قبل كل شيء أودّ أن نتفق على معنى “المصطلح العربي الإسلامي” في نظر دور الفكر والثقافة المعاصرة.

يشير هذا المصطلح إلى دول الجامعة العربية التي تستعمل شعوبها لغة الضاد والبلدان الإسلامية التي تنطق بلغة أخرى. فمثلا كان ابن سينا مسلمًا فارسي الأصل، كتب جل علومه باللغة العربية، فهو عالم عربي إسلامي. والحديث على المدينة العتيقة العربية الإسلامية يهمّ كل الشعوب الإسلامية من القرن السابع إلى غاية القرن السابع عشر ميلادي، التي اعتمدت اللغة العربية كلغة الأدب والعلوم والفلسفة. وبالنسبة للعالم، تعتبر الدول الإسلامية والعربية كتلة دولية، تسمى بالعالم العربي الإسلامي.

تتسم المدينة العتيقة في الأوطان العربية الإسلامية بحكمة نظامها المعماري. وتمثّل هذه المدينة المنبع المعماري ذات الصفات الخاصة، الذي شيّده المهندسون ابتداء من الفتوحات الإسلامية. وتعتبر كذلك مدينة كوفة في العراق المنوال الذي اتبعه بعد ذلك المعماريون المسلمون منذ القرن السابع ميلادي.

وعلاوة على سلامة معمارها وتصميم هندستها الجيّد، يرى بعض المهندسين المختصين في الهندسة المعمارية العربية الإسلامية أن تصميم المدينة العربية الإسلامية، يتميز بكل الصفات ليكون منوال معماري مثالي لبناء وتشييد المدن في المستقبل.

بعد انطلاقة الثورة الصناعية في البلدان الغربية، تم تشييد المدن وتنظيمها، على أساس أن تضمن لسكانها الشغل والرفاهية والراحة والاستجمام، ويكونوا في خدمتها دون استعباد، ويتمتعوا بوظائفها بدون إفراط.

فمنذ القرن التاسع عشر ميلادي، سقطت جلّ البلدان العربية الإسلامية تحت الاستعمار، وتم إنشاء مدنا حديثة قرب المدن العتيقة، لحلّ المشاكل المعمارية والسكنية والترفيهية التي تواجهها المدينة العتيقة. لكن من سوء الحظ، لقد مس الضر هذه المدن الجديدة، بنفس الأضرار التي مست المدن الغربية اليوم (الازدحام المروري، الضجيج، الحوادث، التلوث، وإجبار المترجلين اتباع المنعطفات الكبيرة والمتعددة للوصول للأماكن المقصودة…) وفي الوقت نفسه، تمّ الحفاظ على المدن العتيقة واتخذت المنظمات الدولية التدابير الازمة لحصانتها. ومنذ السبعينيات ميلادي، قرّرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، تسجيل العديد من المدن العربية الإسلامية العتيقة (تونس، سوسة، القيروان، فاس، الرباط، قصبة الجزائر العاصمة، مراكش، دمشق، حلب، سمراء، القدس، اسطنبول، تبرز، اصفهان، صنعاء…) على لائحة التراث العالمي للبشرية.

وإذا ذكرنا هذه المبادرات، فليس مبررا للدفاع عنها أو افتخارا ساذجا بالمدينة العتيقة العربية الإسلامية التي تواجه مشاكل حضرية ومعمارية خطيرة، وإنما نريد أن نبحث عن ما يمكن أن نتعلمه من تصميم معمارها، في خصوص التنمية الحضرية لتصدي الأزمات الممكنة في ميدان الطاقة والمناخ والبيئة.

إن المدينة العربية الإسلامية تتسم بشوارعها الضيقة وأزقتها العديدة وكثافة السكان في أحيائها، التي تقطن منازل تتكون من طابقين أو ثلاثة إلى أقصى حد. والذي يلفت الانتباه هو عدم وجود الأبراج والعمارات والحواجز في أرجائها.

وفي معظم هذه المنازل يوجد الايوان، العنصر الهندسي الأساسي الذي تدخل من خلاله أشعة الشمس والهواء والرطوبة لكل غرف المنزل. ويجتمع أفراد العائلة والضيوف في هذا الفضاء للحديث والسمر وقضاء شؤون المنزل. وتارة، توجد فيه بعض الأشجار والنباتات.

أما سطح المنزل فهو أفقي الشكل، يستعمل للجلوس والنوم، ولنشر الثياب لنشفها بعد غسلها وتوجد على السطح في بعض الأحيان غرفة خاصة لتربية الدجاج والأرانب والغنم. أما في الشتاء، فهو الحوض الذي يزود الماجل بماء الأمطار، الصالحة للشراب وغسل الثياب، بواسطة قناة خاصة تسمى الميزاب. أما ماء البئر، فهو خاص بالاستحمام وغسل الأواني.

وفي المدينة يوجد آلاف المحلات التجارية لأن التجار يستعملوا كل الفضاءات بقطع النظر على مساحتها، حيث تتسع أغلب الحوانيت بضع أمتار مربعة فقط. وغالبا ما يكون الزبون في الشارع والبائع داخل محله.

ويقع تموين المحلات التجارية ونقل البضائع، إما على الحمير أو على ظهر الرجال أو على العربات التي تجرها السواعد.

وعلاوة على المنازل والمحلات التجارية يوجد في المدينة، العديد من الحرف والصناعات اليدوية (النسيج، الخياطة والطرازة، الصياغة، النجارة، الحدادة…). و يقدر عدد الحرفيين بالآلاف.

