تلقت “مؤسسة السننية للدراسات الحضارية” كما تلقى الجزائريون عامة والنخبة المثقفة منهم خاصة، نبأ وفاة شيخ المؤرخين الجزائريين الأستاذ الدكتور أبي القاسم سعد الله رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من جنته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فحزن أعضاؤها كثيرا على ما انقطع بوفاته من علم ومعرفة وقدوة وجهاد رسالي نموذجي، نحن في أمس الحاجة إليه، في مرحلة تتعرض فيها هويتنا الثقافية وأمننا الاجتماعي والحضاري لتحديات كبيرة وخطيرة، ظل رحمه الله يواجهها طيلة حياته، من خلال مرابطته النموذجية في ثغر بناء الوعي التاريخي لأجيال المجتمع، باعتباره الشرط القاعدي الأساس لاستكمال استقلالنا الوطني وحمايته من ناحية، والتخلص من مركبات وعقد الدونية والاستلابية الثقافية والحضارية من ناحية أخرى، والانفتاح الواعي على الثقافات والخبرات العالمية بروح المساهمة والمنافسة من ناحية ثالثة، واستثمار ذلك كله في بناء نهضتنا الحضارية الوطنية من ناحية رابعة.

وإن اختيار الدكتور أبي القاسم سعد الله للمرابطة في هذا العمق الحيوي من الساحة الثقافية، من توفيق الله تعالى له، فقد أحسن رحمه الله تحديد مضغة وأولوية الاهتمام لديه منذ وقت مبكر، عندما ركز جهده على المساهمة في بناء الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، من خلال العناية بكتابة تاريخ المجتمع الجزائري، وأبدع في ذلك أيما إبداع، وترك لنا ثروة عظيمة لا تقدر بثمن، فهي تقع ضمن دائرة أم الثروات الاستراتيجية، لأنها الثروة التي تساعدنا على معرفة من نحن؟ وما وزننا في التاريخ؟ وما دورنا فيه وواجبنا تجاهه؟ وماذا نملك من مقومات وشروط لأداء هذا الدور؟ وأين أخطأنا وأين أصبنا؟ ولماذا أخطأنا أو أصبنا؟ وكيف تشكل حاضرنا بالصورة التي هو عليها؟

إن الساحة التاريخية بمحتواها الفكري والثقافي والحضاري، كانت ولا زالت وستضل، الميدان الذي دارت وتدور وستدور فيه أقوى معارك المواجهة الفكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية بين المشروع الاستعماري الاستئصالي الاستكباري البغيض، أو أي مشروع استضعافي هيمني آخر، وبين المجتمع الجزائري بل ومنطقة الشمالي الإفريقي، أو أي مجتمع آخر ينشد الحرية والعدالة واستقلالية الإرادة الوطنية. ولولا بقايا الوعي التاريخي الذي صمد في وجه المشروع الاستعماري زمنا طويلا (قرنا وأزيد من ثلث قرن)، لتغير وجه التاريخ في هذا الشمال الإفريقي وفي أجزاء واسعة من القارة الإفريقية، كما تغير قبل ذلك في الضفة الجنوبية الغربية للبحر الأبيض المتوسط، في حركة التطهير العرقي والديني التي تعرض لها الوجود الإسلامي فيما كان يعرف بالأندلس.

فالوعي التاريخي السنني الأصيل، محرك أساسا من محركات التاريخ، من أمتلكه من أفراد أو مجتمعات، نمت قواه الذاتية وطموحاته الاجتماعية، واستعصى على الاستلاب والتبعية، وتحررت إرادته الحضارية، وامتلك زمام إمكانه الحضاري، واستقلالية وفعالية فعله الثقافي والاجتماعي والحضاري. ومن افتقده كان عرضة لشتى صنوف الاستلاب والتبعية، ووهنت إرادته الحضارية، وفقد استقلاليته، وعرَّض وجوده للخطر.

