علاقة ملاحقات الجنرال نزار بتهمة ارتكاب جرائم حرب واختطاف السيد بلموهوب المناضل في حقوق الإنسان.

تعد عملية القبض والاستماع إلى الجنرال نزار سابقة لها دلالتها، لاسيما في سياق التحولات الكبرى في العالم العربي، حيث لم يكن أحد يتصور أن تجري في سويسرا مثل هذه العملية بحق شخص متنفذ من حجم الجنرال نزار، العضو السابق في مجلس الأعلى للدولة وقائد مجموعة انقلاب يناير 1992. المستجد هذه المرة، أنه بعد استنطاقه مرتين، لأكثر من عشر ساعات من قبل المدعية السويسرية، لا زال متابعا من قبل القضاء السويسري بتهمة ارتكاب جرائم حرب، عكس ما جرى قبل سنوات عندما واجه العدالة الفرنسية للرد على عدد من الشهود الذين اتهموه بالضلوع في الحرب القذرة التي شهدتها الجزائر خلال التسعينيات، في أعقاب انقلاب يناير 1992، وتمكن يومها من الهروب من التراب الفرنسي بتواطؤ من بعض ساسة فرنسا الذين لا تزال تربطهم مصالح اقتصادية هائلة مع النظام الجزائري، وبمساعدة مباشرة من النظام الجزائري الذي وفر له طائرة خاصة وجواز سفر دبلوماسي وأمر بمهمة مفتعلة لانتشاله من مخالب المتابعة القضائية، حيث بدا واضحا أن إدانته إن تمت بالفعل فهمي بمثابة إدانة لكل جنرالات الانقلاب ومن تواطأ معهم لإقالة الرئيس بن جديد ودفع بالبلاد نحو حرب قذرة حصدت قرابة ربع مليون ضحية.

وثمة سؤال يطرحه الكثير، هل القبض على الجنرال نزار والاستماع إليه من قبل محكمة جنيف بتهمة جرائم حرب في أعقاب تقدم شاهدان بشكوى تتعلق بالتعذيب والاختطاف من قبل مصالح الأمن في فترة كان فيها الجنرال نزار وزيرا للدفاع، هل تشكل هذه الحادثة تحوّل جوهري ونقلة نوعية من قبل حلفاء الأمس الذين وفروا على مدار عقود من الزمن للانقلابيين في الجزائر الدعم والحماية التامتين؟ قد يكون الأمر كذلك أو على الأقل قد تكون هذه المتابعة القضائية أولى إرهاصات المرحلة القادمة، لعدد من الأسباب نذكر منها:

– تواتر الشهادات التي تشير كلها إلى تورط جنرالات النظام الجزائري في سلسلة الجرائم البشعة التي شهدها البلد طيلة عشرية كاملة، خاصة الشهادات المفحمة الأخيرة حول جريمة قتل رهبان تبحرين، التي ثبت فيها بشكل لا لبس فيه، تورط وليس خطأ، جهاز الاستخبارات الجزائري بقيادة محمد مدين لمدعو توفيق. ومن هذا المنطلق، ففي حالة تأكد لدى القضاء تورط هذا الجهاز في تلك الجريمة، عبر زرع جماعات مسلحة تابعة له، بمظاهر إسلامية للتغطية على جرائمه وإلصاقها بأنصار الجبهة الإسلامية كما دأب على فعله، فذالك معناه أن كل الجرائم المرتكبة خلال العشرية السوداء والتي اتهمت بها الجبهة الإسلامية، تكون موضع إعادة النظر فيها، وفتح ملفاتها، مما قد يثبت مرة أخرى تورط ذات الجهاز في قضية اختطاف الموظفين الفرنسيين الثلاثة في قنصلية شراقة بالعاصمة عام 1993، الزوجين ثفنوا وموظف ثالث، ومجزرة بن طلحة والرايس وبني مسوس وتفجيرات مترو باريس وغيرها، خاصة بناء على العديد من الشهادات الصادرة عن عناصر هذا الجهاز، وموظفين فرنسيين عايشوا تلك الفترة. الأمر المرعب بالنسبة لساسة النظام الجزائري، والذي بدأ فعلا يقض مضجعهم إلى حد ارتكابهم بعض الحماقات من قبيل اختطاف السيد بلموهوب، أن فتح هذه الملفات في هذه الظروف، علاوة على التغير الذي طرأ على المنطقة، قد لا يضمن لهم حماية حلفاء الأمس، الذين تستروا فيما مضى على جرائمهم، مما يعيد فتح ملف المجازر والتحقيق الفعلي فيها، وعودة موضوع انقلاب يناير 1992 إلى الواجهة، بعد أن اعتقدوا أنهم قد طووه إلى غير رجعة، من خلال استصدار “ميثاق السلم والمصالحة” الذي كرس الإفلات من العقاب لجنرالات الانقلاب، ومن ثم فكل ما نجم عن ذلك الانقلاب المشئوم من مآسي وجرائم ترقى إلى كونها جرائم ضد البشرية يعاقب عليها القانون، يتحمل المسؤولية عنها الانقلابيون، ويكون بذلك نزار أول الغيث في عدالة تعيد مجرى التاريخ إلى نصابها والحقوق إلى أهلها.

