بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله،

السيّد رئيس المؤتمر،
السادة أعضاء المكتب،
أيّها الإخوة، أيّتها الأخوات،

أدّبنا الإسلام، فأحسن تأديبنا.

علّمنا الإسلام الصبر على المكاره، وعلمنا الصدق في القول والعمل، وعلّمنا الإجهار بالحق في وجه الأعداء والإخوة، ولكن عندما يتعلّق الأمر بالإخوة، لا بدّ في خاتمة المطاف أن يخرج الحقّ منتصرًا وأن تخرج الإخوة ظافرة.

طيلة الـ 35 سنة الأخيرة ونحن نتعامل مع الأحداث والأشخاص كتلاميذ مدرسة جبهة التحرير الوطني، أوفياء لمبادئها، ملتزمين بقوانينها القائمة على الانضباط والمركزية الديمقراطية التي تجعل الأقلية تعبّر على رأيها في أطر ضيقة وتسكت خارجها تحت شعار المصلحة العليا للثورة حينا والمصلحة العليا للدولة حينا آخر.

ولكن منذ سنة، دخلت البلاد مرحلة جديدة وُصفت بالديمقراطية والشفافية، من مزاياها أن سمحت للأفراد والجماعات أن يعبّروا عن آرائهم ومواقفهم، ومن مساوئها أن أطلقت العنان لكل قلم ولسان أن يكذب على التاريخ أو يشتم المقدّسات، أو يحاول هدم الوحدة الوطنية.

وعلى هذا الأساس أصبح الصمت غير ممكن، ولم أستجب لكلّ تساؤلات الإخوة الصحافيين من وسائل الإعلام الوطنية – بالإضافة إلى العربية والدولية – منتظرًا هذه الفرصة حتى تكون أوّل كلمتي منذ سنة، موجّهة إلى مناضلي جبهة التحرير الوطني.

في الظروف الحرجة التي تعيشها بلادنا، وأمام التحدّيات التي تواجهها، وللخروج من الأزمة التي تعاني منها، فالحديث المجدي المفيد هو الذي يتعرّض لآفاق المستقبل، لا لمتاهات الماضي؛ هذا يقيني الراسخ. ولكن هل يُبنى المستقبل بدون معرفة الماضي؟ لذا، أرى لزاما عليّ أن أقف وقفة وجيزة عند الماضي للتذكير واستخلاص العبر وتفادي الغلطات وتصحيح المسيرة.

وقيل كل شيء، أريد أن أؤكّد على مبدأين أساسييْن:

– المبدأ الأول هو أنّ القيادات المتتالية لجبهة التحرير مسؤولة مسؤولية جماعية على كلّ مراحل الكفاح والبناء، ممّا جعلنا نرفع شعار الاستمرارية في مؤتمرنا الرابع، أقول هذا حتى لا يكون حديثي عن الماضي فرصة لإدانة الأشخاص أو الدفاع عن النفس، بل هو في رأيي نقد ذاتي أو بداية العلاج لأنّ تشخيص الداء كما يقال، نصف الدواء.

– المبدأ الثاني هو أنّ لكل مرحلة إيجابيات وسلبيات، ولا يليق بنا أن ننزّه مرحلة ونسوّد مرحلة، لا يليق بنا أن نصوّر المرحلة التي كنّا فيها على كراسي المسؤولية وكأنها جنّة، والمرحلة التي غبنا فيها عن الكراسي وكأنها جهنم…

أدّبنا الإسلام فأحسن تأديبنا.

علّمنا الإسلام ألّا نعبد الأشخاص ولا نقدّس أعمال الأشخاص، وعلّمنا أن نكون رجال مبادئ لا رجال رجال.

فالمرحلة الأولى في الجزائر المستقلة التي دامت من 62 إلى 65 كانت مرحلة انطلاق اتّسمت بالحماس العاطفي والرومانسية الثورية والارتجال وبشيء من السذاجة أمام بعض المغامرين من الأجانب الذين أرادوا تجريب نظرياتهم الهزيلة على أرضنا وشعبنا وثورتنا، وبسياسة القمع نجاه رفقاء الأمس، بينما كان يتسلّل إلى صفوفنا، غرباء عن الثورة ودخلاء على جبهة التحرير الوطني.

