بعد الحلقات الأربعة الأولى لحوار “البلاد” المطوّل الشامل مع الدكتور هوفمان في جوان 2009، أي منذ قرابة الثلاث سنوات خلت، حول الإسلام والمسلمين في الغرب وآرائه ومواقفه من القضايا المعاصرة والعلاقة بين الإسلام والغرب وإمكانية التفاعل و/أو التعايش بينهما، ومستقبل الإسلام في ديار الغرب، مرورًا بوضعه الحالي كمتقاعد ومعرجًا على ذكرياته من عهد ثورة التحرير الجزائرية المباركة، حيث يقرّ فيها فعلًا أنّ “نصف قلبه في الجزائر”، وأنه “أدرك إنسانية الجزائريين في أصدق صورها وأنبلها، حينما تعرّضت زوجته للإجهاض تحت تأثير “الأحداث الاستعمارية” لما تطوّع سائق تاكسي جزائري لا يعرفه، للتبرع بدمه لزوجته الأمريكية في أتون حرب التحرير، كما خلص إلى قناعة أنّ :”اتفاقيات إيفيان أقصى ما كان بالإمكان تحقيقه” وكيف “صُدّت الأبواب في وجهه لمّا عرض المساعدة لتوثيق تاريخ ثورة التحرير على وزراء الجزائر”، هذه محطات أخرى وصفحات مشوّقة من حياته الثرية المتنوعة، حيث يكلّمنا عن الإسلاموفوبيا وواقع المسلمين ومستقبلهم على إثر الربيع العربي وإفرازاته في الغرب، وأمور تاريخية أخرى مهمّة كعلاقته بالرئيس الشاذلي والرئيس بن بلة (رحمة الله عليهما)، وقضية الصحراء الغربية وإفرازاتها.

مصطفى حابس: بعد هذه السياحة الفكرية المعرفية التاريخية الشيقة الشاملة منذ قرابة الثلاث سنوات خلت التي نوّرتَ بها القارئ العربي عبر صفحات يومية “البلاد” الجزائرية في أربع حلقات على مدار شهر كامل من عام 2009، لو تكرّمتم أستاذنا، لنحطّ رحالنا في واقع الناس اليوم، وتحديدًا في الضفة الأخرى من المتوسّط. ها هي سنتان تقريبًا مرّت من عمر “الربيع العربي”، الذي خلخل عروشًا وزلزل أخرى! كدبلوماسي عارف بخبايا العرب والمسلمين، هل هذا تغيير فعلي أم “مساحيق تجميل” صدّرها لنا الغرب؟

مراد هوفمان: الإنسان هو الإنسان. نفسه في الشرق كما في الغرب. والرغبة هي هي. كما أنّ الأحلام هي هي. صحيح، يمكن أن تكون هناك تأثيرات خارجية خفيفة، لكن غريزة الحرية متأصّلة في البشر، والربيع العربي، شمسٌ بزغ فجرها أخيرًا بعد ليل استعمارٍ غاشم واستقلالٍ ناقص، آمل أن تستفيد من نورها شعوبنا في الضفة الأخرى من المتوسّط، بداية من تونس ومصر وليبيا وغيرهم.

─ لو تكرّمتم نناقش تجربة كل دولة على حدة، بالنسبة للتجربة التونسية، تجربة إسلامية في مجملها بقيادة الشيخ راشد الغنوشي، بالاشتراك مع علمانيين، مثل منصف المرزوقي، هل لك بعجالة من تعليق على شخصية الرجلين وهل التقيتهما؟

المعذرة.. المعذرة.. لمناقشة تجارب هذه الدول كلٌّ على حدة عد إليّ في مناسبة أخرى، ونأخذ الوقت الكافي، على طاولة شاي، تحت خيمة صحراوي! (يضحك) لأنّ كل تجربة لها عواملها الذاتية والموضوعية وتربتها الخاصة ووقتها ومحيطها، و.. و.. وردًّا على الجزئية الأخيرة فيما يخصّ الرجلين، الشيخ راشد الغنوشي أعرفه، فهو فعلًا رجلٌ مثيرٌ للإعجاب، ومفكّر قدير أعجبني كثيرًا لما زرته في منفاه في بريطانيا، وقلت له حينها خسارة لتونس أن تبقى هنا في الغرب، وهو اليوم يقوم في بلده بعمل جبّار وصعب للغاية، أدعو الله له ولإخوانه ولتونس بالتوفيق. أمّا الدكتور المرزوقي، فلم أتعرف عليه ولم ألتقه، لكن من خلال ما حدّثتني عنه أنت لمّا التقيته على هامش ندوة اسطنبول، يبدو أنه رجل أصيل وله مبادئ رغم علمانيته.

─ لقد التقيتُ الأستاذ منصف المرزوقي سنة قبل الثورة التونسية تحديدًا، كنّا سويًا في ندوة حقوقية دولية بتركيا، وقد خرج معي بعد صلاة العشاء نتفسّح على ضفاف بحيرة اسطنبول، ودردشنا لوحدنا حول تونس والجزائر ووضعية حقوق الإنسان والحريات عموما في العالم العربي، ولما استفسرتُ منه هل يفكر في الترشّح مرّة أخرى للرئاسيات التونسية، أو حتى العودة لمحاولة “التصليح” من الداخل لما أفسدته سياسة بن علي وشلته، قال لي بالحرف الواحد: “لئن يئس الشيخ الغنوشي من العودة، وهو الذي يملك فيالق من المناصرين وأعضاء حركة النهضة كثر، مقارنة برجل مثلي، أعيش بين التدريس وتصفّح المواقع، وأكتب دفاعا عن أفكاري وحرية مواطني بلدي”، لكن سنة بعد هذا الحوار في المهجر، أصبح رئيسًا لتونس!

