هناك سؤال محيّر، على الأقل بالنسبة لمن لا يعرف طبيعة وتركيبة وأسس النظام الجزائري. ويظل هذا السؤال معلقا لا يجد له جوابا شافيا. ما سر تشدد هذا النظام واعتماده سياسة القبضة الحديدية بحق كل النشطاء السياسيين والحقوقيين والنقابيين المستقلين والسلميين، في حين يقيم ذات النظام علاقة تفاهم بل وتنسيق حتى مع من شارك في أعمال العنف الدموي (ممن كانوا يسمون إرهابيين)؟ لماذا يلاحق النظام الجزائري المناضلين الحقوقيين أو النشطاء السياسيين المسالمين، ويضايق عليهم ويكتم أنفاسهم ويعتقلهم بتهم تتعلق بالإرهاب، رغم أن ما يقومون به لا يخرج عن نطاق العمل المشروع في التعبير السلمي المكفول دستوريا، بينما يقوم نفس النظام بمجالسة والتقرب من الذين “لطخت” أيديهم بالدماء (حسب وصف النظام نفسه) ومن شاركوا مشاركة فعلية ومعلنة في أحداث العشرية الدامية، الذين لا ينكرون انتمائهم للعمل المسلح سواء ضمن الجيش الإسلامي للإنقاذ أو الجماعات الإسلامية المسلحة، بغض النظر إن كانت هذه الجماعات هي صنيعة جهاز المخابرات أو مخترقة من قبلها، أو تعمل بتوجيه منها؟ والجدير بالذكر أنه رغم ثبوت انخراط هذه الجماعات واعترافها بمشاركتها في العمل المسلح الذي تسبب في إراقة دماء جزائرية، لم يحُل ذلك دون اندماجهم في استراتيجية النظام والعمل المشترك معه. هذا الموقف “الكافكاوي” من النظام، حتى ولو بدا متناقضا، فهو ليس كذلك إذا أخذنا في الاعتبار المفهوم المعتمد من قِبل هذا النظام لمصطلح “الإرهاب”.

بادئ ذي بدء، هناك تعمّد بيّن في إبقاء مصطلح الإرهاب فضفاضا ليتمكن النظام من “إلصاقه” بكل من يضايق مشاريعه، ويكشف مراميه، ويطرح الأسئلة المحرجة. واستنادا، أو بالأحرى بفضل مطاطية هذا المصطلح، لا يجد النظام أي حرج في الجلوس مع من كانت لهم مسؤولية مباشرة في إراقة دماء الجزائريين مهما كانت هذه الأطراف، بالمقابل يقوم هذا النظام بشن حرب هوجاء موظفا كافة أجهزة الدولة بما في ذلك جهاز العدالة، للقضاء على “الإرهابي” الذي لم يثبت بحقه أن انخرط يوما في أعمال العنف ولم يتسبب في إراقة قطرة دم واحدة. وإن ذنب هذا “الإرهابي” من منظور النظام يتمثل في جرأته على مطالبة هذه السلطة، بشكل سلمي، بواجب الحقيقة والإنصاف، وبضرورة التقصي بشكل نزيه ومستقل في الجرائم التي ارتكبت طيلة عشرية كاملة، ومعاقبة الجناة في حالة ثبوت جريمتهم أو على الأقل اعترافهم بما اقترفوه، قبل طي صفحة العشرية الدامية، من أجل تجنب الإفلات من العقاب وتكرار جريمتهم. في واقع الأمر إن ما يطالب به هؤلاء ببساطة، هو تحديدا عين الإرهاب الذي تحاربه هذه السلطة ويستحق صاحبه العقاب الشديد بدون رحمة.

النظام الجزائري له رؤية خاصة به في هذا المجال الحساس، فكل من انسجم مع روايته للأحداث وانخرط في مخططاته، ولم يعد “يقلب الأمور” ويبحث في ملفات أجهد النظام نفسه على دفنها إلى الأبد، أصبح من المقربين، مهما اقترفت يداه، ولا مانع من مكافأته ودعمه بشتى الطرق في إدارة مشاريع تجارية تذري عليه الملايير، وفي الوقت ذاته، وبحجة ملاحقة ومكافحة الإرهاب، يقوم هذا النظام، عن طريق تسخير جهاز العدالة، داخل البلاد واستعمالها وتضليلها خارجه، على ملاحقة النشطاء السياسيين والحقوقيين والنقابيين الذين يرفعون اصواتهم لمعرفة الحقيقة ومناهضة الإفلات من العقاب ويشجبون سياسة النسيان، مثلما جرى مع المناضل الحقوقي السيد محمد سماعين في غليزان والدكتور مراد دهينة في فرنسا، قبل أن ينكشف زيف الملف القضائي الملفق الذي انتهى بتبرئة الدكتور دهينة أو المضايقة التي تعرض لها الشاب معمري لمجرد تعبيره بحرية عن رأيه ومناداته بمقاطعة مسخرة الانتخابات التشريعية الماضية، أو السيد عبد الله بن نعوم الذي لا يزال إلى يومنا هذا رهن الاعتقال التعسفي بتهم ملفقة، وملف واه، علما أن كل ما قام به يدخل في إطار حقه المشروع والدستوري، لكن جرمه الحقيقي هو أن ما قام به يقلق أركان النظام المستبد حتى ولو تم التعبير عنه سلميا.

لعلنا نجد شطرا من الجواب على السؤال المطروح أعلاه في رد المحامي أنتوان لوكونت الذي تولى الدفاع عن الدكتور مراد دهينة، عندما قال أن موكله “من المعارضين القلائل الذين لا يزالون يطرحون معضلة المسؤولية السياسية والقضائية التي يتحملوها المسؤولون الذين زجّوا بالبلد في الحرب الأهلية”، مما يفسر حسبه موقف السلطات الجزائرية إزاءه” و”عزمهم على إسكاته”.

وتأتي شهادة أخرى توضح هذا الجانب من خلال تصريح الوزير الأسبق غازي حيدوسي عقب الإفراج عن الدكتور مراد دهينة، عندما قال أن العدالة الفرنسية قد برهنت من خلال قرارها بالإفراج عن الدكتور دهينة أن الشرفاء من المثقفين الجزائريين المنتمين إلى المعارضة ليسوا كما يصفهم الإعلام الجزائري الرسمي و”المستقل” إرهابيين ومجرمين، بل هم أناس محترمون وشرفاء.

إن ذنب هؤلاء الوحيد الذي لم تغفره لهم هذه السلطة هو استمرار مطالبتهم بالحقيقة ومحاربة الإفلات من العقاب، ليس إلا، ولو قبلوا ما عرضته هذه السلطة على غيرهم، من مساومات وإغراءات، لتحوّلوا بقدرة قادر إلى مصاف العقلاء والوطنيين والشرفاء. لكن هيهات، شتان بين من يناضل من أجل المبادئ ويستميت في نضاله من أجلها ويدفع الثمن غاليا من أجل ذلك وبين من يرتزق تحت شعارات براقة ليتقاضى ثمنا على ارتزاقه.

رشيد زياني-شريف
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
26 جويلية 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version