– لم تعد المنطقة كسابق عهدها حيث كان يتمتع فيها الانقلابيون والمستبدون في العالم العربي، بالحرية المطلقة دون حسيب أو رقيب، في جو يضمن لهم الإفلات التام من العقاب. فقد شهدت سنة 2011، منذ بدايتها تحولات كبرى،  حيث تغيرت خريطة شمال إفريقيا بشكل شبه كامل، وشملت الدولة المجاورة الثلاثة، وهي في طريقها لتأسيس دول تحترم حقوق مواطنيها وتستعيد سيادتها وعافيته، مودعة عصر الطغاة إلى غير رجعة، وتبقى الجزائر وحدها في صورتها البشعة، قلعة الاستبداد الوحيدة في المنطقة تصارع من أجل إبقاء الوضع على حاله بشتى الحيل، ولم تتوانى حتى على زرع بذور الفتنة وإطالة عمر الاستبداد في هذه الدول المجاورة، لتعطيل عجلة التغيير الحقيقي دون أن تنجح في مسعاها، وآخر مخططاتها كانت في تقديم مساندتها التامة لكتائب القذافي، علها توقف عجلة التاريخ، لكن الآن وقد انهار حليفها الأخير، لم يبق لها سوى أسد سوريا وصالح اليمن المحاصران، وهما قاب قوسين أو أدنى من السقوط.

– لم يعد يغنى لا العفو الذي استصدره الرئيس بوتفليقة بعد إقراره سياسة “مصالحة وطنية” الذي كان الغرض منه أساسا توفير حماية لقادة الجيش المتهمين بارتكاب جرائم حرب من المتابعة القضائية داخلياً، ولا اتفاقية 1984 التي دبجوها في مخابرهم المظلمة لتحصينهم من المتابعة القضائية خارج البلد، وكأنهم فاتهم أن القانون السويسري مخوّل بمتابعة كل شخص متهم باقتراف جرائم حرب أو ضد الإنسانية كما هو الأمر بالنسبة لنزار وأقرانه من الفارين من الجيش الفرنسي والمتورطين في انقلاب يناير 1992 وجرائم العشرية السوداء، حيث يسمح القانون السويسري بملاحقة انتهاكات القانون الإنساني الدولي،  بما في ذلك انتهاكات لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية،  طالما وجد المتهم على الأراضي السويسرية، وقد حكم في الماضي، على مواطن رواندي في سويسرا 14 عاما في السجن لمشاركته في عمليات الإبادة.