سبحان مغيّر الأحوال، المستقبل لا يعلمه إلا الله. أرأيت؟ من كان يظن بعد كلامه هذا معك قبل سنة من بداية الثورة، هل يعود لتونس أم لا، وأنتما في تركيا، ومن كان يظن أنّ “بن علي” سيرحل بعد سنة وهو الذي أخاط دستورًا على مقاسه، ليبقى رئيسا مدى الحياة، متسلّطا على رقاب الشعب التونسي المسالم! فعلا المستقبل بيد الله، لا يستطيع أحد التكهن به!

─ وفي نظركم لماذا لم تسلّم السعودية الرئيس المخلوع للعدالة التونسية أو الدولية لحدّ اليوم؟

لا أدري تحديدًا لماذا. لكن تركه في السعودية يُعتبر خدمة كبيرة مقدّمة لتونس ليستقرّ وضعها أحسن. لا تنسى أن هذه رغبة أمريكا أيضًا، فيما سمعت من تحاليل.

أمّا فيما يخصّ مصر، الإسلاميون في الحكم نعم لكني أظن أنّ سياسة التجديد أمتن وأنضج في تونس عنها في مصر، لأنّ النظام المصري القديم، عشش كثيرًا، وأفسد كثيرًا، والوضع الجيوسياسي لمصر لا تحسد عليه!

─ وماذا عن ليبيا؟ يقال أيضًا أنّ فرنسا هي التي أجهزت على القذافي في آخر لحظة اعتقاله من طرف الثوار، لإخفاء أو طيّ الصفقات البترولية بينهما. وقد تناقلت أخيرًا وسائل الاعلام أنّ القذافي هو الذي موّل حملة انتخاب ساركوزي. ماذا تقول في هذه الأمور ولماذا لجأت عائلة القذافي للجزائر تحديدًا؟

فيما يخص ليبيا، أنا لم أزرها مطلقًا، ومشكلتها اليوم نقص الإطارات والكفاءات مقارنة بجيرانها، وهو راجع لسياسة القذافي الانفرادية الرعناء كما يعلم الجميع، أمّا قولك أنّ وسائل الإعلام تقول أنّ فرنسا من وراء الإجهاز على القذافي، محتمل جدًّا لأنّ الحروب ليست نظيفة. أمّا فيما يخصّ تمويل حملة ساركوزي من طرف عائلة القذافي، فإنْ صدقت الرواية، فهذا عين الغباء، أن يقبل رئيسٌ لدولة ما تمويلًا أجنبيًا لحملته، وهو يعلم أنه سيُكشف حتمًا يومًا ما، حتى من أقرب الناس إليه، لمّا يختلف معهم. أمّا لجوء عائلة القذافي إلى الجزائر، فمنفذهم الوحيد صحراء الجزائر، وعلاقات قديمة بينهما، والجزائر لها فائدة في ذلك، لا تنسى أنّ ماضي الجزائر التشرد واللجوء أثناء الثورة، ويعرف الجزائري قبل غيره معنى أن يكون مطاردًا، وبلا سقف يأويه. أنظر إلى اليمن، صاحبهم “علي صالح” خرج بيسر. لا علاقة للإسلام في ذلك طبعا، هذه عشائر، وحلول العشائر غير منصفة عمومًا.

─ الشقيقة المملكة المغربية اليوم هي أيضا لها حكومة جلّ أعضائها من حزب إسلامي. لقد كنتم سفيرًا لبلدكم بها، ماذا تقولون في ربيعها ومستقبل زواج حكم الملكية مع الإسلاميين؟ بعض التحليلات الغربية تقول أنّ محمد السادس آخر ملك يحكم المغرب؟ وماذا عن قضية الصحراء المتنازع عليها مع البوليزاريو؟

العلاقة بين الملك والحكومة، نظريًا مقبولة، وعمليا الملك هو المتصرّف الرئيسي، أوّلًا وأخيرًا، في شؤون المغرب. أمّا الترويج على أنه آخر ملك يحكم المغرب، فهذه الأمور غيبية، والغيب عند الله سبحانه والمستقبل هو الذي يحدّده. هناك طرق ونماذج في حكم المملكات، يضيق الوقت لشرحها، لكن كلّ شيء ممكن. أمّا قضية الصحراء الغربية أو المغربية كما يحلو للأشقاء المغاربة تسميتها، فالمغرب لا يستطيع مغادرة الصحراء، لأمور اقتصادية بالدرجة الأولى، فالبترول موجود بكميات كبيرة في المنطقة وحتى في البحر، والصحراء منفذ مهمّ للمغرب على المحيط الاطلسي. كل هذه الأمور تجعل أيّ حاكم أو ملك لن يسمح بسهولة أن تنفلت منه هذه الخيرات. لكن كدول مسلمة في المنطقة يمكن إيجاد صيغ توافقية وتعايش بين الشعوب.

