قبل كل شيء، أستنكر استنكارا شديدا القصف الصهيوني العشوائي العنيف الذي يتهاطل على مدينة وقطاع غزة منذ ثمانية أيام. وهذا العدوان الصهيوني، المتواصل المزمن على شعب فلسطين، ما هو إلا شوط من أشواط حرب الاستنزاف التي يشنها الكيان الصهيوني على فلسطين منذ الأربعينيات كما تعلمون.

وقبل أن أدخل في صلب الموضوع، أندد بقوة أسر وتعذيب اليهود في المعسكرات النازية الذي وقعت في الأربعينيات بألمانيا، وأعتبر أن ما حصل ضدهم، ما هو إلا مس لكرامة الإنسانية جمعاء. لكنني أعتبر كذلك، أن مأساة اليهود في تلك الفترة، لا تبرر لهم قطعا افتكاك أرض فلسطين، ناهيك وأنهم اعتمدوا أيضا، على رواية تضمن لهم “الميعاد” على أرض فلسطين، حسب تأويلاتهم لما جاء في حق العبرانيين في التوراة.

وكما أنني أعتبر أن الكيان الصهيوني استعمار، احتل أرض فلسطين، لا أكثر ولا أقل، سأحاول طرح القراء الأمينة للتوراة، التي وقعت في السنوات الأخيرة، والتي تفضح تفسير اليهود المتطرفين الغربيين، الذين زعموا أن أرض فلسطين أرضهم، حسب تزوير فضيع، وترويج أسطورة خيالية في هذا الشأن، لا علاقة لها بالحقيقة التاريخية.

إن الذي يحصل في هذه الأيام من قصف واستشهاد ودمار بقطاع غزة، ما هو إلا دليل قاطع على وحشية الكيان الصهيوني، الذي يريد الحوز التام على فلسطين، واخضاع الشعب الفلسطيني نهائيا، تحت إرادته.

ورغم شراسة العدو المغتصب، والضحايا التي تستشهد بالعشرات، ما زال الشعب الفلسطيني واقف، لمقاومة العدوان، الذي يتبرر بالدفاع عن نفسه وعن رعيته.

 وما أريد إثارته في هذا المقال على القارئ الكريم، هي الطريقة الجهنمية، الشيطانية التي يتبعها العدو الصهيوني للقضاء نهائيا على فلسطين، التي احتل منذ 1948 ميلادي، أكثر من 80% من أرضها.

بعدما انهزمت الدولة العثمانية، استولت بريطانيا على كافة البلدان العربية في الشرق الأوسط، بما فيها فلسطين، واستعمرتها.

وعوض أن تمنحها الاستقلال، قدمت بريطانيا فلسطين للحركة الصهيونية، فدية وغفرانا، لذنوبها وذنوب أوروبا التي تواطأت مع النازيين في اضطهادهم لليهود في الحرب التي وقعت في الأربعينيات، والتي اندلعت بين ألمانيا النازية والدول الأوروبية المجاورة في البداية، والولايات المتحدة الأمريكية في النهاية.

ولتبرير هذا الاستيطان أيضا، زعم الكيان الصهيوني، أن اليهود رجعوا إلى أرض الميعاد، أرضهم التي تركوها منذ القدم، ليس إلا. فقام بتأسيس دولة، قيمها الاستعمار والنهب والسلب والوحشية والعنصرية والاإنسانية. ومنذ سقوط فلسطين، ظل اليهود يدوسون الشعب الفلسطيني بأقدامهم على مرأى ومسمع العالم بأسره، بغض النظر عن القيم الأخلاقية والدينية التاريخية وحقوق الإنسان.

فباشروا بطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، بالحديد والنار، وخربوا ديارهم، وقراهم ومدنهم، وفسخوا أسمائها وغيروها، ونهبوا أملاكهم وأصبح جل الشعب الفلسطيني، لاجئ في البلدان المجاورة وفي العالم. أما الفلسطينيون الذين بقوا على أرضهم فأصبحوا أذلة، لا حق لهم في أرضهم ولا اعتبار لهويتهم ودينهم، يعيشون تحت نهر وجبروت العدو الصهيوني القهار. إن الكيان الصهيوني الذي يعيث بفلسطين فسادا، اعتمد على ترويج زائف لأسطورة أرض الميعاد اليهودي التي نشأت في خيال المستشرقين الذين حرفوا التوراة.
 