– حتى فرنسا قلعة جنرالات الانقلاب من مقترفي جرائم الحرب، التي ما فتئت تحميهم وتضمن لهم الإفلات من العقاب على مر عقود من الزمن، لم تعد في وضع يسمح لها بذلك خاصة بعد افتضاح الأمر وسقوط الدكتاتوريات العربية حيث لم تعد تستطع فرنسا تحتمل عبئهم حرصا على مصداقيتها ومصالحها على المدى البعيد، ويبدو أنها قد اتعظت بتجربة تونس ومصر المخزية (النظامان اللذان كانا يتمتعان بدعم فرنسي شامل حتى قبل فترة غير بعيد من سقوطهما)، ولهذا السبب تريد حفظ ماء الوجه والتكفير عما لحقها من أذى لطخ سمعتها في أعين العالم والشعوب العربية على وجه الخصوص، وكشف تورطها إلى جانب هذه الدكتاتوريات على حساب الشعوب والقيم التي ما فتئت تتشدق بالترويج لها ، كما أن حتى أمريكا لم تعد تتحمل أن يقرن اسمها باسهم هذه الدكتاتوريات المتعفنة وأدركت أن مصالحها المشروعة أكثر ضمانا في ظل سيادة الشعوب، وفق المثل القائل “ليس ثمة أصدقاء دائمون بل مصالح دائمة”، بعد أصبحت هذه الشعوب هي من يرسم مسار مستقبلها.

من جهة ثانية، ثمة مسألة خطيرة وثيقة الصلة بالقبض على الجنرال نزار الذي لا يزال يحتفظ بتأثير هائل وسط النظام في الجزائر المتنفذ، القائم على جهاز المخابرات، أقصد بذلك عملية اختطاف المناضل في مجال حقوق الإنسان السيد نوردين بلموهوب (أسابيع قليلة بعد الاعتداء عليه بالسلاح الأبيض من قبل بلطجية النظام). وسبب اختطاف السيد بلموهوب يعود على الأرجح إلى الشكوى التي تقدم بها ضد الجنرال نزار لدى محكمة الجزائر العاصمة في عام 2001 باعتباره ضحية تعذيب من قبل أجهزة النظام التي كانت تحت قيادة نزار حينما كان وزيرا للدفاع، غير أن هذه المحكمة لم تكلف آنذاك نفسها عناء النظر في الشكوى، وهو ما يدحض الحجة التي تذرع بها الجنرال نزار عندما رد على المدعية العام السويسرية حول الأحداث التي عرفتها الجزائر بين 1992 و1999، بما جاء في اتفاقية 1984 التي تؤكد أنه “لا يمكن متابعة أي شخص إن لم يكن متابعاً في بلده”، ولا يخفى على أحد أن المعنيين هنا هم تحديدا جنرالات الانقلاب وغيرهم من المسئولين على انتهاكات حقوق الإنسان والمتورطين في قضايا الفساد المستشري بتهمة جرائم حرب. من المرجح أيضا أن يكون لعملية اختطاف السيد بلموهوب من قبل عناصر بلباس مدني، بضعة أيام بعد القبض على نزار، علاقة مباشرة بما قد يكون يحتفظ به الضحية من ملفات بخصوص جرائم نزار وباقي جنرالات الانقلاب، وثقها طيلة سنين في إطار عمله كناشط في مجال حقوق الإنسان وكضحية تعذيب وترحيل إلى معتقلات الصحراء في تلك الحقبة التي تلت الانقلاب، وهي ملفات مربكة وتدل بما فيه الكفاية على تورط نزار في تلك الجرائم وتفند كل مزاعمه، ومن ثم ليس مستبعدا أن يكون اختطافه تم تحديدا بقصد منعه من تقديم إفادته ضد نزار أمام العدالة السويسرية.

أمام هذا التخبط والهلع الذي أصاب نزار ومجموعته من الانقلابيين،  هل يمكننا القول أن وقوع نزار في شرك الملاحقات القضائية الفعلية يشكل أول ورقة خريف تهز شجرة جهاز الاستعلامات الحاكم في البلاد، الماسك الفعلي في مقاليد الحكم. لا شك أن الأيام المقبلة حبلى بالتطورات غير مضمونة العواقب بالنسبة لمجرمي الحرب، من صنف طلقاء الجيش الفرنسي، ثوار الربع ساعة الأخيرة، المعروفين باسم دفعة لاكوست.

رشيد زياني-شريف
25 أكتوبر 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version