انتهت زيارة هولاند للجزائر منذ أيام قليلة، ولم تنته ‘عجائب’ ما حملته هذه الزيارة التي أثارت كما هائلا من الجدل، ليس استنكارا للزيارة في حد ذاتها، لأنه من الطبيعي أن تتبادل الدول الزيارات وتعقد الصفقات وتبرم المعاهدات في إطار الزيارات التقليدية بين الدول، كما أن وجه الاستنكار لا يعود لكون الرئيس الجزائري خرج من انزوائه ليستقبل رئيس فرنسا الدولة الاستعمارية السابقة، لو تم ذلك بصفته رئيس دولة ذات سيادة يستقبل نظيره بصفته تلك، إنما ما دار حوله الجدل، وأثار الكثير من اللغط هو أن هذه الزيارة مثلما رشح عنها، أو عن جزء من ‘المعلومات’ التي لم ينته سيل تدفقها، تبين أن العلاقة بين الجانبين لا تزال في طور التابع والمتبوع، زيارة الدولة المستعمرة لأحدى مستعمراتها، مثلما تكشف عنه نوعية الصفقات التي تم إبرام معظمها في غرف معتمة، لم يطلع على حقيقتها وحجمها حتى الطبقة السياسية المشاركة في النظام نفسه، تحالفا كان أو ‘معارضا’، ولا أقول مشاركة هذه الطبقة في القرارات والصفقات بهذا الشأن، ناهيك عن إطلاع ورأي الموطنين البسطاء فيها. ولتسلط جزء من الضوء على هذه الزيارة نلقي نظرة سريعة على ما حملته حقيبة هولاند إلى أندلس فرنسا المفقود، الجزائر.

-بالنسبة إلى موضوع الذاكرة وماضي فرنسا الاستعماري وجرائمها بحق الشعب، فرغم ما تم الترويج له عن نقلة نوعية مزعومة تميز بها خطاب هولاند، مقارنه بسابقيه، تبين أن خطاب هولاند، فيما عدا الناحية الشكلية، لم يكون مغايرا في جوهره عن خطاب سابقيه، حيث استبعد بشكل صريح، في رده على سؤال حول واجب الذاكرة، تقديم أي ندم أو توبة عن ماضي فرنسا الاستعماري قائلا:’ جئت لبناء بيت جديدة سويا، بنظرة تتجه نحو المستقبل’، ولا غرو في ذلك بما أن أقل من أسبوع من زيارته للجزائر، كان بوتفليقة نفسه قد دعا إلى علاقة وطيدة مع فرنسا دون أدنى إشارة إلى ضرورة توبة فرنسا عن جرائمها إبان الحقبة الاستعمارية، ومثله أعلن وزير الخارجية أن الجزائر لم تطلب ذلك من هولاند. ودائما في مجال الذاكرة لم يتم التطرق لا من قريب ولا من بعديد إلى موضوع الأرشيف الذي لا تزال فرنسا تحتفظ به منذ نصف قرن من الزمن.