كلّ هذه المظاهر يمكن أن نجد لها أعذارًا في عدم توفّر التجربة الكافية عند المسؤولين آنذاك ولكن الخطأ الوحيد الذي لا يُغتفر هو التخلّي عن الوطنية التي كنّا ما زلنا في حاجة ماسّة إليها لرصّ الصفوف وضمد الجراح ولمّ الشمل واستبدالها بأممية دفعنا ثمنها غاليًا، أممية واهية، كادت تؤدّي بنا إلى الهاوية، لولا تصحيح 19 جوان 65.

ثم جاءت المرحلة الثانية التي دامت 13 سنة والتي قادها الرئيس هواري بومدين رحمه الله، فكانت مرحلة بناء الدولة:

– بناء جيش عصري يساهم في التنمية عن طريق الخدمة الوطنية؛

– وبناء هرم إداري كفء ومنسجم، من البلدية إلى الحكومة، مع لامركزية تجلّت في البرامج الخاصة لتنمية الولايات المحرومة؛

– وبناء قاعدة صناعية صلبة، انطلاقا من فكرة “التصنيع طريق التحديث”؛

– وبناء منظومة تربوية على ركائز ثلاث: التعريب والاتجاه العلمي والتكنولوجي وديمقراطية التعليم إلى آخره من المنجزات، بالإضافة إلى تأميم الثروات الوطنية والبنوك.

ولكن هذا البناء الضخم الذي ساهمنا فيه بالأمس ونفتخر به اليوم، احتوى على عدد من السّلبيات – وهذا شأن كل عمل بشري – أذكر منها:

– إهمالنا للقطاع الزراعي والريّ في بلد زراعي؛

– لم تكن لنا الشجاعة الكافية لمواجهة المشكل الديموغرافي؛

– بالرغم من النهضة التعليمية، وقعنا في فخّ الكمّ على حساب الكيف، وهذا واضح في إصلاح التعليم العالي سنة 1971؛

– في الوقت الذي كنّا ننادي فيه بالاشتراكية والتقشّف، سمحنا داخل مجتمعنا بخلق مجتمع مصغّر يتمثّل في الشركات الوطنية العملاقة التي كانت تعتبر نفسها فوق الدولة وتمنح أبسط موظفيها امتيازات تعدّ من المحرّمات في قطاع الوظيف العمومي.

أمّا المرحلة الثالثة التي انطلقت من 79 إلى يومنا هذا، فإيجابيتها تكمن في ترسيخ ايجابيات وترقيع سلبيات المرحلة السابقة، أذكر منها على سبيل المثال:

– تحسين الإنتاج الزراعي كمًّا وكيفًا وبناء عشرات السدود؛

– تحسين مردودية القطاع الصناعي؛

– بيع الأملاك الشاغرة، ممّا سمح لعدد هائل من العائلات الجزائرية أن تتمتّع بملكية
سكنها وأنتم تعلمون أهمّية “قبر الدنيا” في المجتمع الجزائري؛

– إعطاء المزيد من الاعتبار لممارسة الحرّيات الفردية.

ساهمنا في هذه المرحلة ونعتزّ بانجازاتها ولكنها كأخواتها تحتوي على سلبيات، منها تمادينا في سياسة ديماغوجية في التعليم العالي حتى أصبحت جامعتنا مانحة شهادات، لا مكوّنة رجال، وتمادينا في عدم مواجهة المشكل الديموغرافي بجدّية، ومن السلبيات، فشل جلّ المؤسّسات – كمجلس المحاسبة – التي أسّست قصد منع التلاعب بأموال الدولة حتى كاد الجميع ييأس من إمكانية محاسبة المسؤولين، ممّا يفسّر ظاهرة التكالب على المسؤولية وبروز التكتّلات المصلحية.

