أستسمح الشاعر السوري حسّان عطوان إن كان مايزال حيّا، وروحه إن كان قد فارق الفانية إلى الباقية، أستسمحه في أن أستعير عنوان هذه الكلمة، الذي عَنْوَنَ به قصيدة أنشأها في سنة 1959، رد بها على ذلك المتغطرس الفرنسي ميشال دوبريه، الذي راح يهذي، بعد أن ألقى الشيطان في أمنيته، بأن « مخالب » جنوده الفرنسيين ستتمسك بصحراء الجزائر، ومما جاء في تلك القصيدة :

« يقولون ماتت،
وها قد فقدت صوتها العربي،
وأن الجزائر بعض فرنسا،
وكل الرجال انتهوا، أصبحوا حطبا في أتون الفناء.
يقولون : لا تبحثوا،
عبثا تصرخون،
سيذهب هذا الصراخ صدًى يتردد عبر الليالي هباء،
لأن الجزائر كانت امتدادا لباريس.
يا من يقلب سِفْرَ الحضارة
يعلّمُهم
كيف أن الشعوب تقوم وتنهض رغم الإبادة والقتل،
شامخة الرأس،
وتبقى الجزائر أرض الإباء » (1)

استيقنت فرنسا ـ منذ أن نجّست أقدام جنودها أرض الجزائر الطاهرة ـ أن استمرار وجودها في هذه الأرض المجاهدة لن يتحقق إلا بالقضاء على هويتها العربية الإسلامية، فراغَت ـ لتحقيق هدفها الخسيس ـ ضربا باليمين وبالشمال على مقومات تلك الهوية من دين حنيف، ولغة شريفة، وعادات نبيلة، وتقاليد أثِيلة، فهدمت أكثر المساجد، وحوّلت بعضها إلى كنائس، وبعضها إلى مراكز للجيش واسطبلات لحيواناته، واستولت على جميع الأوقاف التي تمول المساجد والقائمين عليها، وطلبة العلم الآمِّينَ إليها، وطاردت العلماء، فمنهم من قتلته، ومنهم من نفته من الجزائر، ومنهم من أثْبتَتْه فمنعته من التنقل في وطنه، ومنعت الناس من زيارته، وشنّت حربا ضارية على اللغة العربية لتفصل الجزائريين عن محيطهم العربي وعن تراثهم… وكل أولئك بهدف أن تصير « الجزائر فرنسا » كما زعموا.

ولم تكتفِ فرنسا لتحقيق هدفها الخسيس، ومخططها الرخيص بالترهيب، بل استعملت أساليب الترغيب، فوعدت آباءنا وأجدادنا ـ إن هم استجابوا لما تريد ـ أن تطعمهم المنَّ والسلوى، وأن تحقق لكل امرئ منهم ما نوى، وأن تسكنهم العوالي، وتلبسهم الغوالي…

لم يستجب لترغيب فرنسا، ولم يخضع لترهيبها إلا كمشة من أراذلنا، باعوا الشرف بالعلف، واستبدلوا الفُسُولة بالرجولة، ورضوا أن يكونوا « خدّام فرنسا » ( les serviteurs de la France ) كما سمّتهم هي نفسها، وأما الأكثرية الساحقة من شعبنا فقد أبى عليها شرفُها، وحفظتها عِزَّتُها أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ورفضت أن تَذِلَّ وتخزى، فاستعصمت بدينها القويم، واستمسكت بلسانها السليم، وتشبّثت بعرفها الكريم، وإن شابَ ذلك كله بعض اللّمم في الدين، واللسان، والعادات. وقد شهد على ذلك الاعتصام بالدين، والاعتزاز بالأصل الكاتب السوري خير الله أبو علي، الذي زار الجزائر في سنة 1934، وسجل ما شاهده في مجلة « السمير »، ونقلته عنها مجلة الشهاب للإمام ابن باديس، حيث قال: « والجزائري شرقي المشرب، ومسلم غيور، ولو تغرّب في بلاده، أو غيّر زيّه. » ( 2 )

