« ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة وألف، وفيها كانت الحوادث العظام، والأحداث الجسام، وانتظم فيها من جليل الوقائع ما لم ينتظم في سواها، وشهدت فيها أمة العرب من زوال الملك، وتحوّل الأحوال، وتبدّل التصاريف ما لا يكون مثله إلا في المدد المتطاولة، والأزمنة المنفسحة. وما علمنا في التاريخ قطّ أنّ ملوكًا ثلاثةً كبارًا زال مُلكهم في عام واحد إلا ما كان في هذه السنة العجيبة!

ففيها فرّ طاغية ظالم كان يحكم أرض القيروان، يُقال له: ابن عليّ! وقد ذكروا أنّه ما ترك سبيلا يحارب به الدين إلا سلكه! ولا هداه شيطانه إلى شيءٍ فيه منقصة للإسلام ورجاله وتضييق عليهم إلا أخذ به! فسجن وعذّب وقتل، ثم لم يرضَ حتى حوّل بلاد القيروان من عاصمة شامخة من عواصم الإسلام، وقلعة منيعة من قلاع العلم، إلى حانة كبيرة، يتسلّى فيها الفرنجة بكشف عوراتهم، وإتيان رذائلهم، وقد بلغني فيما يرويه الثقات أنّ المسلمة العفيفة ما كانت تستطيع أن تلبس حجابها، وأنّ جلاوزة هذا الظالم ربما نزعوه عنها في الطرقات وأماكن العمل! فالحمد لله الذي عجّل بهلاكه. والعجيب أنّ الله قد جعل مبدأ هلاكه على يد فتى فقير كان يبيع ثمار الأرض يتعفف بذلك عن السؤال، فلما استبدّ به الفقر، وغاظه أن تمتدّ إليه يد ذات سوار تلطمه، أحرق – غفر الله لنا وله – نفسه، فلم يلبث أن هاج الناس ففرّ “بائع البلاد” بفعلة “بائع الخضار”! ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وفيها أُسِر فرعونٌ كان يحكم أرض مصر، جعل عاليها سافلها، واتخذ له من سفلة الناس أعوانًا وأنصارًا، فكان منهم الوزير والمدير والخفير والساعي بالفساد والمغتصب لحقوق الناس والمشيع للفاحشة. وقد ذكروا أنّ شرّ خصاله أنّه كان ردءًا لليهود يظاهرهم على بني دينه من أبناء فلسطين، ولقد سمعنا عن حصار القلاع، والمدن، ولكنّنا ما سمعنا قطّ أنّ حاكمًا مسلمًا يحاصر شعبًا مسلمًا بأكمله سنين متطاولة، لا يبالي بموت من مات، ولا بهلاك من هلك، ولا بجوع من جاع، ولا بمرض من مرض! ولم أر فيما رأيتُ من تواريخ الأمم والملوك والطغاة والظالمين حصارًا يكون تحت الأرض كما يكون فوقها! فقد ذكروا أنّه لم يرضَ بغلق المنافذ ونصب العسكر على الحدود حتى شقّ في الأرض شقًا عميقًا ثم دلّى فيه من ألوان الحديد وغيره ما صنع به جدارًا يَعْيا الحاذق بنقبه، وأعجب من هذا أنّه جعل فيه شيئًا لا يُدرى ما هو يجعل المرء إذا لمسه ينتفض فيموت! ثم هو بعد ذلك يبسط لليهود بيمينه ما قبضه عن الفلسطينيين بشماله، ولقد جعل الحر عبدًا، والعبد حرًّا، حتى لَمِصرُ في عهده أحقّ بقول أبي الطيب: “نامت نواطير مصر عن ثعالبها … فالحرّ مستعبدٌ والعبد معبود”. فلم يلبث المصريون الأحرار أن ذكروا به الحاكم بأمر الله .. فهاجوا عليه كما هاجوا من قبل على الحاكم على أنّهم أسروه ولم يقتلوه. وقيل: إنّه احتشد في أرضٍ يقال لها التحرير ثمانية ألف ألف إنسان فيهم الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والمسلم وغير المسلم، فمازالوا ثَمّ يهتفون ويصرخون ما رفعوا سلاحًا ولا آذوا إنسانًا، ولا تلطّخوا بجريرة، وظلّوا لا يبرحون حتّى تنحّى ذلك الحاكم وأُخِذ أسيرًا. وقيل إنّه بكى طويلًا لما زاره صديق قديم! ولله في خلقه شؤون!