ويمكن القول أنّ أكبر سلبيّات هذه المرحلة هي ابتعادنا عن مبدأ العدالة الاجتماعية الذي يفسّر في رأيي الأزمة متعدّدة الجوانب التي نعاني منها والتي، في الحقيقة، هي أزمة أخلاقية واجتماعية قبل أن تكون اقتصادية، ونحن نلمس مظاهرها في حياتنا اليومية:

– ظهور الرغبة في الكسب السهل والسريع، حتّى ولو كان بصفة غير شرعية؛

– انتشار مظاهر الترف والبذخ من طرف أقليّة، وسط حرمان الأغلبية ولا سيّما الشباب؛

– تفشي البطالة، ممّا تولّد عنه انعدام الأمن والتهريب وهجرة الأدمغة وبداية انتشار مرض خطير غير معروف حتى الآن في مجتمعنا، وهو تعاطي المخدّرات؛

– تفشّي الرشوة والجهوية والمحسوبية على كلّ المستويات، ممّا أفقد الدولة مصداقيتها وأفقد المسؤول – أيًّا كان موقعه – هيبته؛

– اختفاء فضيلة القناعة التي ضمنت لنا ولآبائنا وأجدادنا العفاف والكفاف وحلول اللهفة والشراهة محلها.

مَن المسؤول عن هذه الأزمة؟

كلّنا في هذه القاعة نتحمّل جزءًا من هذه المسؤولية ربّما لأنّ الطريق الذي سلكناه لم يكن السبيل الأفضل، ولكن في حينه ظهر لنا كذلك وصفّقنا له في كل مؤتمراتنا السابقة.

هذه الأمراض – أيها الإخوة – خلقت أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم وبين جبهة التحرير والشعب، وهذه الأمراض – أيها الإخوة – تفسّر أحداث 5 أكتوبر 1988، أو بعبارة أدقّ، تفسّر الجانب الثقافي من أحداث أكتوبر لأنّ هناك جانبًا مفتعلًا، لا زال يطرح نقاط استفهام حول مدبّريه.

والآن، يأتي الحديث عن المستقبل ومواجهة التحدّيات.

هناك إصلاحات مطروحة على الساحة، وهي محاولة التأقلم مع الوضع الداخلي الجديد ومع التحوّلات الدولية ، وهي في شقّها الاقتصادي استمرار لسياسة التطهير للمؤسسات التي بدأناها منذ سنوات، وفي شقها السياسي توَلّدت عنها التعدّدية الحزبية.

فإذا كانت هذه الإصلاحات ترمي إلى التفتّح وخدمة غالبية الشعب الجزائري، فهي جديرة بالدعم من كل مناضل جبهوي وكل مواطن مخلص.

أمّا إذا كان البعض يرمي – من ورائها – إلى الانفتاح في خدمة معيّنة، فلن يكتب إليها النجاح.

والفرق بين التفتّح والانفتاح سياسيًّا هو أنّ التفتّح يعني الحوار النزيه والخصومة الشريفة وحرية التعبير، أمّا الانفتاح فيعني الفوضى وشبح الحرب الأهلية.

والفرق بين التفتّح والانفتاح اقتصاديًّا، هو أنّ التفتّح يحتوي على خطّ أحمر لا بدّ أن يُؤخذ بعين الاعتبار من طرف المواطن وكذلك من طرف الأجنبي.

أيها الإخوة، أيتها الأخوات،

إنّ الجزائر اليوم في حاجة إلى مشروع نهضوي، وأعتقد أنّ هذا المشروع يجب أن يقوم على دعائم ثلاث: الإسلام والحداثة والالتصاق بالشعب.

نعلم أنّ لجبهة التحرير مواثيق ساهمنا كلنا إمّا في تحريرها أو في إثرائها أو شرحها، ولكننا ندرك من جهة أخرى أنّ النصوص البشرية كيفما كانت دقّتها وعبقريتها، معرّضة للشيخوخة إذا لم تساير التطوّر ومآلها الزوال إذا لم تنسجم مع الطموحات الشعبية؛ وما يجري تحت أعيننا في أوروبا الشرقية أحسن دليل على ما أقول.

أمّا الخلود فـلله جلّ جلاله ولكتابه المبين!

نعم، لنا ميثاق ودستور وبرنامج، ولكن المتغيّرات الداخلية والدولية تفرض علينا إيضاحات أو إضافات حول مسائل لم تُبلور كفاية أو اعتراها شيء من الغموض.

