رحم الله الخليفة عبد المؤمن بن علي من خلفاء دولة الموحدين الذي أوصى أبناءه قبل وفاته قائلا “أوصيكم بالأيتام واليتيمة” فقال أبناؤه “ومن الأيتام واليتيمة؟” قال “اليتيمة هي الأندلس والأيتام هم أهلها”. واليتيم لغة هو الصغير الفاقد لأبيه وهذه الصفة هي الوصف الوحيد الذي يمكن أن نصف بها الأندلس عكس الكثير من المسلمين اليوم الذين يصفون الأندلس بالفردوس المفقود.

لكن ما لا يعرفه الكثير من المسلمين أنّ ما يسمى بمعارك الاسترداد التي أدّت إلى سقوط الأندلس هي أخطر فترة وأبشعها وأكثرها فظاعة في تاريخ المسيحية ومحاربة الإسلام والمسلمين.

فكانت فترة معارك الاسترداد هي بداية لضعف الأمة الإسلامية نتيجة الصراع على الحكم لا غير، عكس ما يقوله بعض المؤرخين من أنّ سقوط الأندلس جاء نتيجة أسباب أخرى كالترف والإسراف والبذخ، وذلك لأنّ الأمة الإسلامية آنذاك كانت قد بلغت من العلوم والطب والعمارة ما لم تبلغه الأمم الأخرى في عصرها.

لا بأس قبل أن نتحدّث عن أسباب سقوط الأندلس أن نذكر مراحل انتشار الإسلام منذ بدايته إلى غاية وصوله إلى الأندلس وبصفة خاصة انتشار الإسلام غربًا. نجد أنّ الإسلام قد انتشر في المناطق التي انتشرت فيها الإمبراطورية الرومانية والتي فقدت أغلب مستعمراتها غربًا قبل انتشار الإسلام وللتذكير إنّ الإمبراطورية الرومانية اتخذت المسيحية دينًا للدولة في القرن الثالث ميلادي فقط.

وللردّ على زعم الغربيين أن الإسلام قد جاء بالسيف – ونحن نقول هل دخلت جيوش الإمبراطورية الرومانية على هذه المناطق حاملة الورود؟ – نترك التاريخ يجيب، فالأرض التي انتشر فيها الإسلام كانت مستعمرات للإمبراطورية الرومانية، ورغم هذا استقر فيها الإسلام ولم تستقر فيها المسيحية.

أمّا الأندلس، كما ذكرت سابقا، فقد شهدت حربا شرسة تقودها الكنيسة الكاثوليكية بزعامة الملكَين الكاثوليكيَين فرديناند وإيزابيلا، عرفت أبشع أساليب الاضطهاد والتنكيل والطرد وحرق الكتب الإسلامية ومحو آثارها، ورغم كل ذلك حفظ التاريخ ما تركه أجدادنا من آثار تدلّ على حضارة إنسانية راقية لا يمكن إنكارها.

بعد سنوات طوال من الجهاد والقتال، حتى لا يقول الناس أنّ الأندلس ضاعت دون قتال وإنصافًا لأجدادنا ولتاريخهم المجيد العريق، وبعد حصار طويل لمدينة غرناطة، آخر قلعة إسلامية في بلاد الأندلس، وبعد اجتماع العلماء والفقهاء والقادة في قصر الحمراء، تمّ اختيار الوزير أبي القاسم عبد الملك لمفاوضة الملك فرديناند على شروط التسليم. وفي يوم الجمعة 21 محرم سنة 897 ه الموافق لـ 25 من نوفمبر سنة 1491م، قام أبو عبد الله الصغير، آخر ملوك بني الأحمر، بإمضاء اتفاقية يتنازل فيها عن عرش مملكة غرناطة وعن جميع حقوقه، غير أنه حاول توفير بعض الامتيازات لرعاياه من مسلمي الأندلس بإمضاء معاهدة تضمّنت سبعة وستين شرطًا من أهمها:

“أن للمورسكيين أن يحتفظوا بدينهم وممتلكاتهم وأن يخضع الموريسكيون لمحاكمة قضاتهم حسب أحكام قانونهم وليس عليهم ارتداء علامات تشير لكونهم موريسكيين كما هو الحال مع عباءة اليهود. ليس عليهم دفع ضرائب للملكين المسيحيين تزيد على ما كانوا يدفعونه. لهم أن يحتفظوا بجميع أسلحتهم ما عدا ذخائر البارود. يحترم كل مسيحي يصبح موريسكي ولا يعامل كمرتدّ. إن الملكَين لا يعيّنا عاملًا إلا من كان يحترم الموريسكيين ويعاملهم بحبّ وإن أخل في شيء فإنه يغيّر على الفور ويعاقب، وللمورسكيين حقّ التصرّف في تربيتهم وتربية أولادهم.”