لقد قاوم آباؤنا وأجدادنا بما جُبِلُوا عليه من رجولة وفحولة، وما عُرِفوا به من شجاعة وبطولة تلك السياسة الفرنسية الوحشية، وقاموا بعدة ثورات حفاظا على دينهم، ولسانهم، وتراثهم، وكانوا كلما أطفأت فرنسا بوحشيتها ثورة أوقدوا نار ثورة تشوي وجوه الفرنسيين، وتكوي جباههم وجنوبهم، وتقضّ مضاجعهم حتى طهّروا الجزائر من الخَبَث، وأعادوها سيرتها الأولى؛ حنيفية العقيدة، عربية الانتماء، كريمة الشيم، أصيلة القيم.

لكن الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، ونصرح بها، وننبّه إليها هي أن فرنسا قبل طردها من الجزائر مذمومة مدحورة تركت في أرضنا نفايات بشرية سامة، وخلّفت جراثيم آدمية قاتلة تمكنت في غفلة من الوطنيين وتقصير منهم أن تتسلّل إلى مواقع المسؤولية في مختلف مستوياتها، وراحت تعمل بخُبْث لتحقيق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه، وهو أن تكون الجزائر كيانا جغرافيا ليس له هوية، وحيّزا ترابيا ليس له لون ولا رائحة. وقد أشار الجنرال دوغول إلى هذه النفايات البشرية، والجراثيم الآدمية التي تركتها فرنسا في وطننا، فقال: « وهل يعني إذا تركناهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم يترتّب علينا التخلي عنهم بعيدين عن عيوننا وعن قلوبنا؟ حتما لا. » (3)، ثم يضيف الجنرال المهزوم قائلا: « فالواجب يقضي بمساعدتهم لمجرد أنهم يتكلمون لغتنا، ويتقاسمون معنا ثقافتنا. » (4)

لقد عششت هذه النفايات في مختلف الإدارات الجزائرية، وأحكمت قبضتها عليها، وتناسلت كالجرذان، وكثرت كالفئران حتى صارت « حزّبا » منظما، متضامنا، يعمل لصالح فرنسا، ويَغَارُ عليها، ويجادل عنها، ويمكّن لها اقتصاديا، وثقافيا، ولغويا، وسياسيا. وهذا الحزب هو الذي سمّاه الدكتور أحمد بن نعمان « حزب البعث الفرنسي » في الجزائر، وأفرد له أحد كتبه تحت هذا العنوان. ومن قَبْل الدكتور إبن نعمان كان إمام الجزائر محمد البشير الإبراهيمي، ذو البصر الحديد، والرأي السديد، قد نبّه إلى هذه الفئة، عندما كتب ـ قبيل استعادة الجزائر استقلالها ـ في أحد مقالاته: « ستبقى فينا بقية غير صالحة تحمل ألسنة تحنّ إلى اللغة الفرنسية، وتختار مخرج الغين الباريسية (*) على مخرج الراء العدنانية، وتتمنّى عاهة وَاصِل بن عَطَاء، لتستريح من النطق بالراء، وأفئدةٌ هواء تحن إلى فنون فرنسا وفتونها، وعقول جوفاء تحنّ إلى التفكير على النمط الفرنسي، ونفوس صغيرة تحن إلى حكمها الذي يرفع الأذناب على الرؤوس، وهِمَمٌ دَنِيّة تحنّ إلى حمايتها المبسوطة على الرذائل… » (5)

وقد أعاد الإمام الإبراهيمي ـ رحمه الله ورضي له قولا ـ التنبيه إلى هذه الشرذمة في خطبته البليغة التي ألقاها في أول صلاة جمعة أقيمت في مسجد كتشاوة بعد تطهيره من الشرك النصراني، وذلك يوم 2 نوفمبر 1962، حيث قال: « إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضيَ أن يُطاع فيما دون ذلك"، فهو ـ الاستعمار ـ قد خرج من أرضكم ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم. » (6)