من جهة أخرى، لا أظنّ أنّ الجزائر اليوم وفي هذه المرحلة بالذات تفضّل أو تراهن على خيار العمل المسلّح لفض النزاع مع المغرب، رغم أنهما يلهثان جميعًا لعسكرة المنطقة. والمشكل يحلّ على الطاولة مع طول الوقت بل مدّة أجيال من خلال التفاهم والتوافق عبر مواثيق الدولية بمساعدة الهيئات الدولية كالأمم المتحدة، إن كان لهذه الاطراف نية صادقة للرقي بالمنطقة نحو سلم دائم، بحول الله.

─ وعلى ذكر الأمم المتحدة، ماذا عن سورية الشهباء؟ اليوم آلاف الموتى، وعشرات الآلاف من المشرّدين، ووساطات لم تجدِ شيئًا، والسيد الأخضر الإبراهيمي مبعوث الأمم المتحدة لسوريا عاد بخفّي حنين. هل يمكنه فض النزاع في جولات أخرى؟ متى وبأي ثمن من الأرواح؟ وماذا عن دور إيران ولبنان في القضية؟

لكلّ بلد همومه وخصوصياته. مشكلة سوريا عميقة ومتشعّبة، ووضع البلد مؤلم للغاية وخطير جدًّا. البلد مقسّم إلى عدّة عشائر وديانات ومذاهب ولغات! هناك التركمان والعرب والشيعة والسنة والعلويين! كلّ هذا الخليط يجعل من سوريا فعلًا بلدًا غير متجانس المكونات بامتياز وغير مستقر البتّة. لقد استطاع الأب – حافظ الأسد – اللعب على هذه المكوّنات، أمّا اليوم فالأمر أصعب بالنسبة للابن. وعلى ذكر لبنان، أظنك تقصد “حزب الله”، هنا يصعب عليّ التكهّن لأنّ حزب الله ليس دولة، لكن حركة يصعب رصد مواقفها، أمّا بالنسبة لإيران، فموقفها صعب جدًّا هي أيضًا، فسوريا تُعتبر بالنسبة لإيران حليفًا استراتيجيًا وموقعها الجغرافي يعدّ منفذًا لطهران على البحر الأبيض المتوسّط لتسويق بترولها، لذلك دور إيران حيوي ومهمّ لحلحلة المشكلة السورية، وبالتالي عليها أن تراهن على البرامج والمؤسسات لا على الرجال والنظم، و”لا تزول الدول بزوال الرجال” كما يحلو لبعض الساسة ترديده في عصرنا الحاضر. وإيران تملك أوراقًا لجمع السلطة السورية والمعارضات في الداخل والخارج حول طاولة الحوار، إن أرادت ضمان الاستقرار في المنطقة.

─ وما نصيب دول الخليج وشعوب المنطقة عمومًا من “الربيع العربي”؟

عموما هذه المنطقة، جلّها مملكات، وهناك أقلّيات سكّانية من أهل البلد والبقية أيادٍ عاملة ووافدة، عمومًا لها اكتفاء مالي، ينسيها في السياسة أو المطالبة ببعض الكماليات ولو مرحليًا، وبالتالي هناك استقرار نوعًا ما ولو محتشم.

─ لكن في المدّة الأخيرة تغيّر الوضع، هناك تظاهرات في البحرين، أخير أيضا في الإمارات، التي لك علاقات مميّزة مع رئيسها المرحوم الشيخ زايد. دولتهم اعتقلت ما يزيد عن 60 محامٍ وحقوقي لأنهم أمضوا وثيقة تُطالب بالإصلاحات والحريات، فوجدوا أنفسهم ليسوا فقط في “بيت يوسف” كما يقال، بل جُرّد بعضهم من الجنسية الإماراتية، ونُفي البعض الآخر، وجُمّدت حتى أرصدة عائلاتهم وأقاربهم الذين ليس لهم لا في العير ولا في النفير، وهذا أغرب من الخيال على شعوب الخليج المسلمة المضيافة. أين نحن من قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؟ واليوم فقط وصلتني عريضة توقيعات من منظمات إنسانية للمطالبة بإيقاف انتهاكات حقوق الإنسان في دولة الإمارات، هل توقّعها معي؟

