حدّثني الأستاذ سعدي بزبان، وهو من طلبة معهد ابن باديس، أن الشيخ العباس ابن الحسين – رحمه الله – (1912 – 1989) كان يلقي – ذات يوم – في قسنطينة خطابا من خطبه التي تهزّ النفوس الخامدة، وترجّ الأجساد الجامدة، وتلهب القلوب الباردة، ثم افتعل السقوط على الأرض فهرع إليه الناس لإقالته من عثرته وإنهاضه من سقطته، ولكنه نهض من تلقاء نفسه، ثم وجّه كلامه إليهم قائلا: لقد افتعلت السقوط فأسرعتم إليّ – وأنا فرد – لتنهضوني، ولكن الجزائر – وما أدراك ما الجزائر – ساقطة منذ قرن وربع لم تسارعوا إلى انتشالها من وضعها، وإخراجها من‮ ‬حالها‮.‬

تذكرت هذه الحادثة عندما قرأت ذلك التصريح الذي وقّعه مائة وثمانون شخصا (180) احتجاجا واستنكارا على الاستجواب الذي أجرته وكيلة الكونفدرالية السويسرية للجنرال خالد نزار، حيث اعتبر أولئك الموقّعون – وكثير منهم ليسوا أشخاصا عاديين – ذلك الاستجواب “مساسا بسيادة الشعب‮ ‬الجزائري‮ ‬وكرامته‮”‬،‮ ‬وأنه‮ ‬بذلك‮ ‬الاستجواب‮ “‬تمّ‮ ‬المساس‮ ‬بكرامتنا‮ ‬كمواطنين‮ ‬جزائريين،‮ ‬بحكم‮ ‬تدخّل‮ ‬دولة‮ ‬أجنبية‮ ‬في‮ ‬شؤوننا‮ ‬الداخلية‮..” (‬جريدة‮ ‬الخبر،‮ ‬في‮ ‬29‮ ‬‭-‬‮ ‬12‮ ‬‭-‬‮ ‬2011‮ ‬ص7‮).‬

جميل أن ينفر أي جزائري للدفاع – بأية وسيلة – عن أيّ جزائري آخر، ومنه دفاع هؤلاء الأشخاص عن خالد نزار، مهما اختلفنا معه، ومهما تكن مسؤوليته في الأزمة التي أصابت الجزائر في العمق؛ ولكن ما بال هؤلاء الموقعين.. يهرعون للدفاع عن خالد نزار – وهو الآن مواطن عادي مهما تكن مسؤولياته السابقة – ويغمضون أعينهم، ويستغشون ثيابهم، ويضعون أصابعهم في آذانهم، إذ لم نحس منهم من أحد ولم نسمع لهم ركزا عقب ذلك الحادث الرهيب الذي كادت تنشق له الأرض الجزائرية وتنهدّ له جبالها، ويخرج شهداؤها من الأجداث، ولا أعني إلا استدعاء وزير خارجيتنا – مراد مدلسي – الممارس للمسؤولية من قبل لجنة الشؤون الخارجية في برلمان دولة أجنبية، ويا ليتها كانت أية دولة، ولكنها الدولة التي قال الشيخ الجليل عبد الحليم ابن سماية (ت 1933) لمن سأله أن يعلّمه ذكرا ذا أجر كبير؛ قال له: “قل من بزوغ الفجر إلى غسق الليل‮ ‬قائما‮ ‬وقاعدا‮ ‬ومتكئا‮: ‬يلعن‮ ‬دين‮ ‬فرنسا‮ (1)”‬،‮ ‬وذلك‮ ‬لما‮ ‬ارتكبته‮ ‬من‮ ‬فواحش‮ ‬وجرائم‮ ‬في‮ ‬الجزائر،‮ ‬لا‮ ‬تبلغ‮ ‬جرائم‮ ‬جميع‮ ‬الدول‮ ‬معشار‮ ‬معشارها‮.‬

لقد زعم الموقّعون على التصريح الموجه ضد سويسرا أنه “تمّ المساس بكرامتنا كمواطنين جزائريين بحكم تدخّل دولة أجنبية في شؤوننا الداخلية”، فهل استدعاء وزير خارجيتنا من طرف البرلمان الفرنسي لا يعتبر عند هؤلاء الموقعين تدخّلا في شؤوننا الداخلية، مسّا بكرامتهم، أم أن‮ ‬فرنسا‮ – ‬بالنسبة‮ ‬لهم‮ – ‬ليست‮ ‬دولة‮ ‬أجنبية،‮ ‬وبالتالي‮ ‬يجوز‮ ‬لها‮ ‬أن‮ ‬تفعل‮ ‬في‮ ‬الجزائر،‮ ‬وبالجزائر‮ ‬ما‮ ‬تشاء،‮ ‬ولا‮ ‬يجوز‮ ‬الاعتراض‮ ‬والاحتجاج‮ ‬عليها،‮ ‬ولا‮ ‬تسأل‮ ‬عمّا‮ ‬تفعل‮.‬