-كان على رأس جدول زيارة الضيف الفرنسي، مشروع شركة رونو للسيارات التي دار حوله حديث مستفيض وعلِقت عليه آمال مفرطة، إلى أن ظهرت حقيقة السراب، حيث أعرب العديد من الخبراء الفرنسيين في صناعة السيارات وكبريات وسائل الإعلام الفرنسية عن تعجبهم من’تنازلات’ الجزائر لهولاند، متسائلين عن سر الأسباب التي رفعت مبلغ الصفقة الخيالي إلى هذا الحد مقارنة مع مشاريع سابقة للشركة في المغرب مثلا، بنفس القيمة وحجم إنتاج يصل إلى 400 ألف وحدة في السنة الذي أنجز بمدينة طنجة المغربية الذي يوجه 50 بالمائة من إنتاجه إلى أوروبا خلافا لمصنع وهران الذي سينتج أسوأ نموذج للشركة وهو ‘سامبول’ الممنوعة من التسويق في أوروبا لخطورتها، معتبرة أن مليار أورو مبلغ كبير جدا بالنسبة إلى وحدة بسيطة لتركيب نموذج واحد، كما تراوحت التنازلات من حماية السوق لصالح ‘رونو’ إلى شراء جميع الوحدات المنتجة من طرف المؤسسات العمومية في حال عدم شرائها من المواطنين، والتزمت الحكومة بمنح امتياز حصري مدته ثلاثة أعوام في السوق الجزائرية لشركة ‘رونو’، وهو القرار الذي يعني أنه لا يحق لأي شركة جزائرية عمومية إبرام اتفاق مماثل مع شركة تصنيع سيارات أجنبية أخرى طيلة السنوات الثلاث المقبلة، اعتبارا من 2014. والغريب في الأمر أن ما تم تقديمه من قبل النظام الجزائري على أنه إنجاز كبير لصالح الجزائر من خلال ‘إقناع’ رونو على إقامة مصنع لها في الجزائر، ضحك على ذقون المواطنين، لأن الأرقام تبين أن هذه الشركة هي الرابح الوحيد وبامتياز، في ضوء واقع الصعوبات المالية الطاحنة التي تعاني منها الشركة الفرنسية، بالإضافة إلى أن هناك شركات أروبية أخرى، منها الصانع الألماني ‘فولكسفاغن’، كانت ترغب منذ فترة في إقامة مصنع بالجزائر وفق ما أعلنته الصحيفة الاقتصادية الفرنسية ‘لاتريبين’، وأن الصانع الألماني تقدم نهاية 2011 بطلب رسمي للحكومة الجزائرية يتضمن إقامة مصنع في الجزائر بطاقة إنتاجية تصل إلى 100 ألف وحدة قابلة للتوسع وبدون شروط.

-التنقيب عن الغاز الصخري: أسر وزير الخارجية الفرنسي، لوران فابيوس، إلى بعض وسائل الإعلام أن الجزائر وفرنسا سيوقعان عن اتفاق يسمح للشركات الفرنسية بالتنقيب عن الغاز الصخري، علما أن التنقيب عن هذه المادة تم حظره في فرنسا نتيجة المعارضة والضغوط الشديدة التي أبدتها المنظمات البيئية والخبراء في الطاقة نظرا للمخاطر الجمة الناجمة عن استخراج الغاز الصخري، ومن ذات المنطلق أدانت هذه المنظمات الفرنسية منها ‘أصدقاء الأرض’ المشروع الفرنسي لاستخدام الجزائر ‘مخبرا ‘ لتجاربها في التنقيب عن الغاز الصخري، ونظمت حملة تعبئة تحت شعار ‘لا هنا ولا هناك، لا عندكم ولا عندنا، لا اليوم ولا غد’، في ظل تغييب الرأي العام الوطني وتحييد الخبراء الجزائريين، وتكتم بل وتواطؤ من قبل النظام الجزائري الذي دأب على اتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية في غياب أي نقاش، رغم خطورة مثل هذه المشاريع التي تهدد التوازن البيئي والمياه الجوفية في الصحراء، ومنها تلوثها عن طريق تسرب غازات سامة ومسرطنة، وفق دراسات لخبراء دوليين.