عذرًا، عذرًا، أستاذ مصطفى (متبسمًا). كما أجبتك قبل قليل، المنطقة لها خصوصيتها، والنظام العشائري، لازال موجودًا في هذه البلدان. أما قولك أنّ الإمارات تعتقل محامين وحقوقيين. فهذا ممكن مع الحكام الجدد الذين لا أعرفهم منذ رحيل الشيخ زايد، لكن أقول لك، تعرفت على الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، شخصيًا، وهو رجل حكيم وشهم، لا شك في ذلك. أحكي لك قصة عشتها معه، أنت تعرف أني كنت مسؤول الإعلام في الحلف الأطلسي، بعدها رفضت المانيا ترشيحي لأكون مسؤولا عن ذات الحلف في بروكسل، في تلك السنة رشحتني مؤسسات شعبية وعمومية وفزت كأحسن شخصية ألمانية، لمّا سمع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله – بخبر فوزي كأحسن شخصية ألمانية، وأنا مسلم، قال: “المسلمون أولى بتكريم هذا الدبلوماسي الألماني المسلم”، فاقترحني على رابطة العالم الإسلامي لأكون شخصية العالم الإسلامي للعام التالي، ووافقت كل الدول الاسلامية باقتراح الشيخ زايد بن سلطان – رحمه الله–، ولمّا حضرتُ لتسلّم الجائزة أمام ممثّلي الدول والبعثات الدبلوماسية في الإمارات العربية المتّحدة، وبدل أن يعطى لي هدية رمزية أو شيء من هذا القبيل كما هو معتاد، أعطاني كيسًا كبيرًا فيه ما يقارب الربع مليون دولار دراهم ورقية! فقلتُ لهم لماذا لا تمنحوني صكًّا بنكيًا “خفيفًا”، بدل هذه الأكوام من الأوراق النقدية، ثقيل حملها من الإمارات لألمانيا، إرحموني (يضحك)، فأجابني ممثّل الشيخ زايد بقوله: فضّلنا الدراهم على الصكّ البنكي لكي لا تأخذ منك الدولة الألمانية ضرائب وعمولات إضافية أخرى! فأجبته “بل أعطوني صكًّا بنكيًا، أنا أحب الشفافية، ونصيب الضرائب يذهب لأصحابه المحتاجين في الإدارة الألمانية، والبقية سوف أسلمها للمسلمين الألمان”! وفعلًا سُلِّم لي شيك بدل الدراهم، وسارت الامور كما أرادها الله، ولما وصلتُ إلى ألمانيا، حوّلتُ المبلغ كاملًا إلى إخواني في “المجلس الاسلامي الألماني”، ولم آخذ منه ولو فلسًا واحدًا لنفسي. لذلك فضلُ الشيخ زايد وحكومته على المسلمين في الشرق والغرب معروف للعام والخاصّ، حتى عندكم في سويسرا والعديد من دول الغرب موّلت فيها الإمارات مشاريع ومراكز إسلامية للجالية.

أما فيما يخصّ التوقيع على العريضة لإطلاق سراح سجناء الرأي، فأنا ضد اعتقال من يخالفني في رأيي، حتى ولو كان من بلد غير بلدي ودين غير ديني. وقد وقّعتُ على العديد منها ومستعدّ أن أوقّع على العشرات لأنّ الله عزّ وجلّ كرمّ بني آدم، في مثل قوله تعالى: “ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلا”. لاحظ، قوله تعالى “ولقد كرّمنا بني آدم”، ولم يقل ولقد كرّمنا بني فلان أو علان. أو المسلمين، لا أبدًا. تكريم لكلّ البشر، بغضّ النظر عن العرق واللون والجنس، إلخ.

لذلك أنا أحاول دئمًا، في كتاباتي، التفريق بين عالمنا الإسلامي أو الأمة المسلمة، وقبائل تنتمي للإسلام. والغرب خائف على أوروبا من أن يصبح مسلموها أمّة واحدة، فكلمة “أمّة” فقط تُخيفهم، أوروبا تسعى لجمع شتاتها اليوم، لكن لا تفتح أبوابها للإسلام الذي يعدّ قيمة إضافية مهمّة. ومحور طنجة-جكارتا الإسلامي في مواجهة مخططات التغريبيين يمتلك مؤهلات حقيقية لبناء حضارة مع الآخر، لِما يتمتّع به هذا المحور من كثافة التاريخ المستند إلى مشترك فاعل وحيوي فهذا المحور هو المجال الحيوي لنشاط المثقفين المسلمين من أجل النهوض بالأمة وإخراجها من فلك العبودية والارتهان للغرب.

─ ومع كل هذه الزوابع والهزات والتغييرات، الجزائر بقيت في خندقها، لم تمّسها نسائم “الربيع العربي”، هل لذلك تفسير في نظركم؟

باختصار شديد، الذاكرة الجزائرية لازالت غضة تحتفظ بكثير من المشاكل، والكدمات والجروح لم تندمل بعد، فالشعب الجزائري عمومًا لازال مرهقًا ومتعبًا من العشريات الأخيرة، يحتاج لبعض الوقت، لا أدري كم، لكن الشعب الجزائري له هو أيضًا خصوصياته، فلننتظر، وإنّ غدًا لناظره قريب.

─ معالي السفير، الجزائر فقدت هذه الأسابيع الأخيرة الرئيس الشاذلي بن جديد وقبله الرئيس أحمد بن بلة. الرئيس الشاذلي لم ألتقه شخصيًا مطلقا إلا مشاهدة من خلال وسائل الإعلام، لكني التقيتُ الرئيس بن بلة شخصيًا في العقدين الأخيرين بحكم تواجدنا ليس في بلد واحد، بل في مقاطعة واحدة، والذي أعجبني فيه تواضعه الكبير، وأخلاقه العالية وخاصة تنسّكه في العشر الأواخر من رمضان في المدّة الاخيرة. ممكن أن أختلف معه سياسيا في بعض الأمور، لكن الرجل في آخر حياته كان مؤمنًا، رغم أنّ بعض الساسة الذين “لعبوا به” في بعض الأمور كما يروّج في الشارع العربي، أو استغلّوه إن صحّ التعبير. وأنت معالي السفير ماذا تقول عنهما، وعن الرئيس الحالي؟