إننا‮ ‬نعرف‮ ‬أنّ‮ ‬ممّن‮ ‬وقعوا‮ ‬على‮ ‬ذلك‮ ‬التصريح‮ ‬من‮ ‬يعتبرون‮ ‬الفرنسيين‮ ‬مثلهم‮ ‬الأعلى‮ ‬في‮ ‬كل‮ ‬شيء،‮ ‬ويقلدونهم‮ ‬حتى‮ ‬في‮ ‬أتفه‮ ‬الأمور،‮ ‬فما‮ ‬بالهم‮ ‬لا‮ ‬يقلدونهم‮ ‬في‮ ‬منع‮ ‬الدول‮ ‬الأجنبية‮ ‬في‮ ‬التدخل‮ ‬في‮ ‬شؤونهم‮ ‬الداخلية؟

إن العجب العجاب الذي يشيب له الغراب، وينطق له الذباب، وتنتحر له الذئاب والكلاب هو أن يكون من بين الموقعين على ذلك التصريح مجاهدون أعضاء في المنظمة الوطنية للمجاهدين الذين لم يتحركوا أبسط حركة، ولم ينبسوا ببنت شفة في وجه “الكبيرة” المتمثّلة في مساءلة وزير خارجيتنا الممارس أمام برلمان فرنسا، الدولة الأشد عداوة لنا، والأكثر مقتا من الجزائريين، كما لم يدينوا ولم يحتجوا على أولئك الذين منعوا “البرلمان” الجزائري من إصدار قانون تجريم فرنسا على ما فعلته في الجزائر، وهي – فرنسا – التي تصدر قانونا إثر قانون؛ هذا لتجريم من ينكر ما تسميه “إبادة الأرمن”، وذاك لتجريم من تسميهم مهيني الحركى الذين يحرم اعتبارهم بشرا، وذلك لتمجيد استعمارها للشعوب.. هذا الاستعمار الذي قال فيه الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفيلت: “إن الاستعمار الفرنسي هو أسوأ وأخبث ما يمكن أن ينكب به شعب من‮ ‬الشعوب‮.” (2)

لو يعود شهداء الجزائر كما تخيل الطاهر وطار- غفر الله له – وشاهدوا بعض ما يجري في الجزائر من مهازل، وسمعوا بعض ما يقع فيها من منكرات، وقرأوا بعض ما يحدث فيها من جرائم لبكوا دماء، ولتبرّأوا ممن أوصلوا الجزائر إلى هذا الدرك ولو كانوا رفاقهم في الجهاد، بعدما رفعوها‮ ‬إلى‮ ‬أعلى‮ ‬عليين‮.‬

لم أجد جملة أجعلها عنوانا لهذه الكلمة، وتعبّر عما في نفسي من حسرة شديدة وألم مرير وضيق حرج وأنا أقرأ عن مثول وزير خارجيتنا أمام النواب الفرنسيين، وما تفوّه به أمامهم إلا الجملة التي يعنون بها آلان باتون أوارد (3) (Alan platon Award) إحدى رواياته وهي: “إبم‮ ‬يا‮ ‬بلدي‮ ‬الحبيب‮” ‬Cry‭, ‬the‭ ‬beloved‭ ‬country‮ – ‬يصور‮ ‬فيها‮ ‬بعض‮ ‬مآسي‮ ‬جنوب‮ ‬افريقيا‮.‬

إنني أعتبر يوم مثول وزير خارجيتنا أمام النواب الفرنسيين يوم حداد وطنيّا، وأذكره بجملة حفظتها – قبل أن أبلغ الحلم – قالها محمد خيضر – رحمه اللّه وهي: “لو أردنا الخروج من عالمنا لرفضنا العالم الآخر”، وأذكره بكلمة الداي حسين – رحمه الله – وهي: “لن تزهر الدّفلى‮ ‬الفرنسية‮ ‬في‮ ‬الجزائر‮‮” (4)‬،‮ ‬وأذكره‮ ‬أخيرا‮ ‬بأبيات‮ ‬لمالك‮ ‬حداد‮ – ‬رحمه‮ ‬الله‮ – ‬وهي‮:‬ ‮”‬إن‮ ‬البرنوس‮ ‬الذي‮ ‬ارتداه‮ ‬أجدادي، البرنوس‮ ‬الذي‮ ‬يتراءى‮ ‬أمامي‮ ‬في‮ ‬كل‮ ‬مكان، ما يزال‮ ‬دثاري، ما يزال‮ ‬استمرار‮ ‬الحياة‮ ‬في‮ ‬داري‮..‬ لكلمة‮ ‬وطن‮ ‬عندنا‮ ‬طعم‮ ‬الغضب‮” (‬5‮)

إن الزبد سيذهب جفاء، وإن الجزائر وفرنسا كالماء والزيت لن يندمجا ولو رجّتا رجّا عنيفا، خاصة أن بينهما بحارا من دماء الشهداء وجبالا من أجسامهم، إضافة إلى اختلاف السّما والسحنات، وجولان الضاد في اللهوات كما يقول الإمام الإبراهيمي، أخلد اللّه اسمه، ورفع ذكره.