-وكان آخر ما رشح عن تلك الزيارة ما كشف عنه موقع منظمة طلابية صهيونية، عن بالغ سعادتها بعد أن تمكنت من مرافقة هولاند إلى الجزائر لأول مرة منذ استقلال البلد، حيث انتقل ممثلو هذه المنظمة الصهيونية إلى تلمسان والاجتماع بطلبة جزائريين، وقد اعتبر رئيس المنظمة، جونثان عيون ‘أن هذه الزيارة ستمكن الشباب الفرنسي والجزائري، المنحدرين من شتى الأعراق والديانات للمعمل سويا ومن أجل معرفة أفضل للتاريخ، وسننظم قريبا رحلة تضم طلبة وممثلي المجتمع المدني’، وهي إشارة واضحة تعد سابقة خطيرة تفتح لباب لتبادل الزيارات، التي لا تشكل في واقع الأمر سوى محاولة للتستر على مخطط للتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي استعصى على هذا اللوبي إلى حد الساعة، فوجد في عهد طاب جنانو، الرئيس الحالي، الظروف المواتية لتحقيق هذه الأمنية. وللتذكير التطبيع مع الكيان الصهيوني ‘قديم’، قامت به أطراف مشبوهة لا تمت إلى أصول وقيم الشعب الجزائري بصلة، وجرى ذلك تحت رداء ثقافي عن طريق مجموعة تتصدرها وزيرة الثقافة الحالية (لم تكن وزيرة آنذاك)، بالإضافة إلى بعض محرري الصحف المعروفة بعدائها لانتماء الشعب الجزائري، في بعديه العربي الإسلامي، وجلها كانت وراء إذكاء نيران الفتنة والاقتتال والدعوة إلى انقلاب يناير 1992، لكن مع فارق، أن ذلك التطبيع قامت به جهات ‘غير رسمية’ بصفتها الشخصية، أما الجديد والخطير خلال زيارة هولاند، كان طابعه العلني الرسمي في تحد فج للشعب الجزائري برمته، استباح فيه نظام بوتفليقة شرف وكرامة بلاد المليون ونصف المليون شهيد، كما تجدر الإشارة أنه كان أول رئيس يرعى ويدعم زيارة الحركة والأقدام السوداء، ليشهد له التاريخ أن في عهدته تعرضت أرض الجزائر الطيبة، وشعبها الأبي لأخطر عملية تدنيس وإجرام شهدتها البلاد منذ استقلالها. هذه التنازلات كلها جعلت البعض يتساءل هل تمسك طاب اجنانو بعهدة رابعة جعلته يقترف المحظور ويستبيح كل ‘المحرمات’، ويستنزف ثروات البلاد ويسترخص شرفها وقيمها بأقل الأثمان، كل ذلك مقابل استجداء المستعمر شرعية يفتقر إليها داخليا، بل لم يسع يوما إلى الحصول عليها من قبل مواطنيه.

هناك جانب آخر، لا يقل أهمية، وقد استعصى فهمه، كيف يمكن للمرء أن يفسر تلك الحشود من المواطنين وهم يرفعون أعلام فرنسا ويتدافعون لاستقبال فرنسوا هولاند، متناسين أو متجاهلين أنه ابن عضو المنظمة الخاصة oas التي ارتكبت جرائم مهولة في حق الشعب قبل مغادرتها الجزائر! وهل تمثل تلك الحشود التي تكرمت كاميرات السلطة بإبرازها، الشعب الجزائري، أم أن الأمر لا يعدو كونه إخراج إعلامي تلجأ إليه السلطة كالعادة، في تكويم ما وسعها ذلك من الأشخاص، تسخر لهم وسائل النقل لتحملهم في كل مرة تحتاج إليهم ‘لتبييض’ وجهها أمام الضيوف، أو من خلال ترهيب الموظفين وابتزازهم في قوت يومهم في حالة عدم مشاركتهم حفلاتها، باعتبار أن الشعوب في نظر هذه الأنظمة لا تصلح إلا لهذه المهام، ولا دخل لها البتة في عمليات اتخاذ القرارات ولا في النقاشات ولا في أي أمر ذا أهمية. لكن مع ذلك، هل هذا العذر يعفي هذه الشعوب من قسط من المسؤولية عن تهميشها واستعبادها؟ ألا تملك هذه الشعوب إرادة تقرير مصيرها ورفض ما تتعرض له من إهانة واستخفاف، حيث ويكفيها أن لا تنصاع لنزوات الاستبداد، فتضع الأنظمة في حرج، دون أن يكلفها ذلك كبير عناء أو تضحية، كل ما عليها أن تفعله، هو الإمساك عن دعم تسلط هذه السلطة التي لا يمكنها أن تتسلط بدونها.