وكما أن شوارع وأزقة المدينة ضيقة، كثيرا ما يحصل الاكتظاظ فيها، لسبب النشاط التجاري المتعدد الحثيث، الذي لا يزعج السكان والزائرين، بل بالعكس، فهو فرصة للتآلف بين الناس الذي لا يوجد في المدن الحديثة.

وفي فصل الصيف تنزل درجة الحرارة، كما أنها ترتفع في الشتاء بالمنازل بفضل ضيق الشوارع كذلك.

وفي ميدان العمران، تقطن في المدينة العتيقة، الطبقة الفقيرة والمتوسطة من السكان في أغلب الأحيان. أما الطبقة الغنية، فهي تخيير السكن خارج المدينة العتيقة، في منازل المدينة الحديثة التي تمثل في رأيها التقدم والرقي.

ولكن الأمور تغيّرت ابتداء من التسعينيات. فلقد تأكد رجوع الطبقات الثرية إلى المدينة العتيقة بعد ما أقبل السياح الغربيون واشتروا منازل في المدينة العتيقة للسكن أو لتحويرها كفنادق للسياح العابرين.

ولهذه الأسباب استرجعت المنازل القديمة في المدينة العتيقة قيمتها وارتفع الاحتكار العقاري، ناهيك وأن هذه المنازل لا تتطلب مآو للسيارات. وهذا الأمر يؤكد أن السكان يستطيعون التخلي عن السيارات ريثما يقبلون برغبة واشتياق على السكن في أي مكان.

 وهكذا نرى أن المدينة العتيقة، تشمل على العديد من الصفات : مزيج من الوظائف كالسكن والتجارة والصناعة والثقافة والسياحة… و فضاءات يغدو ويروح إليها، مزيج اجتماعي من الطبقات الفقيرة والمتواضعة والطبقات التي أصبحت غنية وكذلك، مزيج الأجيال بين الشباب والشيخوخة.

وتجدر الإشارة أيضا، أن معمار المدينة العربية الإسلامية الذي تم انجازه من القرن السابع إلى القرن التاسع عشر ميلادي، تأكد، أنه يحمل في طياته أغلبية المفاهيم التي تخص البيئة والمحيط في الوقت الحاضر (الهندسة البيئية والمناخية، مدينة خاصة بالمشاة، تتمتع بالكثافة السكنية بالمتر المربع، و ضيق شوارعها وقلة التأثيرات البيئية…)

وإذا طرقنا هذا الموضوع فنحن نريد أن نستوعب ما قدمه في الماضي المعماريون من تصميم هندسي وحضري محكم لإنجاز مدينة تخول لسكانها الائتلاف، اجتنبت التلوث والضجيج وسمحت لسكانها وزائريها السير على الأقدام، وكثافة سكنية عالية بالنسبة لمساحتها.

ويعتقد العديد من المهندسين المعماريين المختصين في تشييد المدن اليوم، أننا أخطأنا في تصميم مدننا الحديثة، وذلك لضخامة مساحاتها وتلوث البيئة والمحيط وتكاثر الضجيج في أرجائها وقلة الأنس والاطمئنان واستهلاك الطاقة المفرط فيها.

وبغض النظر على سلامة معمار المدينة العربية الإسلامية العتيقة، لا يمكن لنا اليوم أن نبني معمارا مثل ما وقع في الماضي، وإنما واجبنا يحتم علينا أن يكون هذا المنوال المعماري عبرة للحاضر والمستقبل، لأنه قام على أسس تكاد أن تكون ملائمة لمفاهيم المعمار الحديث لبناء المدينة الحديثة.

ويقول في هذا الصدد مارك جوساي المهندس المعماري الحضري الفرنسي: “إنّ مبادئ التنمية المستدامة موجودة في معمار المدينة العربية الإسلامية منذ القدم، قبل اعتماد هذا المفهوم – بريو- وهو نظام بيئي دقيق وناجح بين الطبيعة والمعمار، ذات قدرة مذهلة على التكيف في خصوص الأنماط الهندسية المعمارية، وكذلك اقتصاد الطاقة عن طريق الحد من تلوث السيارات والتنقل وكثافة البنيان والعمارات، وعملية تشاركية لإدارة ودية في الفضاءات الحضرية والتضامن والمساواة في القانون بين الناس والتماثيل الرمزية على الساحة الحضرية. وكل هذا ينتظر التشجيع أو إعادة قراءة الماضي على ضوء الحاضر وإحياء هذا المنوال المعماري ضد منوال حضري صادر على أساس الليبارلية والعولمة، التي تولد تدمير البيئة والمحيط وتحطيم العلاقات الاجتماعية والتنوع الثقافي.”

وخلاصة هذا القول، أننا لم نتحرر بعد عقليا من الاستعمار الثقافي الذي فرض علينا أن نتبع خطاه في كل شؤوننا الاجتماعية، حتى في التصميم المعماري لمنازلنا ومدننا الحديثة. بينما لدينا تراثا معماريا وثقافيا عظيما، يحتوي على مدينة خالية من التلوث والضجيج، خاصة بالمشاة، تحافظ على العلاقات الإنسانية، ذات الكثافة السكنية العليا بالمتر المربع، كل العناصر والمبادئ التي ينادي بها أهل الذكر لإرساء التنمية المستديمة، والتي من واجبنا أن نأخذها بعين الاعتبار لأن المواطنة تحتم علينا الاعتماد على النفس لإرساء حداثة تنبع منا وإلينا، وتعزّز هويتنا.

محمد الناصر بن عرب
1 ديسمبر 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version