فقصور الوعي التاريخي الأصيل، هو الذي جعل، على سبيل المثال، أحد أقطاب النخبة الوطنية في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو فرحات عباس رحمه الله يقول: ”فرنسا هي أنا.. ولو أني اكتشفت وجود الأمة الجزائرية لكنت وطنيا . فالرجال الذين ماتوا من أجل طموحهم الوطني يكرمون يوميا ويحترمون، ولا قيمة لحياتي أكثر من حياتهم، على أني غير مستعد لهذه التضحية، فالجزائر كوطن ليست سوى أسطورة، أنا لم أكتشفه . سألت عنه التاريخ، سألت عنه الأموات والأحياء، زرت المقابر: لم يحدثني عنه أحد.” (http://assala-dz.net/ar/?p=3872).

والوعي التاريخي السنني المتكامل، هو الذي جعل قطبا آخر من أقطاب النخبة الوطنية في نفس الفترة، وهو الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، يقول مناقشا لفرحات عباس ومسائلا لفئات من النخبة الوطنية التي بدأ وعيها التاريخي يعاني من آثار الاستلاب الثقافي: “لا يا سادتي… إننا نحن فتشنا في صحف التاريخ، وفتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمة الجزائرية المسلمة متكونة موجودة كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا، ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها، بما فيها من حسن وقبيح، شأن كل أمة في الدنيا. ثم إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة، والذي يشرف على إدارته العليا السيد الوالي العام المعين من قبل الدولة الفرنسية.” (آثار الإمام عبد الحميد بن باديس، 3/308).

وقد كان لهذا الوعي التاريخي الأصيل، الذي كانت تستند إليه مواقف ومبادرات وحركة الأمام عبد الحميد بن باديس وحركة الإصلاح خاصة، وجمهرة الحركة الوطنية عامة، تأثيره المباشر لدى الزعيم الوطني الكبير فرحات عباس، فتجاوز هذا الارتباك في وعيه التاريخي، ليقف وجها لوجه أمام ليل الاستعمار البهيم، ويساهم في فضح بشاعته، وكشف زيف أطروحات الرسالة التحضيرية لفرنسا فيما وراء البحار!

لهذا تمنح الأمم الحية مكانة خاصة للوعي التاريخي، وتجند له أعزَّ ما لديها من العبقريات الفكرية، ومن الإمكانات البشرية والمادية والوسائل الفنية، والشروط القانونية، حتى تنمي هذا الوعي التاريخي في الأجيال، وتحررها من الشعور بالدونية، وتغذي فيها الثقة بالنفس، والاعتزاز بالانتماء، والإحساس بالمسئولية، وروح المبادرة والمنافسة والمكابدة، من أجل إثبات الوجود وتفعيله ثقافيا واجتماعيا وحضاريا. بل إن بعض المجتمعات الفقيرة في الوعي التاريخي، تلجأ إلى الأساطير والخيال الفني، لتستدرك بعض النقص الذي تعانيه في مجال الوعي التاريخي! لشعورها بما للوعي التاريخي من ثقل تربوي وثقافي واجتماعي وسياسي غير عادي في مجال صناعة النهضة الحضارية والمحافظة على استمراريتها في الوقت نفسه.

من أجل هذا قلت في مطلع هذه الخاطرة، بأن اختيار الدكتور أبي القاسم سعد الله للمرابطة في هذا العمق الحيوي من الساحة الثقافية، هو من توفيق الله تعالى وتكريمه له، ليكون في عداد خالدي الذكر، بما يقدمه من خدمة فكرية وثقافية وتربوية جادة، في إحدى أهم بؤر ومضغ إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، وتحريرها من نفوذ وسطوة وزيف المدرسة التاريخية الاستعمارية، التي عملت وما تزال تعمل بكل قوة، على إقناع أجيال المجتمع والأمة والعالم، بأن الاستعمار كان يحمل رسالة تحضيرية إنسانية للمجتمع الجزائري! وأن وجوده قد أنهى فترة الغزو العربي والتسلط التركي! كما تدل على ذلك محاور مقرر دراسة التاريخ في العهد الاستعماري، التي كانت مصاغة بعناية وحنكة بيداغوجية وسيكولوجية، كما يلي: (الوجود الروماني، الغزو العربي، التسلط التركي، مجيء الفرنسيين) (مولود قاسم، أصالية أم انفصالية). ناهيك عما كان يدور على الساحات المعرفية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأخرى، من معارك شرسة، تتمحور كلها حول ضرب مقومات الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، وتجريدها من الشعور بذاتيتها الثقافية والحضارية، وتحويلها إلى كتلة غثائية هامشية مسخرة للأعمال والمهام القذرة!