وقد لمس الشاعر الوطني مفدي زكرياء أثر هذه الجراثيم الفتاكة في جسم وطننا وشعبنا، فصرخ في إلياذته الخالدة قائلا:

ولازال فينا لـمُستَعْمِرينا
عيونٌ، وإن أسلمونا الترابا

وتنبأ أن هذه الفئة الممسوخة، إن لم يُقْطع دابرها ستنادي فرنسا لكي تعود إلى الجزائر، فقال على لسان هذه الشرذمة:

تعالي فرنسا، ادخلي بسلامٍ
فأبناء صلبك مِلْءُ الحِمَى

فهل يكون حذف مقطع:

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب
وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إنّ ذا يوم الحساب
فاستعدي، وخذي منا الجواب

من كتاب التربية المدنية لتلاميذنا مقدمة لما تنبّأ به مفدي زكرياء وإعدادا له؟

ومن هذه البقية التي سوّدت وجه الجزائر، وشوّهت صورتها، وسمّمت جوّها شخص أوقَعَتْه الأقدار في طريقي يوم الثلاثاء 27 رمضان المنصرم (9 أكتوبر 2007)، حيث توجهت ـ رفقة الصديق الحاج الطاهر محمودي ـ إلى الفندق المسمى « فندق الجزائر » للسلام على من أحبَّ الجزائر وخدمها أكثر من كثير من أبنائها الحاج الحبيب اللمسي.

دلفنا من باب الفندق، ومررنا على الآلة الكاشفة، فلم تصدر صوتا، ولم ترسل ضوءاً… ولكن امرأة استوقفتني، وأشارت إلى شخص مُنْتَبِذٍ مكاناً غير بعيد، فأقبل نحوي، فلما اقترب مني رأيت على وجهه غَبَرَة، ترهقه قَتَرَة، ودنا مني حتى كاد « خرطومه » يثقب طلبة أذني، وكاد شعره الأشعث يفقأ عيني، وقال بـ« عربية » تلعنها العربية ـ كما يقول مصطفى صادق الرافعي: « ما تدْخُولش ».

قلَّبْتُ نظري في وجه ذلك الكائن لأَتَأكَّدَ إن كان في كامل قواه العقلية أمْ بِه جِنَّة، ثم مسكت أعصابي عندما تذكّرت أنني صائم، وسألته مصطنعا ابتسامة: لماذا؟

فقال: « ما تدخولش بْهَذِي اللبسة » وكنت مرتديا ڤندورة جزائية « لا شرقية ولا غربية »، ناصعٌ لونها تسرّ الناظرين الأسوياء.

ظننت أن « الرجل » واقع تحت تأثير الخوف، فقلت له: فتّشني… فاستكبر، وصعّر خده المتخشب، وقال: « ماتَدْخُولش بهذي اللبسة ».

فقلت: لماذا؟ فقال: القانون يمنع…

جنَّ جنوني، وكدتُ أنفجر من الغيظ، ولو كانت لي قوة موسى ـ عليه السلام ـ لَوَكَزْتُ ذلك الكائن وقضيت عليه… ثم قلت بصوت مرتفع: سأدخل الفندق بهذا اللباس، وإن كان هناك من لا يجوز له الدخول بسبب اللباس فأنت الأحق بالمنع… وإنني أعتبر من سنَّ هذا القانون السخيف بشرا غير سوي… ولا أستبعد أن يغير اسم الفندق من فندق الجزائر إلى اسمه السابق: فندق سان جورج… وطلبت مقابلة مدير الفندق أو أي مسؤول… فإذا بشخص يتقدم مني، ويستفسر عن سبب هذا الصياح، فأخبرته الخبر، وأكَّدْتُ له إصراري على الدخول بلباسي الجزائري، إلى فندق يتشرف بحمل اسم الجزائر…