أنا التقيت بالرئيس الشاذلي العديد من المرات بحكم شغلي في الجزائر. في زياراتي الرسمية جلستُ معه وتجاذبنا أطراف الحديث حول بلدينا والعالم الإسلامي والمجاملات الدبلوماسية كما هو معهود في مثل هذه اللقاءات، فالشاذلي رجل مؤمن لا يتكلّم كثيرًا، وحتى حياته العملية لم يبهره في فترة حكمه التكتيك الشيوعي، مثل الرئيس بن بلة، فهذا الأخير لم ألتقه مطلقًا حتى لمّا هاجر إلى سويسرا، إلا أنه مشبع بالأفكار الماركسية وبالتجارب الشيوعية في مرحلة حكمه وبعدها بقليل. عمومًا حسب قراءاتي ومعلوماتي، فأثناء حكمه خاصّة لم ير مستقبلًا لبلاده إلا في ظل الحكم الشيوعي. ممكن أن تفند كلامي هذا بقولك أن “الشيوعية” في تلك الفترة كانت موضة عصرية بالنسبة للدول المستقلة حديثًا ودور المعسكر الشيوعي السوفييتي وحتى العربي وزمالته مع جمال عبد الناصر، لكن هذا واقع والتاريخ سيدوّن له صفحات مشرقة أو رمادية له أو عليه لا أدري، لأني لم أجلس معه مثلك ومثل أناس آخرين. نفس الكلام ينسب على أيّ رئيس آخر، والرئيس الشاذلي أيضًا، تُحسب له في سجلّه انتقاله السلمي من العسكرتية إلى السياسة، وهذا نادرًا ما يفلح فيه رجل وُلد وترعرع وشبّ في الثكنات العسكرية ومرّ بكل الرتب والوظائف العسكرية. كذلك فهو عمومًا يعدّ من آباء التعددية السياسية في الجزائر، لأنّ الشعب الجزائري ناضج ويستحقّ تلك الحرية، ولا ننسى أنه أوّل حاكم عربي يسمح بالترخيص لحزب إسلامي. وهذه تعدّ ثورة في الأفكار تُحسب له، رحم الله كليهما.

أمّا عن الرئيس الجزائري الحالي، فقد استطاع أن يُرجع الهدوء للوطن بعد حرب أهلية، وهو أمر مهمّ، لكنه لم يفلح بعد عهدتين من الحكم في تطوير الهياكل الديمقراطية للدولة الجزائرية الحديثة، من مخلّفات ورواسب الاستعمار الفرنسي.

─ على ذكر المستعمر الفرنسي، هذه الأسابيع الاخيرة فقط، وتحديدًا يوم 17 أكتوبر، اعترفت فرنسا لأول مرة في تاريخها على لسان رئيسها الجديد فرانسوا هولاند، بمجزرة 17 أكتوبر 1961 التي ارتكبها المستدمر الفرنسي في حقّ آلاف الجزائريين في باريس، لكنها في ذات الوقت ترفض حتى الساعة تسليم أرشيف الثورة للجزائريين، لماذا وما تعليقكم؟

التاريخ ذاكرة الشعوب، وهو حقّ لا يناقش ولا يساوم عليه، إلا أنّ الوقت لم يحن بعد في نظر فرنسا – حسب تقديري –، ومنطقيًا العديد من مجرمي الحرب لا يزالون أحياء، وفرنسا لن تغامر بكشف أسماء وخرائط وووثائق. فرنسا لا تريد، بل على الأقلّ هذا الجيل لا يريد أن يضحّي بسمعة الدولة الفرنسية في المحافل الدولية والتعرّض إلى عواقب أخرى. أمّا الاعتراف الأخير للرئيس هولاند بمجزرة 17 أكتوبر 1961، فقد جاء متأخّرًا.

─ على ذكر فرنسا، المسلمون في فرنسا عمومًا والناطقين بالفرنسية في العالم أجمع، افتقدوا هذه السنة رجلًا قدّم للمسلمين ما عليه من جهدٍ فكري محترم، هذا الشخص هو المرحوم روجي أو رجاء غارودي، الذي لم ترحمه فرنسا حتى وهو ميّت، بحيث أحرقوا جثمانه، لا أدري لماذا، وقيل أنه خرف نوعا ما، في آخر سنوات عمره!

إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعتُ أنه انتقل إلى رحمة الله، لكنّي لم أسمع بقضية الحرق هذه، وأين هم المسلمون الذين يعرفونه، أمثال الدكتور العربي كشاط والسيد…

─ الدكتور العربي كشاط، سمعتُه في تسجيل فيديو مباشر، بمناسبة ندوة تأبينية للمرحوم رجاء غارودي نظمتها في الجزائر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وقد نفى حينها أن يكون غارودي قد خرف، وقال أنه كان في كامل قواه العقلية! هل تعرّفت أنت على المرحوم قارودي؟

تعرّفتُ عليه، رحمه الله، مرّات عديدة في الجزائر وفرنسا وهو لا شكّ موسوعة وقامة فكرية معتبرة، لكني أختلف معه في جزء من تحليلاته بحيث لا يزال عالقا بذهني حوار جرى بيننا. كان يتجنّب في تقديري الرجوع لبعض روايات السنة الشريفة، ولا يعتدّ ببعضها الآخر، بل يركّز خاصة على القرآن، لا أدري لماذا، ربما يكون قد غيّر رأيه في آخر سنوات حياته، باحتكاكه بعلماء المسلمين في الغرب، أمثال الدكتور العربي كشاط، كما كنت تذكر لنا قبل قليل. لأنّ السنة ترجمان القرآن، ولا فهم للإسلام إلا بالعودة إلى السنة النبوية الشريفة، وقد فصّل العلماء في ذلك، فيما يعتدّ به من آثار السنن والسير.