وبمناسبة الإشارة إلى الرسالة التحضيرية التي رفع الاستعمار شعارها، واستباح بها مجتمعات وهتك بها أعراضها، وعبث بمقدراتها، وقصم ظهورها، أثبت هنا مقولة ذات دلالات عميقة على النزعة الاستكبارية المركزية التي كانت تقف وراء “مشروع البتر والإلحاق” الذي واجهه المجتمع الجزائري طيلة الوجود الاستعماري الفرنسي. هذه المقولة المؤسسة والمغذية للمركزية الاستعلائية الاستكبارية، جاءت في خطاب للعالم النفسي الاجتماعي والمؤرخ وفيلسوف الحضارة الفرنسي الشهير غوستاف لبون في 28 جوان 1885، قال فيه: “أيها السادة، ينبغي أن نتكلم بصوت أعلى وأقوى! ينبغي أن نقول بكل صراحة أن للأعراق العليا حقا على الأعراق الدنيا، قلت إن لها حقا بمعنى أن لها واجبا. أن عليها واجب إدخال الأعراق الدنيا في الحضارة” (سيكولوجية الجماهير، 26).

هكذا كان العلم يُسخَّر لخدمة الأغراض الاستعمارية، وهكذا كان العلماء يوظفون عبقرياتهم العلمية، وأوزانهم العلمية والاجتماعية لتغذية روح القهر والتدمير لمجتمعات أخرى، ونهب مقدراتها، باسم واجب إدخال الأعراق الدنيا في الحضارة!

إن ما أنجزه الدكتور سعد الله رحمه الله في مجال إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، ومواجهة هذه الروح الاستعمارية الاستكبارية، يقع ضمن الثروات الإستراتيجية الحقيقية الخالدة، بل يعد أمًّا لهذه الثروات الإستراتيجية البشرية منها والطبيعة أو الفكرية.. لأن الوعي التاريخي بأبعاده العقدية والفكرية والثقافية والحضارية، هو الذي يمنح أجيال المجتمع عامة، والنخب الفكرية والسياسية والاجتماعية فيه خاصة، البصيرةَ الفكرية والروحية الرسالية الهادية، ويشحذ غيرتها الوطنية، ويرفع مستوى إخلاصها وتفانيها في خدمة الوطن ورعاية مصالحه العليا بكل أمانة.

وإني أستطيع أن أقول بأن المجتمع الجزائري عانى من قصور الوعي التاريخي حتى بعد مرحلة الاستقلال، فهرعت بعض نخبه مبكرا ذات اليسار نحو الاشتراكية بل والشيوعية، وذات اليمين نحو الرأسمالية،  وباتجاه التلفيقية التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، إلا رائحة المصالح الفردية أو الفئوية أو الجهوية.. وقد كان لذلك كله الأثر السيئ على مسيرة ومصير النهضة الحضارية الوطنية، التي توفرت الكثير من شروطها المعنوية والنفسية والاجتماعية والسياسية، عبر الإنجاز التاريخي الضخم للثورة الجزائرية الكبرى، والكثير من شروطها المادية، وعبر الثروات الضخمة التي يتوفر عليها المجتمع الجزائري، وعبر الشروط البشرية ممثلة في الاستعداد غير العادي لأجيال المجتمع الجزائري للتضحية من أجل تحقيق النهضة.

إن كل هذه الشروط الاستثنائية للنهضة الحضارية، تبخرت بين أيدينا، بسبب اضطراب وضمور الوعي التاريخي، حتى وصلنا إلى مرحلة نادى فيها بعض طلبتنا: “التاريخ في المزبلة”!؟ وصار الحديث باللغة الوطنية أو ارتداء الأزياء الوطنية منقصة لدى كثير من النخب! والحديث بلغة المستعمر وتقليده في عاداته وتقاليده وأوضاعه، دون حاجة إلى ذلك، حاجة نفسية واجتماعية لدى هؤلاء! وتحول الإسلام ذاته إلى عامل صراع واهتلاك اجتماعي بعد أن كان عامل لحم وتأليف وشحذ للطاقات، ولو دُرست وقُيِّمت مسيرة المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، ومصير نهضته الحضارية، من منظور الوعي التاريخي، لتأكد لدينا فعلا مدى مسئولية قصور أو اضطراب الوعي التاريخي عن ذلك كله.

