمجتمع الدولي، كفى للقتل والدمار وكفي للتجويع والحصار، فما يحدث لغزة هو من أجل مصالح انتخابية داخلية في إسرائيل”، وأضاف: “نقول لحكومتنا، الشعب الفلسطيني يعاقَـب على اختياره الديمقراطي الحر الذي عبّر عنه في انتخابات 2006، وعلى سويسرا أن تقطع تعاونها العسكري والاقتصادي مع دولة الاحتلال.”

كما عبّر الأستاذ عبد المولى المحنجر، من حزب اليسار السويسري من أصول مغاربية، عن اعتقاده بأن “مواقف الحكومات العربية أمام ما يحدث في غزة، خيانة كبرى تفتقد إلى الجرأة والشجاعة المعروفة بها شعوبنا العربية”، وبحسب الناشط الاسلامي عبد الحفيظ الورديغي، الناطق الرسمي الاسبق باسم المسجد الكبير بجنيف، فإن “مأساوية الأحداث في غزة تستدعي مواقف أكثر حزما، ولا يكفي الحكومات التعبير عن إنشغالها أو التنديد بمخالفة وانتهاك قواعد القانون الدولي الإنساني.”

من جهته صرح لنا السويسري ريمون جورج البالغ من العمر سبعين سنة تقريبا (من حزب اليسار) والذي قاد مسيرة مدينة لوزان الأخيرة وسافر إلى فلسطين في العديد من المرات، ويعرف غزة وأهلها، قال لنا بصوت متعب:

“للمساعدةِ أبوابٌ عدَّة لن يعجز أحدنا عن اختيار أحدها، قصد تعرية جرائم الاحتلال الصهيوني والمشاركة – في هذه الحملة أو في غيرها- لتوعية الناس الذين لم يصلهم خبر شلال الدماء النازفة والهدَّارة، والبعد عن وسائل الإعلام التي تحاول النيل من الشعب ومن مقاومته بشتى الوسائل والطرق، بل والمحاولة ظلما لوضع الجلاد والضحية على نفس السلم، فالقنوات الغربية تفضل النقل عن القنوات الإسرائيلية الناطقة بلغات قريبة من المجتمع السويسري، أم النقل عن القنوات العربية فهذا أمر مستبعد وعذرهم في ذلك أن العرب منحزون لأبناء جلدتهم، وهذا خطأ لا أقبله كسويسري من جهة و كديمقراطي يميز بين الغث والسمين من جهة ثانية”.

أما الطالبة فاطمة الزهراء سويسرية من أصل جزائري فهي ترى أن “المشاركة في المُظاهرات والمسيرات والفعاليات التي تُقام؛ تُبقي القضية حيَّة، ورغم فائدتها البسيطة لأهل غزَّة إلا أنَّها تشحن نفوسنا وتزيد من غليانها، وتُربِّي جيلنا والجيل القادم على التمرد على الظالمين، وتزرع في نفوس الصغار الحاضرين منعنا اليوم، معاني خالدة من قبيل “الله غايتنا.. الرسول قدوتنا.. والقرآن دستورنا.. والموت في سبيل الله أسمى أمانينا”.

ثم أردفت قائلة إن من أسلحتنا الفتاكة اليوم هو: “مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، فإن كنا عاجزين عن دعم أهل غزة بالدواء والخبز، علينا أن نتوقف عن دعم الكيان الصهيوني بالسلاح لا شعوريا بشراء بضائعهم، التي تغزو كل الأسواق.. وعلى سبيل المثال أنا لا ولن أقتني من اليوم مواد تجميل أو عطور أو كل ما من وسعه أن يدعم لشراء قذيفة يقتل به طفل بريء في أي أرض كانت.. “

وعبّر جميع ممثلي المنظمات والجمعيات غير الحكومية وكذلك الحقوقيون الذين خاطبوا الحضور عن دعمهم الكامل والمتواصل لضحايا “العدوان الإسرائيلي”، وطالبوا “بوقف فوري لإطلاق النار وبرفع الحصار المضروب على السكان في غزة وفي الضفة على السواء، ودعوا إلى الضغط على إسرائيل من أجل سحب قواتها من جميع الأراضي المحتلة، كما دعوا الحكومة العربية والغربية إلى الكف عن التعاون مع دولة إسرائيل المتغطرسة، متمنين أن تسمع الحكومة السويسرية إلى نداء هذه الحشود وأن تبادر باتخاذ موقف أكثر حيادية.

وقناعة المتظاهرين المسلمين عموما في ديار الغرب أن غزة ستنتصر بإذن الله، وستهزم العدو وسترد كيده إلى نحره، وستطوي خططه، وستبطل سعيه، وستوقف بغيه، وستفشل هدفه، وستصد اعتداءه، وستواجه جيشه، وستتحدى جنوده، وستنهي خدمة ضباطه، وستعرض قادته للمساءلة والمحاكمة، وستنهي مستقبلهم السياسي والعسكري، إذ سيعاقبون وسيحرمون، وسيقصون وسيستقيلون.

وستثبت الأيام القليلة القادمة أن غزة ستنتصر، وأنها لم تعد ضعيفة، مكسورة الجناح، خائبة الرجاء، فقد أثبتت على الأرض قوةً وبسالة، وجرأةً وشجاعة، وقدرةً وإرادة، وتصميماً وعزماً، شهد بها العدو واكتوى، وأن الجرح الفلسطيني سيكون أقوى من السكين، وأن الدم المهراق سينتفض، وسيكون ثورةً لا تنطفئ، وأن الإرادة الفلسطينية ستتفوق، وستبقى قوية صلبة، وأن الكرامة الفلسطينية ستتحقق.

هذه المقاومة ستنتصر في هذه المعركة، والعدو يعلم أنها ستنتصر عليه، وإن كان يعلم أنه أقوى منها عدداً وسلاحاً، وعدةً وقدرة، وتفكيك كيانه مادياً، وشطب وجوده نهائياً، ولن تقوَ إسرائيل ومن معها من الحلفاء، العرب والغرب، على الوقوف ضد المقاومة الفلسطينية الباسلة، والتصدي لها.

سيُرفع الحصار عن قطاع غزة، وسيجبر الكيان والمحاصرون الآخرون على فتح المعابر، وستدخل البضائع والمؤن والمساعدات، وسيتدفق النفط والوقود والحديد والاسمنت، وسيعاد إعمار قطاع غزة، وستبنى بيوتها من جديد، وستتعمر مؤسساتها ومنشآتها، وستعبد طرقها وشوارعها، وسيسوى ركامها، وسيزول ردمها. وإن كان الجرح غائراً، والألم شديداً، والمعاناة كبيرة، والفقد عظيماً، والخسارة كثيرة، إلا أن الخاتمة ستكون بإذن الله سعيدة، ترضي الشعب، وتنسيه همومه، وتعوضه عما فقده، وتعيد إليه الأمل من الجديد، وما ذلك على الله بعزيز، إنه نعم المولى ونعم النصير، وسيفرح المؤمنون بنصر الله.

محمد مصطفى حابس
20 أوت 2014

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version