هذا نص أول خطبة جمعة بمسجد كتشاوة بعد الاستقلال، يوم الجمعة 6 يوليو 1962 على الارجح،  للشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله..

الحمد لله ثم الحمد لله، تعالت أسماؤه وتمت كلماته صدقا وعدلا، لا مبدل لكلماته، جعل النصر يتنـزل من عنده على من يشاء من عباده، حيث يبتليهم فيعلم المصلح من المفسد، ويعلم صدق يقينهم وإخلاص نياتهم وصفاء سرائرهم وطهارة ضمائرهم. سبحانه وتعالى، جعل السيف فرقانا بين الحق والباطل، وأنتج من المتضادات أضدادها، فأخرج القوة من الضعف وولّد الحرية من العبودية وجعل الموت طريقا إلى الحياة، وما أعذبه إذا كان للحياة طريقا، وبايعه عباده المؤمنون الصادقون على الموت، فباءوا بالصفقة الرابحة، واشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا.

سجانه تعالى جده، تجلى على بعض عباده بالغضب والسخط فأحال مساجد التوحيد بين أيديهم إلى كنائس للتثليث، وتجلى برحمته ورضاه على آخرين فأحال فيهم كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد، وما ظلم الأولين ولا حابى الآخرين، ولكنها سنته في الكون وآياته في الآفاق يتبعها قوم فيفلحون، ويعرض عنها قوم فيخسرون.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله شرع الجهاد في سبيل الله، وقاتل لإعلاء كلمة الله حتى استقام دين الحق في نصابه وأدبر الباطل على كثرة أنصاره وأحزابه وجعل نصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة منوطا بالإيمان والصبر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل متبع لهداه داع بدعوته إلى يوم الدين.

ونستنزل من رحمات الله الصيبة، وصلواته الزاكية الطيبة لشهدائنا الأبرار ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمة الدين وعزة الإسلام وكرامة الإنسان وحقوق الوطن.

واستمد من الله اللطف والإعانة لبقايا الموت وآثار الفناء ممن ابتلوا في هذه الثورة المباركة بالتعذيب في أبدانهم والتخريب لديارهم والتحيف لأموالهم.

وأسأله تعالى للقائمين بشؤون هذه الأمة ألفة تجمع الشمل، ووحدة تبعث القوة ورحمة تضمد الجراح، وتعاونا يثمر المنفعة، وإخلاصا يهون العسير، وتوفيقا ينيرالسبيل، وتسديدا يقوم الرأي ويثبت الأقدام وحكمة مستمدة من تعاليم الإسلام وروحانية الشرق وأمجاد العرب، وعزيمة تقطع دابر الاستعمار من النفوس، بعد أن قطعت دابره من الأرض.

ونعوذ بالله ونبرأ إليه من كل داع يدعو إلى الفرقة والخلاف، وكل ساع يسعى إلى التفريق والتمزيق وكل ناعق ينعق بالفتنة والفساد.

ونحيي بالعمار والثمار والغيث المدرار هذه القطعة الغالية من أرض الإسلام التي نسميها الجزائر، والتي فيها نبتنا، وعلى حبها ثبتنا، ومن نباتها غذينا وفي سبيلها أوذينا.

أحييك يا مغنى الكمال بواجب وأنفق في أوصافك الغر أوقاتي

يا اتباع محمد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هو التاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرز من كتابها.

وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد وعاد التوحيد إليه فالتقيتم جميعا على قدر.

إن هذه المواكب الحاشدة بكم من رجال ونساء يغمرها الفرح ويطفح على وجوهها البِشر لتجسيمٌ لذلك المعنى الجليل، وتعبيرٌ فصيح عنه، وهو أنّ المسجد عاد للساجدين الرُكع من أمة محمد، وأن كلمة لا إله إلا الله عادت لمستقرها منه كأن معناها دام مستقرا في نفوس المؤمنين، فالإيمان الذي تترجم عنه كلمة لا إله إلا الله، هو الذي أعاد المسجد إلى أهله، وهو الذي أتى بالعجائب وخوارق العادات في هذه الثورة.

وأما والله لو أن الاستعمار الغاشم أعاده إليكم عفوا من غير تعب، وفيئة منه إلى الحق من دون نصب، لما كان لهذا اليوم ما تشهدونه من الروعة والجلال.