وبمناسبة الحديث عن مركب الدونية والغثائية والإمعية، الذي حرص المشروع الاستعماري على زرعه في أعماق الإنسان والمجتمع الجزائريين، من خلال ضرب وعيهما التاريخي وحرمانهما منه، نذكر بأن الدكتور أبي القاسم سعد، يعطينا نموذجا حيا في هذا المجال عن الأهمية الكبيرة للوعي التاريخي في تحصين الأفراد والمجتمع، وتحقيق توافقهما النفسي، وانسجامهما الاجتماعي.

 فهو رحمه الله كان يتقن الإنجليزية، ويعرف الفرنسية والألمانية.. ودرس في الولايات المتحدة حتى نال شهادة الدكتوراه، وانفتح على الثقافة العالمية المعاصرة وآدابها وتياراتها ومناهجها، في سن عمْرية حساسة، وفي مرحلة تاريخية كان العالم فيها يغلي بالأفكار اليسارية واليمينية والتلفيقية، التي جرفت واستوعبت جل النخب الوطنية والعربية والإسلامية.. وحولتها إلى دعاة ومبشرين بها ومجسدين لها في حياتهم الخاصة، وفيما يتاح لهم من مسئوليات ثقافية أو اجتماعية أو سياسية عامة في المجتمع، ومع ذلك لم تستوعبه أي من هذه الثقافات، أو يجرفه أي تيار من هذه التيارات العالمية، شرقية كانت أم غربية، بل ظل جزائريا مسلما خالصا معتقا، أخذ كل ما في هذه الثقافات العالمية من خيرية وبركة، وهضمها واستوعبها جيدا، وأعاد صياغتها على ضوء معطيات المعادلة الثقافية والاجتماعية والحضارية لمجتمعه وأمته، فكان ما قدمه لنفسه ولمجتمعه ولأمته خيرا خالصا بإذن الله.

وإني أرى بأن ما ذكره شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال، عن تمكنه من الإفلات من سحر وأسر واستلاب الثقافة الغربية المعاصرة، حينما قال: “لقد كسرت طلسم العصر الحاضر، وأبطلت فكره، التقطت الحبة، وأفلت من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مُقلِّدًا لإبراهيم، فقد خضتُ في هذه النار واثقًا بنفسي، وخرجت منها سليمًا محتفظًا بشخصيتي” (روائع إقبال للندوي، 77). ينطبق على الدكتور سعد الله إلى حد بعيد.

واستكمالا للصورة في عمقها، أرى أنه من المفيد تربويا أن نذكر هنا كذلك، بأن الدكتور سعد الله وهو يقضي جزءا كبيرا من حياته مطلعا على التراث الثقافي الإسلامي، وعلى تياراته الفكرية والسياسية والدعوية.. لم يستوعبه أي تيار من هذه التيارات في المشرق أو في المغرب، ولم ينحاز إلا لما هو أصيل ونافع وداعم لبناء وتجديد الوعي التاريخي للفرد والمجتمع والأمة. لقد كان متوازنا على الصعيد الذاتي، وكان منصفا وموضوعيا إلى حد بعيد على المستوى العلمي والمنهجي، ولذلك فهو يصنف ضمن المدرسة الفكرية الحضارية الجامعة، التي تقوم على الاعتزاز النفسي والفعلي بثوابت الهوية الذاتية للمجتمع والأمة من ناحية، وعلى الانفتاح الفعلي على رشد الخبرة السننية البشرية أينما كانت من ناحية أخرى، وعلى احترام المعادلة الثقافية والاجتماعية للمجتمع الجزائري ومراعاة مصالحها الحيوية من ناحية ثالثة، وعلى روح المنافسة التكاملية بين مكونات المجتمع والأمة على خدمة النهضة الحضارية المنشودة من ناحية ثالثة، وعلى التكاملية الحضارية الإنسانية من ناحية رابعة.