وعُرف عن غارودي خاصّة دفاعه عن الإسلام والوقوف في وجه حملات التشويه في الغرب. كما يُشهد له بمناهضة الصهيونية. طبعًا لا ننسى أيضًا أنّ تاريخ غارودي معروفٌ ومحبوبٌ لدى العرب عمومًا والجزائريين خصوًصا، وهو أيضًا أحبّ الجزائر وأحبّ شعبها، ويبدو حتى من قصّة حياته، التي يذكر فيها، حينما كان جنديًا فرنسيًا ضمن قوات الاحتلال في الجزائر، ووقع مع مجموعة من الجنود أسرى في أيدي الثوار الجزائريين، وحدث تمرّد من الأسرى الفرنسيين في معسكر الاعتقال، فأمر قائد المعسكر بإطلاق النار على المتمرّدين وكانت السرية الجزائرية المكلّفة بإطلاق النيران عليه هو مع زملائه من المسلمين وفوجئ بهم يرفضون إطلاق النار على الأسرى وهو من بينهم، وسأل حينها قائد السرية لماذا فعلوا ذلك؟ فقال له: لأننا مسلمون، ومن العار أن نُطلق النار على أسير أعزل لا سلاح معه، وكانت الصدمة الأولى التي زلزلت حياته، كما كتب، ومن ذلك التاريخ عرف أنّ الإسلام هو الذي انقذ حياته. وعمره آنذاك 28 عاما وظلّ بداخله هذا الوازع الديني حتى اعتنق الإسلام عام 1982، وعلى يد من؟ أيضا على يد إمام جزائري في سويسرا، الإمام الشيخ محمود بوزوزو، رحم الله الجميع.

─ على ذكر إمام سويسرا، لو نعود لتجربة روّاد الصحوة في الغرب أمثالكم، وأمثال عصام العطار والعربي كشاط، والعشرات الأحياء والذين رحلوا كفيصل مولوي والشيخ محمود بوزوزو والدكتور سعيد رمضان وحميد الله وغيرهم. لمّا أقرأ تجاربهم الواعدة أخلص إلى محصلة مفادها أنّ الإنسان مدني بطبعه، ومجبول بفطرته على التواصل مع محيطه الإنساني والمادي، ولا يمكن له أن يعيش عيشة هانئة في ديار الغرب بمفرده، كما لا يمكن له أن يجد للحياة طعمًا إذا عاش بمعزل عن الناس، واستغنى بفكره وذاته عن محيطه والعالم الذي حوله، ذلك لأنّ صحة الأبدان وأمن الأوطان ورغد العيش هي مقومات الحياة، ولذلك قال الرسول (ص): {من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في بدنه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها}، ومقوّمات الحياة هذه جلّها متوفّرة في ديار الغرب بنسب متفاوتة، من هذا المنطلق تأتي ضرورة حوار الحضارات أو الحوار مع الآخر، وحتى لا يكون حديثنا عن الحوار حديثا في المطلق، يجب أن يكون حوارًا فكريًا حضاريًا، هو المعين الصادق للأصالة الإسلامية. هو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة بالتي أحسن لا التي هي أخشن. هو القدرة على دخول العقول والقلوب. هو البناء لهمم الرجال بعد التأسيس الروحي. هو الوقاية ضد جميع الهجمات الوافدة. وبكلمة واحدة، الحوار مع مراعاة “فقه الواقع” هو أداة الإقناع المثلى لأهل الشرق والغرب. على ضوء هذه التعاريف هل لكم أن تشرحوا لنا كيف أسّستم لـ”فقه الواقع” مع تعدّد فهوماتكم وقناعاتكم؟

عذرًا، هذا يتطلّب محاضرة كاملة. لقد تطلّب الأمر منّا جهدًا كبيرًا، ووقتًا طويلًا، لأنه كلّ من يفدُ إلى الغرب، خاصة من إخواننا العرب، يأتي بقناعات كأنها قرآن لا تُناقش ونحن نعيش في المسجد الواحد، متعدّدي الجنسيات واللغات والمذاهب والفهومات، علمًا أننا أقليات؟ ولإخراج هذه الأقليات من عزلتها ولكي تغادر خلافاتها الصغيرة وتنخرط في الحياة القائمة، وتبحث لها عن حلفاء وأصدقاء وتخرج لها متحدثين باسمها أكفاء يحملون راية الوسطية كما جاء بها القرآن الكريم: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا].