انتحى بي ذلك الشخص جانباً، واعتذر لي عمّا وقع من « الكائن » الآخر، وقال لي: إن المقصود ليس اللباس الجزائري، ولكن المقصود هو… فقلت له: إن كلّ شخص حُرٌّ فيما يلبس، ومهمّتكم هي الحرص على أمن المكان… وقد يلبس من يريد سوءاً بذلة أوربية، ويرتكب جريمة…

إن هذه الحادثة ليست الأولى، فقد كُلّفت منذ بضع سنوات رفقة الصديق الدكتور عبد الرزاق قسوم بمصاحبة الأستاذ خليل النحوي، وهو من علماء موريتانيا وكبار مسؤوليها، الذي دُعِيَ للمشاركة في الملتقى الدولي للتصوف، الذي عقد في أدرار، وتوجهنا ـ ثلاثتنا ـ إلى المطعم في فندق الأوراسي، فلما وصلنا باب المطعم اعترضَنا « كائن »، ظننته سَدَّ ذي القرنين، ومنع ضيف الجزائر من الدخول، بسبب لباسه الموريتاني، وما أقنعنا ذلك « الكائن » بأن هذا اللباس هو لباسه الوطني، وأن الرجل ليس كأحد من الناس، وأنه ضيف « الدولة » الجزائرية… إلا بعد أن جَفَّ جسْمَانا من الماء بسبب ما تصبَّبَ منهما من العرق…

لقد كان الأمير خالد ـ رحمه الله ـ يعتز بلباسه الجزائري ويلبسه في كلية سان سير العسكرية، ويعود إلى الجزائر في العطل في لباسه الجزائري (7)، ولكنه لو بعثه الله، وأراد الدخول إلى فندق « الجزائر » بلباسه الجزائري لمنعه هذا الخلف المشوّه خَلْقاً، المعقّد خُلُقًا… ورحم الله مفدي زكرياء القائل:

فكم شوّه المسخ فيهم عقولا
وكم أمعن المسخ فيهم خرابا

والقائل أيضا:

هُمُو في البلاد شهادة زور
فويل الجزائر من كيد حركى

لقد راجعتُ نفسي بعد أن هدأت ثورتي وذهب غضبي، فتبيّن لي أن ذلك الشخص الذي اعترض على لباسي بريء، وأن غير البريء، والـمَلُومَ هم « كبار » مسؤولينا الذين يحتقرون هويتنا، ويستنكفون حتى عن مخاطبتنا بلساننا. ولو رأى الصغار أصالة وغيرة عند الكبار لاقتدوا بهم… ولكن أنَّى لهؤلاء الكبار أن يكونوا قدوة وأكثرهم هم رأس البلاء… لأنهم يجهلون حكمة « صوت الجزائر » محمد العيد آل خليفة، القائلة:

إن حفظ المقومات حياةٌ
كل شعب أضاعها فهو فَانِي

محمد الهادي الحسني
26 أكتوبر 2007

نُشر في جريدة الشروق
http://www.echoroukonline.com/modules.php?name=News&file=article&sid=12226

ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

1 ) انظر عثمان سعدي: الثورة الجزائرية في الشعر السوري، الجزائر، وزارة المجاهدين ج2 ص48 – 49.
2 ) مجلة الشهاب: ج6. م10 . ماي 1934.
3 ) شارل دوغول: مذكرات الأمل . ص43.
4 ) المرجع والصفحة نفساهما.
*) ينطق الباريسيون حرف الراء غينا.
5 ) آثار الإمام الإبراهيمي. بيروت. دار الغرب الإسلامي ج5. ص262.
6 ) المرجع نفسه ج5. ص307.
7 ) مجلة الثقافة. الجزائر. عدد 13. فيفري ـ مارس 1973. ص15.

 

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version