يا معشر الجزائريين: إذا عدت الأيام ذوات السمات، والغرر والشيمات في تاريخ الجزائر فسيكون هذا اليوم أوضحها سمة وأطولها غرة وأثبتها تمجيدا، فاعجبوا لتصاريف الأقدار، فلقد كنا نمر على هذه الساحة مطرقين، ونشهد هذا المشهد المحزن منطوين على مضض يصهر الجوانح ويسيل العبرات، كأنّ الأرض تلعننا بما فرطنا في جنب ديننا، وبما أضعنا بما كسبت أيدينا من ميراث أسلافنا، فلا نملك إلا الحوقلة والاسترجاع، ثم نرجع إلى مطالبات قولية هي كل ما نملك في ذلك الوقت، ولكنها نبّهت الأذهان، وسجلت الاغتصاب وبذرت بذور الثورة في النفوس حتى تكلمت البنادق.

أيها المؤمنون: قد يبغي الوحش على الوحش فلا يكون غريبا، لأن البغي مما ركب في غرائزه، وقد يبغي الإنسان على الإنسان فلا يكون ذلك عجيبا لأن في الإنسان عرقا نزاعا إلى الحيوانية وشيطانا نزاغا بالظلم وطبعا من الجبلة الأولى ميالا إلى الشر، ولكن العجيب الغريب معا، والمؤلم المحزن معا، أن يبغي دين عيسى روح الله وكلمته على دين محمد الذي بشّر به عيسى روح الله وكلمته.

يا معشر المؤمنين: إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية فإنّ المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.

أيها المسلمون: إنّ الله ذمّ قوما “وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ” – البقرة 114 -، ومدح قوما “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ” – التوبة : -18

يا معشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك)، فهو قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.

يا معشر الجزائريين: إنّ الثورة قد تركت في جسم أمتكم ندوبا لا تندمل إلا بعد عشرات السنين وتركت عشرات الآلاف من اليتامى والأيامى والمشوهين الذين فقدوا العائل والكافل وآلة العمل فاشملوهم بالرعاية حتى ينسى اليتيم مرارة اليتم، وتنسى الأيم حرارة الثكل، وينسى المشوه أنّه عالة عليكم، وامسحوا على أحزانهم بيد العطف والحنان فإنّهم أبناؤكم وإخوانكم وعشيرتكم.

يا إخواني: إنكم خارجون من ثورة التهمت الأخضر واليابس، وإنكم اشتريتم حريتكم بالثمن الغالي، وقدمتم في سبيلها من الضحايا ما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض قديما ولا حديثا، وحزتم من إعجاب العالم بكم ما لم يحزه شعب ثائر، فاحذروا أن يركبكم الغرور ويستزلكم الشيطان، فتشوهوا بسوء تدبيركم محاسن هذه الثورة، أو تقضوا على هذه السمعة العاطرة.

إنّ حكومتكم الفتية منكم، تلقت تركة مثقلة بالتكاليف والتبعات في وقت ضيق لم يجاوز أسابيع، فأعينوها بقوّة، وانصحوها في ما يجب النصح فيه بالتي هي أحسن، ولا تقطعوا أوقاتكم في السفاسف والصغائر، وانصرفوا بجميع قواكم إلى الإصلاح والتجديد، والبناء والتشييد، ولا تجعلوا للشيطان بينكم وبينها منفذا يدخل منه، ولا لحظوظ النفس بينكم مدخلا.

وفقكم الله جميعا، وأجرى الخير على أيديكم جميعا، وجمع أيديكم على خدمة الوطن، وقلوبكم على المحبة لأبناء الوطن، وجعلكم متعاونين على البر والتقوى غيرمتعاونين على الإثم والعدوان.