من هنا تتجلى الأهمية الكبيرة للجهد المعرفي التربوي الذي قام به الدكتور أبو القاسم سعد الله في مجال إعادة بناء وتجديد الوعي التاريخي لأجيال المجتمع الجزائري، كما تتجلى كذلك المكانة الكبيرة التي يحتلها هذا الرجل في تاريخ المجتمع الجزائري المعاصر، حتى وإن لم تتح لجهوده الضخمة  فرص الانتشار والتعميم المطلوب مرحليا، وحوصر هو نفسه وضيِّق عليه، حتى اضطر إلى الهجرة حفاظا على حياته وكرامته، وحرصا على إتمام مشروعه الثقافي الكبير.

وكعادة الله سبحانه وتعالى في مباركة الجهود المخلصة والتمكين لها، فإن ما قدمه الدكتور سعد الله يلقى قبولا لدى عموم فئات المجتمع، وسيزداد الاهتمام به اتساعا وعمقا مع مرور الزمن. وإنني عندما أرى نماذج من تعليقات أجيال مختلفة في مواقع التواصل الاجتماعي، على وفاته رحمه الله، وكيف غمره من يعرفه ومن لا يعرفه بالدعاء الخالص له بالمغفرة وجزيل الثواب. وعندما أرى واحدا من هذه الأجيال يكتب في تعليقه مخاطبا له: “لأول مرة في حياتي تفيض عيناي دموعاً على إنسان لم أعرفه ولم أسمع عنه حتى هذا اليوم، نعم الرجال أنت يا أبا القاسم. وقبل أن أترحم عليك، نرجو منك أن تسامحنا على تقصيرنا وتجاهلنا لشخصية عظيمة مثلك وعدم الاستفادة من كنوزك” (oussama ـ تقرت، الشروق اليومي، 14 ديسمبر 2013). وعندما أرى نوعية من حضروا جنازته، من العلماء والمفكرين والباحثين والأدباء والفنانين وجموع المواطنين،  رغم بعد المسافة.

عندما يرى الإنسان كل هذا، ويستحضر ما قيل فيه من شهادات من زملائه وتلامذته وقرائه، والسيل الغامر من الأدعية الصادقة التي ليس وراءها مطامع أو مخاوف، يتأكد فعلا بأن الله تعالى يبارك جهود المخلصين من عباده، ويكتب لها القبول، ويضمن لها الذيوع والانتشار والخلود، وهو كل ما يتوق إليه كل ذي بصيرة في هذه الدنيا، بأن يجعل الله له لسان صدق في الآخرين، كما قال أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام: (وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (الشعراء، 84).

وفي التاريخ وعت سيدة مقام أهل العلم عند الله وعند الناس، وأدركت دورهم المحوري في تاريخ المجتمعات الإنسانية، وكانت لها كلمة عظيمة تكتب بحروف من نور في ذاكرة كل إنسان بصفة عامة، وأمام صاحب كل مسئولية وولاية على الناس خاصة، رأيت أن أسوقها بمناسبة وفاة شيخ المؤرخين وأستاذ الأجيال الدكتور أبي القاسم سعد الله رحمه الله، لتعتبر بها الأجيال، وتضع نفسها حيث ينبغي لها أن تكون. فقد كان رحمه الله ممن تنطبق عليهم هذه الكلمة بحق.

 روي أن الخليفة هارون الرشيد وعبد الله بن المبارك، قدما من غير اتفاق سابق بينهما، إلى الرقّة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطّعت النعال، وارتفعت الغَبَرة، من شدة الزحام، والرغبة في طلب العلم، والتبرك بأمير المؤمنين في الحديث: “فأشرفت أمّ ولد أمير المؤمنين من برج الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟! قالوا: عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك. فقالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون، الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان”! (وفيات الأعيان، 3/33).

وأنا أقول في ختام خاطرتي هاته: هذا والله هو المجد حقا، وليس الملك فحسب، فالمجد سلطان ممتد لا ينقطع، لأنه يرتكز على العلم النافع للأجيال، والمحصِّن لها من التيه والدونية والعدمية التاريخية، وفي السنة النبوية: (مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا ومن سنَّ سنَّةً سيِّئةً فعملَ بِها، كانَ عليهِ وزرُها وَوِزْرُ مَن عملَ بِها من بعده لا ينقصُ من أوزارِهِم شيئًا) (صحيح ابن ماجة برقم 169).