وفيها قُتِلَ طاغوتٌ من طواغيت الأرض عزّ نظيره. قتلَهُ من قتلَهُ بعد أن أُخذَ أسيرًا من سَرَبٍ كان قد اختبأ فيه ذليلًا بعد عزّة، قليلًا بعد كثرة. قالوا: وكان هذا الرجل وليّ أمر طرابلس وما حولها أربعين عامًا، ما ترك قتلًا ولا ظلمًا ولا نهبًا ولا جنونًا ولا حماقةً إلا أتى بها! وبلغ من حمقه أنّه كان يلتقط المزق من الأقمشة فيجعل منها ثوبًا! وأنّه كان يقف بين ملوك الأرض فيسخر ويهزأ ويتمخرق ويمزّق الأوراق ويلقي بها في وجوه الناس! وأنّه جعل لنفسه لقبًا عجيبًا ما عرف الناس أطول منه! وأنّه كانت له خيمة يطوف بها الأرض، يضرب أوتادها حيث حلّ، ثم تكون هي مجلسه ومضافته، وربما نصبها بجوار القصر الكبير الفخم، ثم يأتيه الرئيس أو الملك فلا يُجلسه إلا فيها! وأنّه لم يرضَ أن يؤرّخ بتاريخ المسلمين ولا بتاريخ غيرهم ! فابتدع لنفسه تاريخًا ابتدأ من وفاة نبيّنا صلى الله عليه وسلم! ثم ألقى بأسماء الأشهر التي عرفها العرب والعجم وسمّى شهوره: أين النار! والماء! والتمور! والطير! وهلمّ جراً. وبلغ من حمقه كذلك أن صنّف كتابًا سماه “الأخضر” ادّعى أنّ فيه صلاح العالمين، وخلاص الأرض من فقرها وعنائها، وأنّه دستور العصر سياسةً واقتصاداً! وفي الجملة فإنّ غرائبه لا تحصى.

ومن وقائع هذه السنة كذلك ما فعله حاكم الشام لمّا تنادى أهلها بطلب حقوقهم وحرّيتهم، فلم يلبث أن سلّط عليهم جلاوزته، ونفرًا كانوا يُسمّونهم “الشبّيحة”، واحدُهم “شَبّيح”، وهو الرجل من غير العسكر يُعطى السلاح فيفعل به ما يشاء. وفعل الرجل في أهل الشام ما لوْ وجده إبليس في صحائفه لأخزاه واستحيا منه! ومثل ذلك فعله رجلٌ ظلّ يحكم اليمن ثلاثين عامًا، فلما ملّه الناس، وآذنوه بالرحيل، عاجلهم قصفًا وقنصًا وقتلًا وجرحًا، فكان ما كان ممّا لست أذكره!

ثم انقضت هذه السنة ودخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وألف.. وفيها .. » . اهـ .

هذا ما تصوّرتُ أنّ المؤرخ الكبير الإمام ابن كثير سيكتبه لو قُدّر له أن تكون هذه السنة العجيبة ضمن ما أرّخ له في كتابه الفذّ “البداية والنهاية”. وإنما سلكت هذا المسلك لأبيّن بتكثيف شديد وبشيء من الطرافة كذلك حجم المفارقات التي عشناها، وكيف سينظر التاريخ إليها من بعد.