و إذا تصفحنا التوراة، نتيقن حينئذ، أن الحركة الصهيونية قامت بتنفيذ ما أمر به الإله العبري لما حث موسى مغادرة مصر إثر اضطهاد القبائل العبرية. لكن التوراة لم تذكر اسم فلسطين أبدا ولم تلمح مجرد تلميح إلى اسم الفلسطينيين. ومما لا شك فيه أيضا، أن ما ورد في التوراة العبرية لا يتطابق مع وصف القدس العربية، فمن باب الخيال الإستشراقي الاستعماري فقط، تم توظيف رواية تدعي أن فلسطين يهودية وذلك من أجل تبرير عملية تهويدها، لا أكثر ولا أقل.

فها هي حقيقة اليهود بفلسطين، الذين احتلوا فلسطين سنة 1948 ميلادي، وأعادوا وطبقوا بالحرف الواحد ما أمر به موسى، الرب العبري يهوه، في التوراة.

جاء في سفر الخروج الإصحاح الثالث، أن الرب يهوه خاطب موسى وطلب منه إخراج الشعب العبراني من مصر، وقال: “إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم. فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة. إلى أرض تفيض لبنا وعسلا. إلى مكان الكنعانيين والحوثيين والفرزيين والحوريين والبوسيين” (خروج، 3: 6-8).
 
وباعتبار أن يهوه إله العبرانيين، فهو لا يرى مانعا ولا حرجا للدفاع عنهم مهما أدى الأمر لذلك، ولوكان بطشا بسائر الشعوب الأخرى، وتحريضا على سرقة تلك الشعوب. ويقول يهوه مخاطبا موسى: “و لكنني أعلم أن ملك مصر لا يدعكم تمضون ولا بيد قوية. فأمد يدي وأضرب مصر بكل عجائبي التي أصنع فيها. وبعد ذلك يطلقكم. وأعطي نعمة لهذا الشعب في عيون المصريين. فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين. بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا وتضعونها على بنيكم وبناتكم. فتسلبون المصريين”. (خروج، 3 :19-22). ويواصل يهوه: “متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي إليها لتمتلكها، وطرد شعوبا كثيرة من أمامك، الحوثيين والجرجاشيين والأموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين والبوسيين، سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنك تحرمهم. لا تقطع لهم عهدا، ولا تشفق عليهم ولا تصاهرهم. بنتك لا تعط لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك…” (تثنية، 7 :1–4).

فمنذ قرنين، قام اليهود المتطرفين والإستشراقيون بتحريف التوراة.

واستنادا إلى النص العبري، وإعادة تركيب الرواية التوراتية، يتبين اليوم بوضوح تام، أن الكتاب المقدس لليهودية يتحدث عن بلد آخر، ويصفه وصفا دقيقا لا علاقة له بجغرافية فلسطين، لكنه يطابق بدقة مهولة جغرافية الجنوب الغربي بالجزيرة العربية، وبالذات اليمن.

فعلى ضوء هذه المعطيات الجديدة في خصوص الإصرار الصهيوني، على أن فلسطين هي أرض الميعاد اليهودي حسب تزوير فضيع لقراءة التوراة، نعرف اليوم أن الكيان الصهيوني استعمار يهودي ليس له علاقة تاريخية ولا أي جذور بأرض فلسطين.

ولهذه الأسباب يعتبر الكيان الصهيوني، استعمار يحتل فلسطين، يبرر حقه فيها بتاريخ مزيف للتوراة، يمس الشعور والانتماء الديني في قلوب اليهود والنصارى. وبهذا التعاطف، وكذلك غفرانا لتورطه في تعذيب اليهود من قبل النازيين، يقف الغرب دائما وراء التعسف الصهيوني، مهما كان ظالما ضد حق الشعب الفلسطيني للتحرير.

إن صمود الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني حق لا جدال فيه. وكما أن الحل الوحيد مع الكيان الصهيوني هو القتال والمقاومة، يعتبر العدو، أن حمل السلاح ضده، تمردا خطيرا على سلامة وأمن اليهود في الأراضي المحتلة. فالحل الوحيد للغاصب الصهيوني، هو فرض حصار يمنع أهل غزة من المواصلات والعلاقات مع البلدان المجاورة البعيدة. وامتثالا للمقاومة، وحرصا على الحياة، حفر الفلسطينيون أنفاقا بين غزة ومصر للتموين الغذائي والتجهيزات الضرورية ودعم المقاومة، ما انفك العدو على قصفها ودمارها بصفة مستمرة.

