إذا نظرنا إلى نصوص دساتير الدولة العربية، نجد بعضها يحاكي، بل ويبز دساتير الدنمارك والسويد والنرويج، بينما رؤية خاطفة إلى واقع هذه الدول يذكرنا بكوريا الشمالية وغيرها من دول الاستبداد. هذه الهوة السحيقة بين النصوص والواقع، ليس بدعة، بل سمة ملازمة لمعظم دول الاستبداد في العالم، خاصة في الوطن العربي. فإذا نظر المرء إلى نصوص دساتيرها يرى عجبا.

بمناسبة المشاورات التي تجريها السلطات في الجزائر، تمهيدا للتعديل الدستوري المرتقب، وجدت هذه السلطات نفسها في حرج، بعد رفض قطاع واسع المشاركة في هذه المشاورات، باعتبارها عبثية ومجرد هروب إلى الأمام نحو فرض أمر واقع.

وأمام هذا الموقف الرافض من الطبقة السياسية، ثمة من اعتبر ذلك استباقا للوضع، مستنكرا تشكيك الرافضين لهذه المساعي الجديدة، والحكم عليها مسبقا بالفشل، واعتبروا أن من شأن ذلك تفويت الفرصة على السلطة للبرهنة على صدق إرادتها، وللجواب على هذه التساؤلات سنتطرق إلى المسألة من جوانبها الثلاثة:

أولا، اتضح بما لا يرقى إليه الشك، أن السلطة القائمة لا تملك أي نظرة إستراتيجية لمستقبل البلاد، الثابت الوحيد عندها هو البقاء مهما كانت الوسائل والحيل التي تحقق لها ذلك، منها على سبيل المثال، ما تطرحه منذ ايام عن إصلاحات رنانة ظاهرية، بنفس الطريقة وذات الآليات، في حين أن المشكلة لم تكن يوما في نصوص الدساتير، لأنها كيفما كانت، ستحقق الغرض أو معظمه لو تم تطبيقها. المشكلة إذن في خرق هذه النصوص، من قبل السلطة التي اعتمدتها، ألم تكن السلطة في الجزائر هي من خرقت دستور 89 عند انقلابها على نتائج خيار ديسمبر/كانون الاول 1991، وتعيين المجلس الأعلى للدولة، هيئة لا وجود لها في الدستور، ليحل محل الرئيس المنقلب عليه، وتعيين هذا المجلس من قبل هيئة اقل منه شأنا (المجلس الأعلى للأمن). وكذلك خرق الدستور في 2008 عند تعديله، لفتح عدد عهدات الرئاسة التي كانت مقيدة في عهدتين، ليتمكن الرئيس الذي يفترض أنه حامي الدستور، من الظفر بعهدات لا متناهية، فما المانع إذن أن يتكرر الشيء نفسه بعد التعديل؟ ومن الضامن لعدم خرقه مجددا وبأعذار أخرى؟

هناك مؤشر آخر على غياب إرادة جادة في الإصلاح، فمجرد تعيين شخص مثل أويحيى لما يرمز إليه من تزوير، ومناهض لكل إصلاح حقيقي توافقي، ليدير عملية المشاورات، يعد مؤشرا على طبيعة هذا الدستور المرتقب والنظام الذي سينبثق عنه، بحيث جعل مراقبون يصفون ما يحدث بأنه عرس بعروس حامل حتى قبل عقد القران. كل هذه الحركات تؤكد إرادة السلطة للالتفاف، على كل المبادرات الساعية إلى التوصل إلى مخرج جاد. وقصد إجهاض هذه المساعي تعمل السلطة على بلقنة الساحة السياسية، من خلال توجيه الدعوة إلى أطراف «متنوعة» في ظاهرها، لا وجود فعليا لها، بغية تجاوز المشاركة الفعلية للمواطنين. فتوجيه الدعوة مثلا إلى بعض الوجوه التي ما لبثت هذه السلطة تصنفهم ضمن خانة الإرهاب، يثير بدوره الشكوك حول مغزى هذه الدعوة، بينما يرى فيها آخرون محاولة لإعطاء الانطباع بأن السلطة لم تقص هذه الشريحة، وهي في الحقيقة التفاف آخر من خلال دعوة أشخاص أصبحوا ورقة يستعملها النظام، ولم يعودوا يمثلون الجبهة الإسلامية، خاصة بعد إقصائهم من هذا الحزب. والشيء مثله عند التفافها على رفض أحزاب المعارضة، المشاركة في مشاورات السلطة، من خلال دعوة العشرات من المنظمات والجمعيات التي يختصر وجودها في اعتمادها الرسمي من قبل الداخلية.