ولقد تعهّد الملكان الكاثوليكيان في المعاهدة وبنفس تاريخ توقيعها بما يلي:

“أن ملكي قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكي، القيام بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بختميهما.”

ولقد كرّر هذا بعد ذلك بسنة في ربيع الأول سنة 898 ه الموافق لـ سنة 1492 م بتوكيد جديد بمثابة تجديد للعهد ويضمنان مرة أخرى بدينهما وشرفهما الملكي بالمحافظة على المعاهدة.

لكن ما إن استتبت الأمور للملك حتى بدت نواياه الخبيثة وأوّل الغدر كما يقال كان تحويل مسجدي الطيبين والحمراء إلى كنائس ومسجد غرناطة الأكبر إلى كاتدرائية. ثم جاء الدور على المسلمين من أصل أسباني أي النصارى الذين أسلموا ومعاملتهم بالمرتدين والزج بهم في السجون وتنصيرهم بالقوة، ثم جاء تحويل كل المساجد إلى كنائس ثم جاء دور انتهاك الحرمات.

وبعد فشل كل محاولات التنصير والاضطهاد جاء دور محاكم التفتيش، أو قل إن شئت محاكم إبادة الإسلام والمسلمين، وصلت إلى غاية إقامة حفلات إحراق المسلمين أحياء، واستمرّ هذا العذاب أكثر من قرن عرفت عدة ثورات قام بها المسلمون طيلة هذه المدة إلى غاية 1609 ميلادي حيث قام الملك فيليب الثلث ملك أسبانيا بعملية طرد جميع المسلمين استغرقت قرابة خمس سنوات إلى غاية 1614 م تم فيها طرد كل المسلمين نهائيا من أسبانيا أو الأندلس.

كيف لنا أن نقول أو نحكم اليوم على أجدادنا الذين جاهدوا لقرون عديدة لإعلاء كلمة الحق، الله أكبر، وصبروا لأكثر من قرن من اضطهاد وطغيان ملوك أسبانيا ومحاكم تفتيش الكنيسة الكاثوليكية ولم يرتدوا عن دينهم.

لقد عرفت الأندلس أكبر حرب على الإسلام ولم تعرف أبدًا استسلامًا أو خذلانًا من أهلها، كذلك كان الاستعمار الصليبي الفرنسي للجزائر وافتخارهم بهذا الاحتلال بإصدار قانون تمجيد الاستعمار، أو الغزو الأمريكي الصليبي للعراق وافتخار السفاح بوش بغزوه واعتباره تصرفًا صائبًا منح الشعب العراقي الحرية.

أخي، لا تبكِ ولا تتحسر على قصور الأندلس، لا تقل الفردوس المفقود بل التاريخ المجيد، لأنّ التاريخ يحفظ لها ذاكرتها، بل يجب أن تفتخر وتمجّد تاريخ أجدادك الذين تركوا بصمة حضارتهم ودينهم وإنسانيتهم وذكر كل من نسي أو لا يعلم من مسلمين وغير مسلمين ومن كان يريد القدوة فليقتدِ بما صنع الأجداد.

محمد العربي أوشن
عضو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين   
mohuniversel@yahoo.fr

تعليق واحد

  1. Abdelkader Dehbi بتاريخ

    RE: الأندلس، التاريخ المجيد
    [rtl]السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وشكر الله لكم مسعاكم هذا، من أجل انصاف إخواننا وأهلينا بل وأجدادنا الأندلس وكشف مواقفهم المشرفة طوال حملات الاسترداد التي كانت في الحقيقة امتدادا طبيعيا للحروب الصليبية التي لم تنته ولن تنتهي أبداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومغرورون هم، من لهم آراء أخرى في الموضوع…[/rtl]

Exit mobile version