رغم ذلك يبقى الطريق متعرّج المسالك، ونور النفق لا يزال بعيدًا، لكن يبقى أن الغرب جزء من أمة الدعوة يحتاج إلى أنوار فقه جديد تتظافر فيه جهود واجتهادات مختلف علماء الأمة من شتى المذاهب الإسلامية ومن كل أصقاع المعمورة، تجديدًا لهذا الدين، عملا بقول سيدنا محمد (ص) القائل: {إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها}، وقول الله تعالى: [وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ].

─ صدقتَ وممّا زاد الطين بلّة جهل العديد من المنتسبين للإسلام بأولويات العمل الإسلامي في الغرب، متناسين أنّ النص القرآني معجزة كلّه. وكما يحلو للإمام محمود بوزوزو، رحمه الله (من تلامذة العلامة بن باديس)، تكراره في حلقاته ونحن شباب في الثمانينات من القرن الماضي، ما ملخص قوله: “أنّ في القرآن الكريم الإعجاز البياني والعلمي كما فيه من الإعجاز التشريعي والإصلاحي، وإذا كان الأوائل وقفوا في بعض النصوص عن ما تتيحه الألفاظ، فإنّ من المتأخرين من أعاد قراءة هذه النصوص، فكشفوا عن معجزات علمية خدمت العقيدة خدمة جليلة، ولا ريب أنْ يصل الأواخر في ذلك إلى ما لم يصل إليه الأوائل، وإذا ساغ ذلك في مجال العلم فهو سائغ في مجال التشريع بلا شك، بل قال ابن عبد البر: ليس أضرّ على الدين من مقولة: لم يترك الأوائل للأواخر ما يقولون فيها.”

أحسنت. صحيح، باب الاجتهاد مفتوح وباب التجديد مشروع ومشرّع الأبواب على مصراعيه، لذلك أنا وصلتُ لقناعة منذ عقود خلت، أنّ مستقبل هذا الدين وتجديده يأتي من الغرب وليس من المشرق، أي من مسلمي أمريكا و أوروبا، لأنّ بعض فهومات بعض منظري المشرق بها رواسب تراثية، لا تنظر بشمولية للواقع المعيش من كافة جوانبه الحضارية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. فنظرتهم تبقى حبيسة واقعهم. أمّا الغرب ففيه تحدّيات كبيرة يجب البحث لها عن حلول منطقية بعيدا عن العاطفة. هذا الذي جعل أستاذي محمد أسد، رحمه الله، يقوم بعمل جبار، عالمي، فقد عايش هذه التجارب على مرارتها في باكستان والهند وفي أدغال إفريقيا وفي أوروبا. بكلمة واحدة إسهامات محمد أسد نظـّرت للواقعية الاسلامية في هذه الديار وفق خصوصيات كل مجتمع، لذلك فمسلمي أمريكا اليوم يعيشون على فكر أو مدرسة محمد أسد، التي يرتشف من منابعها كثير من مسلمينا هناك على تنوّع مشاربهم، ربما الأقرب إلى ذلك إخواننا من “المعهد العالمي للفكر الإسلامي” و”مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية” (كير) و(إيكنا) وغيرهم، لأنّ أمريكا لم يلوث تاريخها كثيرًا مثل ما هي عليه أوروبا بماضيها الاستعماري البغيض والديني المتحجّر، فنظرياته وكتاباته قُبلت دون خلفية. أمّا في أوروبا، تصوّرْ، كتبه لم تترجم للفرنسية إلا أخيرًا، وحتى أنا كتبي لم تترجم إلى الفرنسية ورفض بعض المنتسبين للإسلام في باريس تحديدًا أن تُسوّق حتى في المكتبات! أما باللغات الأخرى كالإنكليزية والألمانية وحتى العربية فالحمد لله. والأغرب من كلّ ذلك كتب محمد أسد ذاته، كانت مرفوضة في السعودية وهو الذي أفنى زهرة حياته مدافعًا عن الاسلام ومساعدًا ومترجمًا حتى للملك عبد العزيز وفيصل، رحمهم الله. وأخيرًا فقط – منذ عقدين تقريبًا – عرفوا قيمة الرجل، وصدر فيلم توثيقي عن سيرة حياته في منطقة الحجاز، نقلًا عن كتابه المعروف “الطريق إلى مكة”. جميلٌ لو يُقرأ هذا الكتاب وكتبه الأخرى على شباب اليوم في العالم أجمع وليس الإسلامي فقط، ليُدركوا بُعد نظر رجل كان يهوديًا نمساويا، فجعل الله منه إنسانًا يشرف بني الإنسان في الغرب؟ أيّ إيمان، أيّ عزم، أي مضاء؟ أيّ صدق، أيّ طهر وأيّ نقاء؟ أيّ تواضع، أيّ حب، أيّ وفاء؟ أيّ احترام للحياة والأحياء؟ ما الذي جعل المؤمنين بالإسلام يزيدون ولا ينقصون، رغم هول معركتنا ضد المادية المفرطة المغرضة وفراعنة العصر وجباريها في غربنا؟

رغم ذلك فإنّ مسلمي الغرب كما الشرق لم يستثمروا أفكار محمد أسد كما يجب، ولم يكرّموه، ما عدا مسلمي النمسا، الذين فتحوا مؤسسات ومراكز ومناطق باسمه، مثل تسمية ساحة أمام مسجد فيينا، في الدائرة الـ 22 للعاصمة النمساوية، باسم محمد أسد. أنظر، خذ معك هذه الصورة المكتوبة بالألمانية: “ساحة محمد أسد، 1900-1992، مفكّر، عالم، ديبلوماسي”!