محمّد‮ ‬الهادي‮ ‬الحسني
4 يناير 2012

هوامش:
‮1) ‬هذه‮ ‬الجملة‮ ‬أرويها‮ ‬عن‮ ‬الشيخ‮ ‬علي‮ ‬مغربي‮ – ‬رحمه‮ ‬الله‮.‬
2) عبد‮ ‬الرحمن‮ ‬الجيلالي‮: ‬تاريخ‮ ‬الجزائر، ‬ج‮ ‬4‮. ‬ص‮ ‬366‮ ‬ط‮ ‬1980‮.‬
3) ‬أصله‮ ‬بريطاني،‮ ‬من‮ ‬مستعمري‮ ‬جنوب‮ ‬إفريقيا،‮ ‬ولكنه‮ ‬كان‮ ‬معارضا‮ ‬للتمييز‮ ‬العنصري،‮ ‬ولد‮ ‬في‮ ‬1903‮ ‬وتوفي‮ ‬في‮ ‬1988‮‬،‮ ‬وقد‮ ‬نشر‮ ‬روايته‮ ‬في‮ ‬1948‮.‬
4) ‬مولود‮ ‬قاسم‮: ‬شخصية‮ ‬الجزائر‮ ‬الدولية‮،‬ ج‮ ‬2‮. ‬ص‮ ‬191‮.‬
5) عبد‮ ‬الله‮ ‬الركيبي‮: ‬الأعمال‮ ‬الكاملة،‮ ‬مجلد‮ ‬5‮. ‬أحاديث‮ ‬في‮ ‬الأدب‮ ‬والثقافة‮.‬

المصدر: يومية الشروق

3 تعليقات

  1. Abdelkader Dehbi بتاريخ

    RE: ابك‮ ‬يا‮ ‬بلدي‮ ‬الحبيب
    [rtl]إنها الثمرة الخبيثة لمقايضة خبيثة بين فرنسا وأبنائها من جلدة الجزائر، أي، من أولئك الضباط وصفٌ الضباط، الذين فرٌوا – جهادا أو ميعادا – من جيش الاستعمار والتحقوا بصفوف جيش التحرير الوطني. وهذه المقايضة، وإن كانت غير مكتوبة إلاٌ أنٌها تبدو واضحة للغاية ونتخيٌل مضمونها في حوار وجيز جدٌا بين فرنسا وأبناءها “المغتربين” في الجزائر…

    – فرنسا : يتفوٌه البعض في الجزائر بمتابعة فرنسا عمٌا يسمٌونه “جرائم حرب وجرائم ضدَ الإنسانية” ! طيب، ترى، كيف نسمٌي الجرائم البشعة المهـوِلة التي ارتكبتم ، والتي نملك ملفاتها ضدكم أنتم وأعوانكم ؟ ما الحلٌ ؟

    – أولاد فرنسا : الحلٌ “يا مون كنينير، تسكتوا انتما وانسكتوا احنا” [/rtl]

  2. DZiri45 بتاريخ

    RE: ابك‮ ‬يا‮ ‬بلدي‮ ‬الحبيب
    Leur stratagème est voué à l’échec, mon cher frère. C Allah qui le dit.

    إِن تَمۡسَسۡكُمۡ حَسَنَةٌ۬ تَسُؤۡهُمۡ وَإِن تُصِبۡكُمۡ سَيِّئَةٌ۬ يَفۡرَحُواْ بِهَا‌ۖ وَإِن تَصۡبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لَا يَضُرُّڪُمۡ كَيۡدُهُمۡ شَيۡـًٔا‌ۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعۡمَلُونَ
    120/03 مُحِيطٌ

    إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱرۡتَدُّواْ عَلَىٰٓ أَدۡبَـٰرِهِم مِّنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلۡهُدَى‌ۙ ٱلشَّيۡطَـٰنُ سَوَّلَ لَهُمۡ وَأَمۡلَىٰ لَهُمۡ 25/47
    26/47ذَٲلِكَ بِأَنَّهُمۡ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ ٱللَّهُ سَنُطِيعُڪُمۡ فِى بَعۡضِ ٱلۡأَمۡرِ‌ۖ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِسۡرَارَهُم
    28/47.أمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخۡرِجَ ٱللَّهُ أَضۡغَـٰنَہُمۡ

  3. Abdelkader HADJ ALI بتاريخ

    La génération de l’échec
    J’avais un peu d’estime pour Mr. Hassani un certain temps, mais avec le recule et le temps qui passe on ne manque pas de remarquer que lui et beaucoup de ses semblables se sont bien accomodé de la médiocrité. Sa touche personnelle est plus que visible jusqu’à nos jours. Etonnante sa molesse à l’égard d’un voyou tel que Nezzar. En réalité Mr Hassani et sa génération est à mon sens rien de moins que la génération de l’échec qui s’est bien engraissé lorsque l’Algérie était dans l’aisance financière et aujourd’hui la seule chose qu’ils ont à proposer aux jeunes générations c’est de pleurer. Sauf votre respect Mr Hassani, soutenez la détérmination de la jeunesse algérienne par votre éclipse.

Exit mobile version