أوّلًا، على الصعيد العقائدي. كنا نعتقد أنّ مقوّمات الشخصية الوطنية من دين ولغة وتراث هي من المسلّمات، بل من البديهيات، ولكن عندما ترتفع أصوات تشكّك حتى في ثوابت الأمّة، نشعر بضرورة التوضيح.

وفي البداية، يجب على جبهة التحرير أن تحدّد تعاملها مع الإسلام.

الإسلام عقيدة وشريعة، والإسلام عبادات ومعاملات، ولكن الإسلام – الذي يدرك أهمّية التطوّر– لم يشرّع لكثير من جزئيات الحياة وتركها لاجتهاد المسلمين، شرطة أن تعالج في إطار الخلفية الإسلامية.

كيف يتمّ الاجتهاد هذا؟ – هذه هي الإشكالية التي طرحت نفسها على كثير من الأقطار الإسلامية وكان الجواب في كثير من الأحيان يقتصر على إنشاء مجلس إسلامي يتولّى إنارة الطريق بالنسبة لبعض القضايا المطروحة على المجتمع، وفي الواقع فإنّ تلك المجالس لم تلعب دورها كاملًا نظرًا لعدم استقلاليتها بالنسبة للدولة أو للأحزاب.

ونحن في الجزائر في حاجة إلى إنارة الطريق بالنسبة لبعض القضايا التي تؤثّر على توازن المجتمع كقضية المرأة أو على التنمية كقضية النسل أو على تشتيت المسلمين كقضية المذهبية الفقهية.

وإذا أخذنا على سبيل المثال قضية المرأة، هل يليق بالجزائر – وهي بلد متخلّف – أن تدخل القرن الواحد والعشرين، ونحن على أبوابه، متقاعسين وراء كثير من دول العالم الثالث؟ أمّا إذا أردنا أن نلتحق بالركب الحضاري ونطير نحو القرن الواحد والعشرين بجناحين، يجب أن تحتلّ المرأة مكانتها المرموقة في المجتمع، في الحدود التي رسمها الإسلام؛ وكان زعيمنا الأوّل محمّد بن عبد الله – صلّى الله عليه وسلّم – ينظر للمرأة، لا كزوجة ومنجبة وربّة بيت فحسب، ولكن كإنسان كامل العقل، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات؛ وكانت عائشة أمّ المؤمنين تشاركه في الحرب والرّأي، ولولا ذلك التقدير من الرسول الأعظم لما أصبحت عائشة بعد وفاته – صلّى الله عليه وسلّم – من الأساطين التي بُني عليها علم الحديث.

كفانا أيها الإخوة من التعلّق بالمظاهر والقشور التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولنتمسّك بجوهر الإسلام، خاصّة وأنّ الرسول الكريم – صلّى الله عليه وسلّم – حذرنا بقوله: “إنّ الله لا ينظر إلى صوَركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”. هل يُعقل في عصر العلم والتكنولوجيا أن نشجّع الشعوذة والخرافات ونحن في أمسّ الحاجة إلى الاجتهاد لإيجاد أحسن السبل لتقدّم وازدهار الشعب الجزائري؟

ومن مقوّمات الشخصية الجزائرية العروبة.

نحن جزء من هذه الأمّة مترامية الأطراف، من المحيط إلى الخليج، تربطنا بها روابط حضارية وثقافية ومصيرية، ونستمدّ عروبتنا من الإسلام، حيث ذُكرت كلمة “عربي” 11 مرّة في القرآن الكريم، حاملة في كل المرّات معاني ثقافية: “وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا”.

إنّ هذه الرقعة من الأرض التي تحمل اسم “المغرب العربي” أو “الشمال الإفريقي” لم تنجب العظماء في العلوم والآداب إلا بعد امتزاجها بالدعوة الإسلامية، وكانت إسهاماتها في الحضارة العالمية باللغة العربية.

وكان أحد عظمائنا في القرن الثاني عشر الميلادي، وهو ابن تومرت – منظّر ومؤسّس دولة الموحّدين – يتعامل في حياته اليومية بلهجة الأمازغية ولكن عندما ألّف كتابه المعروف الذي يحمل عنوان “أعزّ ما يطلب”، ألّفه باللغة العربية.