-أما عن الطبقة السياسية المنخرطة في أحزاب المعترف بها، بما في ذلك التي ترفع شعار المعارضة، فلا ينبغي التعويل عليها ولا أخذها في الحسبان للدفاع عن الوطن ومصالحه والتعبير عن قضايا المواطنين والدفاع الجدي عنها لأنها بكل صراحة ارتضت لنفسها الدور والحيز المسموح لها به من قبل السلطة ومن ثم كل ما تقوم به مجرد ‘مزايدة’ للرفع من نصيبها وحصصها قبيل كل استحقاق انتخابي، ليس إلا، سرعان ما ترضخ وتدخل في الصف كما رأيناه في كل مرة، تهدد ثم تنصاع لجزرة وعصا السيد المانح، مثلما شهدناه من مواقفها الزئبقية، منها على سبيل المثال، التصويت بالإجماع خلال تعديل الدستور الذي سمح لبوتفليقة في غضون 48 ساعة، الظفر بعدد غير محدود من العهدات الرئاسية بما ينتهك الدستور نفسه الذي كان يحددها في عهدتين، ولم نسمع لهذه الأحزاب أي اعتراض حقيقي تعبيرا عن هذا الانتهاك الصارخ، وقبلت بأن تكون ضمن المهللين له بفضل ما حازت عليه من امتيازات مادية، منها مضاعفة رواتب نوابها، وأيضا حديثها في كمل مرة عن عزمها مقاطعة الانتخابات التشريعية، أو المحلية، لما يبدو عليها حسب خطابها، من علامات التزوير المنظم والمسبق، لتعود وتشارك فيها دون حرج، أو تهديدها بمقاطعة خطاب هولاند أمام البرلمانيين تنديدا برفضه الندم عن الحقبة الاستعمارية، أو خطاباتها العصماء عن تجريم الاستعمار، فماذا كانت الحوصلة في نهاية المطاف وككل مرة، زوبعة في فنجان. قد يسأل سائل ما سبب هذه المواقف المتخاذلة من هذه الطبقة السياسية، والسبب بكل بساطة، لأنها قبلت بهذا الدور، في غياب حراك سياسي حقيقي، وهي تعلم في قرار نفسها أنها لا تملك سوى الانصياع، للأوامر، لأن الجهة الفاعلة التي سمحت لها بالجلوس على المقاعد التي تحصلت عليها، قادر على إزاحتها بنفس الطريقة، دون أن تستطيع الاعتراض عليه، إدراكا منها أن ما حظيت به من ‘حضور سياسي’ يندرج ضمن نظام الحصص، كما أن صراخها المتكرر المندد بالتزوير المؤسساتي، وفساد المناخ السياسي، ثم الدخول في ذات اللعبة والاستفادة من ذات المقاعد، يشكل اعتراف ضمني من قبلها بقبول قواعد اللعبة وجزء لا يتجزأ منها. أما من جانب السلطة الفعلية، فهي مطمئنة بشأن هذه الطبقة السياسية لأنها استنفذت منها هدفين أساسيين:

-أولا، تيئيس المواطنين من جدوى العمل السياسي من خلال إظهار هذه الطبقة، سواء الأحزاب أو منظمات المجتمع المدني أو المثقفين ورجال الإعلام في أبشع صورة لهم، وانتزعت منهم أي مصداقية أو مهابة، بما يرسخ في اللا وعي الجماعي بأن هذه السلطة، على علاتها، فهي أقل سوء ومن ثم لا مجال لتصديق هذه الحوانيت السياسية التي تخون المواطن ولا تفي بوعودها أمام المواطنين.

-ثانيا: يستغلها النظام القائم كواجهة لخداع الرأي العام الدولي، الغربي على وجه الخصوص، في تسويق صورة زاهية، عن نظام تعددي شكلا، ومن ثم يرفع الحرج عن هذه الأنظمة الغربية أمام شعوبها لتبرير تعاملها معه.

ولهذه الأسباب كلها، فلا عجب أن يستمر نظام بوتفليقة التصرف في البلاد تصرف المالك لرقاب العباد.

د. رشيد زياني شريف
7 جانفي 2013
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد الجزائرية

المصدر: يومية القدس العربي

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version