ثانيا: في المقابل، الغريب في حجج وذرائع المستجيبين لدعوات السلطة إلى التشاور أنهم في كل مرة يقولون انهم لا يحبذون سياسة الكرسي الشاغر، وحرصهم على التغيير يفرض عليهم المشاركة وتجنب الأحكام المسبقة قبل «تمحيص» نوايا السلطة، لكنهم سرعان ما يخرجون في كل مرة بحسرة ومرارة، ونراهم يوجهون سيلا من الانتقادات لهذه السلطة، كونها لم تأخذ بآرائهم، أو اتهامها بالانفراد بالرأي واستغلالهم، كما يتهمونها بالتزوير عقب مشاركتهم في انتخابات كانت تبدو للجميع انها تحمل كل مقومات التزوير، وكأنهم يجهلون أن السلطة قائمة أصلا على هذا الأساس، ولا يمكن للمشاركين أن يغيروا لا في طبيعتها ولا نتائج مخططاتها، لأن الدعوة لم تكن يوما ترمي إلى إشراك المدعوين للمناقشة، بقدر ما كانت مساحيق يراد من خلالها إضفاء قدر من الشرعية على نصوص دبجت في مخابر مظلمة، ثم تعرض على الملأ، في صورة دساتير تمت بمشاركة الأحزاب والمنظمات والشخصيات.

وهنا تتحمل المسؤولية الطبقة السياسية التي طالما انتقدت أساليب السلطة وأدانت طريقة تسييرها دفة الحكم وحيلها، حيث نرى هذه الطبقة التي تدعي السعي إلى التغيير الفعلي، تتهافت وتهرول في كل مرة، لتستجيب لدعوة المضيف بحجة إسماع صوتها، وكأنها لم تخبر تلك الحيل من قبل. ولا ينفع بعد ذلك تنديدها وتبريراتها، خاصة أن مشاركتها تشكل أقوى داعم لهذه السلطة التي تستخدمها ككل مرة بدون أن تتعظ. لم يعد هناك مجال للمخادعة، فكل مشارك يشارك في واقع الأمر بإرادته وضمن حساباته التي لا علاقة لها بإرادة التغيير، وليس هناك حل آخر لمن أراد التغيير الفعلي سوى قطع الصلة بكل أجهزة ومجالس السلطة فهو الأمر الكفيل وحده بعزل هذه السلطة وحرمانها من الذرائع والحجج التي تستخدمها، وتوظيف الأحزاب لاستمرارها في الحكم.

ما السبيل إذن؟ المقاطعة الفعلية وحدها تستطيع إخضاع السلطة لإرادة الشعب. فرق بين استشارة ومشاورة، الأولى شكلية استعراضية غير ملزمة وتفرضها السلطة ترهيبا وترغيبا، ولا يسهم فيها المشاركون سوى بالمباركة، بينما المشاورة تكون ملزمة، ويشارك في وضع نصوصها كافة الأطراف، بدون انتقاء أو إقصاء، ويكون لكل المشاركين نفس الحق في الاقتراح، تقريرا ومعارضة، على أن يتم ذلك إما من خلال مجلس تأسيسي او لجنة تنفيذية تعد المسودة التي يتم التشاور حولها قبل اعتمادها، بحيث تكون جميع الأطراف، من سلطة ومعارضة، على قدم المساواة، بما يضفي على ما يتمخض عنها المصداقية ويكسبها ثقة والتفاف المواطنين حولها، ويضع حدا لما دأبت عليه السلطة من تحكم مطلق، في مصير البلاد.

ومن هذا المنطلق خلص العديد من الجهات المطالبة بالتغيير الفعلي، إلى ضرورة وجود مجلس تأسيسي يجمع ممثلين من كافة أطياف الشعب للخروج بأرضية توافق تمهد الطريق لمرحلة انتقالية، تضع حدا لانفراد السلطة عبر مخططاتها التي لا تصبو في نهاية المطاف إلا إلى التجديد لنفسها بحيل لم تعد تخدع أحدا. وخشية منها اجتماع كلمة المطالبين بمرحلة انتقالية عبر مجلس تأسيسي، تقوم السلطة بجهود حثيثة لإجهاض توحيد «كلمة» المعارضة، ومحاولة تفجيرها، بعدما تفطنت المعارضة وأدركت أن الحل بين يديها وخارج بوتقة مراوغات السلطة، على غرار العقد الوطني في 95 الذي جمع المعارضة الجادة وكان سيوقف النزيف وإعادة البلاد إلى جادة الصواب لولا مكر السلطة وتواطؤ جهات عدة لإجهاض المبادرة.

د. رشيد زياني شريف
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد ـ الجزائر
27 ماي 2014

صدر المقال في يومية القدس العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version