وهذا في رأيي هو الرأي السليم الذي يجب أن تكرّسه جبهة التحرير:

– لغة وطنية رسمية، هي اللغة العربية، هي في نفس الوقت عامل من عوامل وحدة الشعب الجزائري ووسيلة نسهم بها من جديد – بحول الله – في الحضارة العالمية.

– ثقافة شعبية تشمل اللهجات المحلّية يجب الحفاظ عليها لأنها جزء لا يتجزّأ من تراثنا الوطني.

– كلّ هذا لا يتنافى مع ضرورة تعلّم اللغات الأجنبية لأنّ المستقبل ليس للشعب الذي يوَسّع رقعة انتشار لغته، إنما المستقبل للشعب الذي يحسن أكبر عدد من اللغات الأجنبية.

أمّا بالنسبة للاشتراكية، فقد كانت ولا زالت تعني في منظورنا العدالة واختيار الحلول الوسطية التي تحمي في آن واحد مصالح الدولة والمنتج والمواطن والتي تشجع – بجانب القطاع العام – قطاعا خاصًّا وطنيا غير مستغلّ وخاضع للرقابة والتخطيط.

ثانيًا، علي الصعيد الاقتصادي، يجب أن نقرّ أنّ الوضع الاقتصادي عسير وأنّ الحلول الناجعة ليست سهلة المنال. لماذا؟ لأنّ الدّخل الوطني من العملة الصّعبة ينحصر أساسًا في المحروقات، ودخل المحروقات طيلة هذه السنوات شبه قار لأنّنا لا نتحكم – مع الأسف – في سعر البترول والغاز، ونسبة هائلة من هذه العملة الصعبة تخصّص لتسديد جزء من المديونية، ويبقى السؤال المطروح: كيف نوَفّق بين دخل قارّ من جهة وبين مصاريف متزايدة نظرًا لتزايد السكّان والرغبة الملحّة في تحسين المعيشة؟

فالسرّ لا يكمن إذن في الزيادة في الدّخل الوطني بالعملة الصّعبة – الذي تتحكّم فيه السوق الدولية – والسرّ لا يكمن في رفع الشعارات عن المردودية والإنتاج والإنتاجية، لكن السرّ يكمن في زيادة الدّخل الوطني بالعمل والعمل والعمل في كل القطاعات وبتجنيد كل الطاقات المنتجة، والسرّ يكمن أوّلًا وأخيرًا في كيفية توزيع هذا الدخل الوطني توزيعًا أكثر عدالة.

وفي اعتقادي أنّ كلمة “إضراب” لا يمكن إلغاؤها من القاموس الجزائري إلا إذا سادت العدالة الاجتماعية، وقد عوّدنا الشعب الجزائري أنه يتقبّل التضحيات، وأنه يتقبّل التقشّف بصدر رحب، شريطة أن تُطبّق الإجراءات على الجميع.

ثالثًا، على الصعيد السياسي، إنّ الشعب الجزائري استبشر خيرًا بترسيخ الديمقراطية وشعر أنه سيقول كلمته أكثر فأكثر، ولكن على جبهة التحرير أن تشرح أنّ الديمقراطية لا تعني الفوضى، بل تعني قبل كل شيء، احترام حرّيات الآخرين، وعلى جبهة التحرير أن تعطي المثال بالبدء بتطبيق الديمقراطية على أجهزتها في كل المستويات، وقديما قال الشاعر :

لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله * عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
ابدأ بنفسك وانهها عن غيّها * فإذا انتهت فأنت حكيم

من جهة أخرى، كثُر الحديث في الآونة الأخيرة حول حقوق الإنسان، ونحن المسلمون في طليعة المدافعين عن حقوق الإنسان، ولذا لا يمكن السكوت عن قضية التعذيب، فأمَلي أن تجهر جبهة التحرير الوطني بموقف واضح وحازم حول هذا الموضوع، لأنّ الحزب الذي يرفض الاستغلال، أولى وأحرى به أن يرفض ويُدين التعذيب.