هذا هو الدرس البليغ الذي تستفيده الأجيال من حياة الدكتور أبي القاسم سعد الله، وأن تقتدي به فيه، إن أرادت فعلا أن يكون لها نصيب من المجد الخالد. إن على كل فرد في المجتمع أن يختار المجال الحيوي المناسب له، ويركز جهده عليه، ويذهب بعيدا في الإبداع فيه، وخدمة القضايا والمصالح الحيوية لمجتمعه وأمته من خلاله، بكل إخلاص وصبر ودأب وفعالية واحتسابية.

والأسئلة التربوية الهامة التي أود إنهاء هذه الخاطرة بها، وأرجو من أصدقاء وتلامذة ومحبي الدكتور سعد الله رحمه الله الإجابة عنها هي: كيف اهتدى إلى الاهتمام بهذه المضغة المحورية في الوعي الثقافي: أي الوعي التاريخي؟ خاصة وأنه بدأ أديبا صاحب ملكات وقدرات كبيرة، فكيف فلت من سحر الأدب وسلطانه، وتماهى مع الفن التاريخي ومتاعبه؟ وكيف لم تؤثر فيه الثقافات التي أمتلك زمام أوعيتها اللغوية كالانجليز والفرنسية والألمانية؟ وكيف حافظ على توازنه الفكري والسلوكي أمام عواصف التيارات اليسارية والليبرالية والتلفيقية؟ من أين جاءته قوة التوازن الفكري والنفسي والسلوكي؟ هل هذه الأمور خاصة به لا يمكن تكررها؟ أم أنها تتكرر بمعرفة أسبابها وشروطها والأخذ بها؟ كيف نصنع نماذج علمائية وفكرية من هذا الطراز العالي؟ من المسئول عن ذلك؟ ما دور السلطة في ذلك؟ وما دور المجتمع في ذلك؟ وما دور الأسرة في ذلك؟ وما دور الإعلام ورجال المال وغيرهم في ذلك؟ كيف تستمر جهود هذه المدرسة التاريخية الجزائرية على نفس الروح الرسالية العالية، وعلى نفس المنهج العلمي الموضوعي المتوازن؟

الطيب برغوث
ديسمبر 2013

تعليق واحد

  1. آسف بتاريخ

    عذرا يا رجل
    [b]رحم الله الأستاذ سعد الله

    المشكل ليس في وجود عباقرة أو علماء في التاريخ أو العلوم الإسلامية أو العلوم المادية
    المشكل يكمن في الخطابات التمجيدية من جهة و التنظيرات الغير مؤثرة على الواقع من جهة أخرى
    الجزائر أو الحركة الإسلامية بالتحديد بكل مواردها البشرية بكل أطبائها و أساتذتها و مهندسيها و و
    لم تستطع الصمود أمام شرذمة من البلطجية النتن المدعومين من الناتو و فرنسا اللعينة خاصة مع شيئ من الإعلام و وسائل الحرب النفسية المعروفة منذ بداية القرن العشرين… لماذا؟
    لا تلقوا اللوم على هذا التيار أو ذاك كلكم سواء في السذاجة و الغباء: فواحد يتزين للغرب و يقدم تنازلات كارثية بل و ينتهي عميلا و الآخر يرى نظرته للنوازل و إنزاله للنصوص الشرعية حكرا عليه و الثالث يغره حظ النفس و السعي وراء الجاه أو المنصب أو ليقال له أنت فقيه

    أما البلطجية فهم يعملون كل يوم في الميدان في المؤسسات في الإدارات في المكاتب يسيطرون على الأمور شبرا شبرا “بيت بيت زنقة زنقة” بكل براقماتية و برودة حتى عاثوا في الأرض فسادا و إفسادا و فككوا المجتمع و مزقوا هويته حتى صار الفاسق الرذيل مكرم مدلل و الصالح المحترم من المنسيين. من سيلتفت إلى المرحوم سعد الله إلا قلة قليلة!!!

    و ستدور رحى الحرب و ستبقى المؤمرة مطبقة حرفيا في الميدان و لا أبا بكر لها
    و سنبقى من جهتنا نتزين بتمجيدنا بعضنا لبعض بدون يذكر في الميدان

    مات حلم الجزائر المسلمة فلتستمر مهزلة جزائر الا لا (لا في الفير و لا في النفير)[/b]

Exit mobile version