وبصفة موازية لمقاومة العدو بالسلاح، يتحتم على الفلسطينيين والعرب، ترجمة أمينة سليمة للتوراة، لمعرفة حقيقة بلاد القبائل اليهودية، وتقديم أدلة قاطعة لبطلان التاريخ المزيف الذي يسرد الأحداث كما تعرضه الأوساط اليهودية المتطرفة. ناهيك أن الحفريات التي تقع في الأراضي المحتلة، منذ بداية القرن العشرين ميلادي، لم تعثر على أي شيء يؤكد انتمائه إلى عصر داود وسليمان.

وفي خصوص القدس، التي تسميها خرافة الاستشراق الاستعماري أورشليم،الموصوفة في التوراة طبقا للنص العبري، فلا علاقة لها بالقدس العربية.

لقد وصف الجغرافيون العرب بمعية جغرافيو اليونان بلاد الشام، في فترات مختلفة من التاريخ ولم يذكروا أبدا اسم جبل يسمى جبل صهيون بجنوب سورية، كما أنهم لم يذكروا بلادا، تدعى “اليهودية” فوق أرض فلسطين. أما المتؤكد من ذكره، وتغنى به الشعر الجاهلي، هو جبل صهيون، جبل عربي شامخ من جبال اليمن. وهذا دليل قاطع أن اليهود اصطنعوا تاريخا لا علاقة له بتاريخ فلسطين وجغرافية مزورة لتهويد فلسطين واحتلالها.
 
لقد تحقق الاحتلال الصهيوني بفلسطين بواسطة الأفكار الشائعة في المؤلفات التاريخية والسياسية في العالم، عبر الترويج الزائف وأكذوبة الأسطورة القائلة أن فلسطين هي أرض الميعاد لليهود.

فمواصلة الكفاح الفلسطيني واجب وطني لا شك فيه، وهو في حاجة قوية أيضا، للدعم المعنوي والمادي من قبل كل الطاقات التقدمية في كل مكان. لكن اليوم، نستطيع أن نقول أننا في حاجة ملحة وفورية في إعادة النظر في شؤوننا التي تقتضي ثورة حقيقية في معرفتنا لتاريخنا وكتابته، بعد بحث علمي سليم، يقوم به أبناء شعبنا. لأن إعادة تركيب الرواية التوراتية عن تاريخ فلسطين اسنادا إلى النص العبري قد يكون صدمة ليس لوجدان اليهود المتعصبين والتوراتيين والاستشراقيين وحسب، بل يكون أيضا صادما أيضا للوجدان الفلسطيني والعربي والإسلامي على حد السواء، لأنه تأثر بالفكرة الرائجة التي تقول أن اسم القدس مثلا ورد في التوراة وهذه الفكرة المغرية الروحانية يصعب تعديلها مع التاريخ المتحقق.

إننا في حاجة إلى تصحيح تاريخ فلسطين القديمة، الذي يتطلب الإمعان مليا في هذا الشأن بالأدلة العلمية لا بالعاطفة والأحكام المسبقة.

و لتحقيق هذا الهدف، علينا أن نبدأ بفحص نص التوراة العبرية ومقارنته بسرد الأحداث ووصف الجغرافية في الشعر الجاهلي، وبالخصوص في كتاب الأعشى الهمداني الشهير: “صفة جزيرة العرب”، والاطلاع على أعمال فاضل الربيعي الذي برهن في تحقيقاته أن فلسطين ليست الأرض التي وصفتها التوراة وأن القدس العربية لم تكن تدعى بـ”أورشليم”. وفي كتاب لكمال الصليبي، عنوانه: “التوراة نشأت في جنوب الجزيرة العربية”، يعرض لنا الكاتب صورة واضحة على دقة وصف جغرافية جنوب الجزيرة العربية الغربي كما ورد في التوراة.

وأعمال مثل هذه، تتطلب ثورة ثقافية لإدراج البحث العلمي كوسيلة حتمية للمعرفة. فلا بد أن يبرهن علميا المسلمون جميعا، أن ما ورد في التوراة في خصوص وصف “أورشليم” لا يتطابق قطعا على مدينة القدس العربية.

إن إعادة قراءة التوراة اسنادا على النص العبري، تقتضي علماء في اللغة والألسنية والتاريخ والجغرافية والاهوت والعلوم السياسية، لتفكيك الرواية الخيالية التي بثها اليهود المتطرفين والاستعمار الإستشراقي. وبهذا الاجتهاد سوف نحقق تصحيح التاريخ الفلسطيني وإحباط المهزلة والأسطورة الصهيونية وتحطيمها.

فلا بد من استرجاع الثقة في أنفسنا لاكتساب ذاتنا، وتصحيح جديد لتاريخنا بأدلة علمية ثابتة، تخول لنا المكانة الممتازة التي نستحقها.

محمد الناصر بن عرب
21 ديسمبر 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version