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَايُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور)

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم وهو الغفور الرحيم

تعليق واحد

  1. بشير بتاريخ

    خطبة البشير الإبراهيمي
    خطاب الروح والعقل
    من الإبراهيمي البشير إلى شعب الجزائر الكليم
    أبدأ من أن الجرح لم يندمل ، كم كان الدم منهمرا ، ارتوت منه الأرض ، بحرها ، صحراءها وتلالها ، الأشجار والحجر ، إلا أن الجرح لم يندمل ، دمع الأم لم ينهمر ، حياء من الدم المنهمر ، دمع الثكلى انحبس ، حياء من الدم المسكوب ، والعرض المنتهك ، وهامة القائد المشنوق ، خرج الشعب ذات يوم يبتهج ، رغم الجراح والألم ، لم ينطق سوى باسم الأم ، جزائر ، جراحها لم تندمل ، كليمه والله ، بشعبها الكليم ، لم يقل سوى أمي ، عرضي ، حياتي ، دمي ، دمعي ، كرامتي ، وحدتي ، أملي . حينها نادها البشير ، بعد أن قبل جبينها وسلم على خدها ، وطلب الإذن منها ، وهي تراه في مرآتها ، دامعا من غير دمع ، متألما من غير جرح ، سألته عن دمعه ، وعن جرحه ، سألته عن ذاكرته وعن حضوره ، إني أراك هائما مرتبكا ، ماذا أصابك أيها الابن البار ، لم أعهد فيك مثل هذا ، أمام شراسة الاستعمار ، قبلها من جديد ، وراح يذكر لها الإخوة والأحباب والجيران والأصحاب ، في شوق ، أما الدموع المحبوسة فبسبب دموع الأحياء ، وأما الارتباك ، فهو من شدة ألم الفراق ، ليس فراق الدنيا وزخرفها ، بل لفراق أولئك الذين طلقوا الدنيا وزخرفها ، لما ساومهم الاستعمار وعرض عليهم مثل الذي عرضته ذات يوم قريش على عم رسول صلى الله عليه وسلم ، وروى الرواية بقوله ، حيث جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : أرأيت أحمد ؟ يِؤذينا في نادينا ، وفي مسجدنا فانهه عن أذانا ، فقال يا عقيل ، ائتني بمحمد ، فذهبت فأتيته به ، فقال : يا ابن أخي إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ، وفي مسجدهم ، فانته عن ذلك ، قال : فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء ثم قال : يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ما تركته . فقال أبو طالب : ما كذب ابن أخي ، فارجعوا . ففتح الإبراهيمي عينيه وحلق ببصره في وجه أمه ، وقال : لم أنس هذا يا أماه ، إلا أن الذي أخشاه ، أن تلعب الدنيا ببقايا الموت وآثار الفناء من إخواني الذين كتب لهم الله الحياة ، من أن تغرهم الدنيا فيتنافسوها ، فتهلكهم كما فعلت بمن كان قبلهم . ثم قرأ بين يديها الحديث النبوي الذي رواه البخاري ومسلم ، عن عقبة بن عامر : ” أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ، ثم أنصرف إلى المنبر فقال : إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض ، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها “. صدق رسول الله ، والمقصود بالصلاة التي صلاها رسول الله فهي كصلاة الميت ، أي دعاؤه لأهل أحد ، وقد كان هذا بعد سبع سنين من استشهادهم رضوان الله عليهم . ثم قبل البشير أمه من الخد ومن الجبين وصلى على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت إلى يمينه وكأنه يستأذن من رجل في قامة الرائد والقائد والمعلم ابن باديس ، فحمد له الله عبد الحميد ، وأذن له بالخروج ، فاخذ الإبراهيمي البشير يتأمل ، وكأنه يستحضر أحداث السنين السبع لثورة التحرير ، والسنين الطوال والعجاف ، من قبل ، التي طواها الزمن من عمر الناس ، وملأها الاستعمار ظلما وعارا ودمارا . ثم بقينا ننتظر حتى صعد الإبراهيمي المنبر وأخذ يكلم الناس ، كان ذلك من يوم جمعة من جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة التي أخذت اسمها من اسم أمها الجزائر ، ولم ترض ، بعد أن صلت على رسول الله ، سوى بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبالعربية لغة القرآن لغة بيان وسلام . كان ذلك في السادس من شهر يوليو من سنة 1962 للميلاد . إنني جد منهك ، تنافس الإخوة على الدنيا رهيب ، لذلك سوف أحيلكم إلى موقع معهد الهوقار بجنيف ، وتحديدا : صفحة منبر حر ، لتقرؤوا .

Exit mobile version