أيها الإخوة، أيتها الأخوات،

إنّ بقايا جيل نوفمبر 54 – في الحكم وخارج الحكم – مرغمون على جمع الشمل لمواجهة الأوضاع التي تعيشها البلاد؛ وأعتقد أنّ ما يجمعهم أكثر بكثير ممّا يفرّقهم، وواجب النزهاء والمخلصين منهم، هو جمع الشمل على أساس قِيَم ومبادئ جبهة التحرير الوطني.

ولكن، فليعلموا جميعا أنّ الحلول الحاسمة لن تأتيَ من خلال حوار ضيّق بينهم، دون الاستماع إلى صوت الشباب ودون فتح باب المراكز القيادية في جبهة التحرير أمام الشباب.

لا نطلب من شبابنا أن يقدّس جيل نوفمبر كأشخاص وأن ينظر إليه نظرة مثالية، وقد قلتُ في ندوة سابقة إنّ مقاييس الحكم على جيل نوفمبر يكمن في الجملة القرآنية “وما بدّلوا تبديلا” التي تضمنتها الآية الكريمة: “رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا” (صدق الله العظيم).

ما ننتظره من شبابنا هو الحفاظ والدفاع على رموز جيل نوفمبر ككلمة “شهيد” وكلمة “مجاهد” وكلمة “جيش التحرير”، هذه الرموز التي أصبحت من تراثنا الوطني، كما نطلب من شبابنا ألّا ينسى ما قاسى آباؤه وأجداده من سياسة القهر والإبادة التي مارسها الاستعمار بالأمس وأن يتحلّى باليقظة أمام مخطّطات الاستعمار الجديد تجاه وطنه اليوم.

أيها الإخوة، أيتها الأخوات،

إنّ كلّ ما قلته اليوم أمامكم ليس بجديد على بعض الإخوة المتواجدين في هذه القاعة، لأنني قلته في الأطر القانونية الضيقة لجبهة التحرير الوطني والتي أشرتُ إليها في البداية: اللجنة المركزية، الحكومة، المكتب السياسي، أو في إطار أضيق.

وهكذا، عندما تطرّقت إلى موضوع الشباب في إحدى دورات اللجنة المركزية، ارتفع صوت من الأصوات – سامحه الله – مدّعيًا أنّ الدافع لموقفي هذا هو الطموح.

عجبًا لقوم يردّدون يوميًّا شعار الديمقراطية ولكن كلّما صدر رأي يخالف رأيهم إلّا اتهموه بالمعارضة أو الطموح.

لم نكن طُلّاب مناصب في عنفوان الشباب فكيف اليوم، وقد اقترب موعد لقاء الخالق، كيف نتملّق لمخلوق للوصول إلى المنصب؟

أدّبنا الإسلام فأحسن تأديبنا.

علّمنا الإسلام نكران الذات في سبيل المصلحة العامّة، وعلّمنا تجنّب الأنانية عندما يتعلّق الأمر بمصير أمّة. نظرتُ إلى أعماق نفسي، فلم أجد رائحة الطموح، ثمّ قلتُ: إن كان لا بدّ من طموح، فطموحي الوحيد هو خدمة الشعب الجزائري.

ثمّ تذكّرت الآية الكريمة: “يا أيّها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا، أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”.

في هذا الزمن الرديء الذي كثُر فيه الفسّاق، وكثُرت فيه الأنباء المدسوسة، حذار أن يكثُر فيه غدًا النادمون.

لكن، نحن الذين نؤمن بعبقرية الشعب الجزائري التي تتجلّى دائما في الظروف الحالكة، نحن على يقين أنّ هذه العبقرية ستمنحنا – في صفوف جبهة التحرير الوطني – شبابًا مؤمنًا متنوّرًا مخلصًا، قادرًا على صياغة وإنجاز ذلك المشروع النهضوي الذي أشرتُ إليه في بداية حديثي، والذي يقوم على ركائز ثلاث: الإسلام والحداثة والديمقراطية.

عاشت جبهة التحرير وفيّة لرسالتها، محقّقة لطموحات وأحلام الشعب الجزائري!
عاشت الجزائر!
عاشت الجزائر!
عاشت الجزائر!

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version