─ وديبلوماسي أيضًا! أي كان سفيرا مثلكم!

نعم، كان أوّل سفير لدولة باكستان في الأمم المتحدة بنيويورك، لما رأت باكستان النور عام 1947، فحكومة البنجاب في البداية نصّبته على دائرة إعادة التعمير بلاهور، وساهم مدّة سنتين مع فريق عمل في صياغة دستور البلاد، ثم مديرًا لقسم الشرق الاوسط بوزارة الخارجية، ليرسل كسفير مفوّض فوق العادة برتبة وزير عام 1952 كسفير لدولة باكستان، لكنه لم يبق في هذا المنصب إلا ستة أشهر، لأنّ أفكاره أزعجت بعض الساسة في نيويورك وحتى وزير خارجيته الباكستاني كان متخوّفًا منه لأنّ محمد أسد من أصول يهودية! وقيل كان يغار منه، وقد انفجر الوضع بين السفير والوزير لمّا رفض هذا الأخير السماح لمحمد أسد الزواج من سيدة مسلمة من أصول كاثوليكية أمريكية بولونية، هي الأخت بولة حميدة، فأضطر للاستقالة من السفارة وتفرّغ للكتابة والدعوة ككلّ مفكّر همّه دينه والقضايا الكبرى لحضارة الأمة.

─ كما وقع لغيره لكن بقصص مختلفة كالشيخ إبراهيم مزهودي لمّا استقال من السفارة الجزائرية بمصر، ومالك بن نبي لمّا استقال من إدارة التعليم العالي ليتفرغ للكتابة والدعوة. وغيرهم كثير. لكن لو سمحتم لنعد لتجربتكم الشخصية والمفكر محمد أسد. هناك بعض المؤسسات أو حتى الدول، أطلقت مثلا، تسمية “ساحة” باسم محمد أسد في فيينا، ومراكز إسلامية وثقافية في النمسا وفي غيرها من الدول الأخرى أطلقت أسماء مفكرين ورموز على مؤسسات ثقافية وعلمية، وأنتم أو أتباعكم، لماذا لا تؤسسون مؤسسة باسمكم، تتبنّى أفكاركم وتدير ندوات للتعريف بها، وتتابع تراثكم ومنشوراتكم، وهو أمر ميّسر ومتداول اليوم، في المجتمعات العربية والغربية، وآخرها على الأقلّ عائلتك الصغرى أو الكبرى تُشرِف على ترجمة كتبك إلى الفرنسية مثلًا، وهو جزء من ردّ الاعتبار لأصحاب الفضل أمثالكم؟

هذا الأمر يعود إلى الجالية المسلمة في هذه الديار، أو في العالم الإسلامي، وليس إليّ. أنا أدّيت ما عليّ، عصارة أفكاري موجودة خاصة في كتبي الـ13 المنشورة، باللغات الانكليزية والعربية والألمانية ولغات أخرى. أمّا تأسيس مؤسسة من طرف عائلتي الصغيرة فلا أظن إمكانية ذلك في المرحلة الراهنة. رزقتُ بولدين من زوجتين مختلفتين، لم يبق لي إلا ولد واحد يسكن حاليا في فرانكفورت، أمّا ابني الأوّل من زوجتي الأمريكية الأولى فقد توفي وهو طفل. لكن يوجد طلبة وأساتذة أمثالكم، حظروا لندوة للناطقين بالألمانية بعنوان “الدعوة الإسلامية في الغرب: من محمد أسد إلى مراد هوفمان”، وُزّعتْ فيها كتبنا، وهي تجربة رائدة، تعرّفت فيها علينا الجالية المسلمة الوافدة، خاصة الأتراك الذين يفوق عددهم خمسة ملايين نسمة في ألمانيا، وهي نفس الندوات التي قمتم بها أنتم، أو ما يشابهها منذ سنتين أو ثلاث في سويسرا وفرنسا حول فكر مالك بن نبي ومحمود بوزوزو وسعيد رمضان وحميد الله وحتّى جهود الإمام بن باديس وجمعية العلماء الجزائرية.

─ شكرًا أستاذنا الكريم، ومعذرة إذا كنّا أتعبناك بهذا الحوار الطويل، وأعدكم، إن شاء الله، أننا ننظم لك ندوة بهذا العنوان،”الدعوة الإسلامية في الغرب: من محمد أسد إلى مراد هوفمان”، في سويسرا أو في فرنسا، فقط أقترح لنا التاريخ الذي يناسبك لتشرفنا بحضورك مع باقي ضيوفنا من أساتذتنا ومشايخنا، ونحن نقوم بالواجب، خلال العام المقبل بحول الله.

نفكّر مستقبلًا في الموضوع سويًا بحول الله – إن كانت للأعمار بقية – وأشكرك وأشكر إدارة جريدتكم الغراء، على هذه الفرصة الثمينة للتواصل مع القراء العرب الكرام، وأدعو الله تعالى أن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير، وأن يغفر لنا وللذين سبقونا بالأيمان، ووفقكم الله لما فيما صلاح البلاد والعباد. إنه سميع مجيب. آمين.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version