أيها الأحبة.. ما جرى في هذا العام كان شيئًا مختلفًا بكل المقاييس: انقلاب موازين القوى لصالح الشعوبِ.. هلاك الطغاة والظالمين.. تبدّل مواقف الأنظمة والمؤسسات الدولية العربية.. صعود نجم الإسلاميين وتصدّرهم لقيادة العمل السياسي في بلدانهم.. أشياء لم يكن أكثرنا إغراقًا في الحلم والخيال يتوقّعها أو يتصوّرها.. هذا على المستوى الدوليّ.. وعلى المستوى المحلي الداخليّ كذلك.. حصلت تحوّلاتٌ كثيرة! فكريًا.. بلغت النقاشات اليوم بين التيارات الإسلامية حول الشريعة وتطبيقاتها حدًا غير مسبوق، وارتادت نقاطًا حرجة كان يمرّ بها مرّ الكرام، ولكن بشائر التطبيق الميداني أجبرت الفكر الإسلامي على أن يقف عندها. وبدأت بعض ملامح المنظومة الفكرية، والتصوّر الكلي للإسلام وتمثلّه تخضع للمراجعة والمفاتشة. واجتماعيًا.. أصبح الصوت عاليًا في موضوعات المرأة وقضاياها، بل تجاوز الأمر رفع الصوت إلى صدور قرارات قد تغيّر الوجه الاجتماعي للبلاد كقرارات مشاركة المرأة في الشورى والمجالس البلدية، وكل واقعيّ مستقرئ يتوقّع أن تكون هناك قرارات أخرى على النسق نفسه قريبًا. وسياسيًا.. حوّلت الشبكات الاجتماعية ووسائط الإعلام الجديد قطاعًا عريضًا من شبابنا إلى ناشطين سياسيين، يتابعون الأحداث، ويعلّقون عليها، ويناقشون التركيبة السياسية للبلد، ويقترحون، ويقبلون، ويرفضون.. وربما.. وربما يسجنون! واقتصادياً.. هناك حالة طفرة مادية أنعم الله بها علينا، ونسأله أن تدوم وأن تُستثمر على الوجه الصحيح.

وأحبُّ أن أؤكد هنا أنّ كل ماقلتُه فيما مضى أقرب إلى التوصيف منه إلى التقويم، فهي محاولة ناقصة لاستقراء وجوه التغيير، ولا تقصد إلى الحكم عليه، فلذلك مقامٌ آخر. ما أقصدُه في الجملة.. أنّ هذه السنة من بين كل ما عشناه من سنين هي سنةٌ مختلفة، سنةٌ أستطيع أن أسميها سنةَ “التغيير”! وهي شاهدةٌ شهادة صدقٍ بأنّ الأمور بيد الله يجريها كيف يشاء ولو خالفت حسابات الحاسبين وتوقّعات المتوقّعين. وأنا أدعو نفسي وإخواني إلى أن نتأمّل معًا هذا الحشد من الآيات الكريمة في ظل وقائع هذا العام وحوادثه.. فوالله لنجدنّ لها معنًى عجيباً:

“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”
“إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون”
“إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون”
“فإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون”
“لله الأمر من قبل ومن بعد”
“ولله غيب السموات والأرض وإليه يُرجع الأمر كله”
“ولله عاقبة الأمور”
“وإلى الله تُرجع الأمور”
“ألا إلى الله تصير الأمور”
“ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا، إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأتي بآخرين وكان الله على ذلك قديرا”
“وربك الغنيّ ذو الرحمة إن يشأ يُذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء”
“قل إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين”
“أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين”
“وقالوا من أشدّ منا قوة، أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة”
“ثم استوى على العرش يدبّر الأمر”
“يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض”
“وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين”

إنها شواهد صدق، ونواطق حقّ بأنّ الله جلّ جلاله على كل شيءٍ قدير.

أيها السادة… إنّ الدرس الذي أجدُه ملائمًا جدًّا بنهاية هذا العام خصوصًا هو “درس التغيير”، فمن العيب حقًّا.. أو من الغريب على الأقلّ.. أن يشهد الإنسان عامًا كهذا حافلًا بتغييراتٍ جسامٍ عظامٍ ثم يخرج منه وما غيّر من نفسه شيئا! أوَ تتغيّر الدنيا كلّها من حولكَ وأنت لا تتغيّر؟ يتبدّل كلّ ما حولك وأنتَ أنتَ لا تتبدّل؟ لستُ هنا بصدد الحديث عن “المبادئ والقِيم” حتّى يعترّض عليّ أحدٌ بمبدأ الثبات وضرورته، أتكلّم هنا عن التغيير نحو الأفضل، عن مفارقة الإنسان موضعه ليتقدّم، عن صنع شيءٍ مختلف يجعل منك شخصًا مختلفًا بحيث تكون في غدك خيرًا منك في يومك. أعتقدُ أنّ من أبسط حقوق هذا العام على كل واحد منّا أن يتّخذ قرارًا تغييريًا ما.. في توجّهه نحو الله، في وظيفته، في حياته الاجتماعية، في أخلاقه، في أهدافه، في نمط حياته..

عبد العزيز السعيد
4 يناير 2012

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version