الآن بدأت تتوضّح الأمور في الجزائر أكثر من ذي قبل، فغالبية الجزائريين لا يزالون متمسّكين بضرورة وإلزامية تغيير الأوضاع في البلاد بشكل شامل وسلمي وحضاري، وفي أسرع وقت ممكن، وهم ينطلقون هذه المرة من قناعة مشتركة، وهي أنّ الأوضاع الإقليمية لا تسمح للسلطة بالعمل على ربح الوقت، بحجّة أنّ الثورات التي شهدتها العديد من البلدان العربية أوصلتها إلى حالة من التّيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي وغيره، ولم تُمكّنها إلى اليوم من إيجاد الوسائل المثلى لإعادة بناء دولها بالنسبة للبعض، كليبيا ومصر وتونس، ولم تهتد مع هذه الثورات دول أخرى كسوريا واليمن والبحرين وغيرها للخروج من دائرة الصراع والاقتتال المتواصل، أي بمعنى أنّ الدول التي “انتصرت” فيها الثورات، أو تلك التي لا تزال تعيش تداعياتها، أبانت عن عجز كبير في خلق نموذج للحكم يعكس تطلّعات شعوبها، وباتت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار.

والحال كذلك، فما الذي يمنع السلطات عندنا، من استباق للعواقب، والقبول بتجسيد الإرادة السّيدة للشعب الجزائري دونما حاجة لخوض مغامرة التّيه والتوهان، التي لا سمح الله، إن هي وقعت في الجزائر، فستكون عواقبها أخطر ممّا وقع في البلدان العربية الأخرى، لأننا نعرف أن أهمّ خاصية تُميّز الجزائري، هي أنّه عنيد للغاية كلّما تعلق الأمر بكرامته وعزّة نفسه، وإنّه حتى وإن كان قد توارى نوعا ما عن الأحداث في السنوات الماضية، فليس من باب الخوف من السلطة، ولتفادي ظلمها وتسلّطها، وإنّما لإعطائها فرصة حقيقية للوفاء بما وعدت به على لسان الرجل الأول في البلاد الذي قال للجزائري في حملته الانتخابية للعهدة الأولى “ارفع رأسك يا بّا”، ورفع شعار “جزائر العزّة والكرامة”، ووعد بإخراج سيف الحجّاج لقطع رؤوس الفساد والمفسدين في الجزائر، وكلّها شعارات لا أظنّ أن جزائريًا واحدًا كان ليرفضها حينما ردّدها الرئيس بوتفليقة، وأكثر من كلّ ذلك أن العديد من الوطنيين المخلصين وقفوا إلى جانبه في السنوات الأولى ظنًّا منهم أنه سيعيد الجزائر إلى سكّتها الصحيحة، لكنّ وللأسف الشديد، أنه منذ تولي الرئيس بوتفليقة زمام الحكم، بدأ في الانقلاب على نفسه وعلى الشعب الجزائري، وسلّ سيف الحجاج لقطع رؤوس الجزائريين المخلصين، وفتح الأبواب لتسلّط المفسدين، ووصل به الأمر إلى حدّ استيراد إطارات جزائرية لها جنسيات أجنبية وبعضها قدّم خدمات جليلة للدول التي يحمل جنسيتها، خدمات دمّرت اقتصاديات دول بأكملها، وقيل لنا وقتها أنّ هؤلاء هم “رجال الدولة”، ومع مرور الوقت انكشفت حقيقة بعضهم، وأنّهم بالفعل “معاول لهدم أُسس الدولة”، وبرعوا في إيجاد وسائل جهنّمية لاختلاس أموال الشعب الجزائري، تحت عناوين تطوير قطاع المحروقات، والنظام المصرفي في الجزائر، وتطوير وسائل النقل الجوي، وتطوير الفلاحة بمسح ديون الفلاحين، واتضح أنّ الفلاحين الذين استفادوا من مسح الديون يكسبون عشرات الآلاف من الهكتارات في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، وقد استثمروا فيها الملايير على الأوراق الإدارية فقط، للإشارة أنّ بعض هؤلاء الفلاحين، هم من كبار المسؤولين في الدولة، وهم يحرثون حقا، ليس في الأراضي الفلاحية، وإنما في بنوك الدولة وخزائنها، ورغم هول الفضائح التي هزّت العديد من الوزارات والمؤسسات الاقتصادية والمصرفية، إلا أنّ سيف الحجاج بقي في مغمده، كما أنّ عزّة وكرامة الجزائريين تضاعف الدّوس عليها، وأصبح العديد من الجزائريين يقتاتون من المزابل، ويموتون على أبواب المستشفيات، وهو الأمر الذي لم نكن نتصوّر حدوثه في الجزائر على الإطلاق، ولم نعش مرارته في عهد الرؤساء السابقين،  فالإدارة الجزائرية أصبحت في عهد “جزائر العزة والكرامة” أكبر عدُوّ للمواطن الجزائري، ومصدر قلقه ومآسيه، ووكرًا لبارونات الفساد والرشوة، ولا يكاد يمُرّ يوم إلا وينتفض فيه المواطنون ضد التهميش والغبن الاجتماعي، والفقر، وغلاء المعيشة.

وفي وضع بئيس ومُزرٍ كهذا، تعدنا السلطة بأنها ستقوم بإصلاحات سياسية، وغيرها، والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه، هو “متى حارب المُفسدون الفساد؟” وهل يُعقل أن نتقدّم خطوة إلى الأمام مع سلطة فاسدة وغارقة في الفساد؟ برأيي أنّ أيّ حديث عن الإصلاح لن يكون صادقًا وذا معنى، إذا نحن تركنا المُفسدين يخططون لنا طريق الخروج من الأزمة، وأقترح هنا أن نترك الإدارة الفاسدة تعمل لفترة انتقالية، على أن نُشكّل “هيأة وطنية للتصحيح والتغيير”، تضم أعضاء مشهود لهم بالنزاهة، ولم يتورّطوا لا في فضائح سياسية أو مالية، ولا يُمارسون أيّ وظيفة في الدولة، ولهم كفاءات سياسية ومعرفية مع التأكيد هنا على عدم إقصاء أيّ طرف، بمن فيهم ممثلو المعارضة الحقيقية والوطنية في الداخل والخارج، تكون أوّل خطوة تقوم بها هي اقتراح خارطة طريق للتصحيح والتغيير، يتمّ بعدها فتح نقاش وطني واسع حولها في كل الولايات والبلديات، بمشاركة الجميع وبدون إقصاء، وفي حدود رزنامة زمنية محدّدة، وعند ذاك وتبعًا للحوار والنقاش، توضع مسودّة دستور جديد من قبل هذه الهيأة، يُعرض على الاستفتاء الشعبي، وفي حال إقراره، يتوجّب على رئيس الجمهورية أن يُقدّم استقالته، واستقالة حكومته التي تتحوّل إلى حكومة تصريف أعمال لا غير، وتتكفّل الهيأة بإجراء انتخابات رئاسية في ظرف يتمّ الاتفاق عليه، وبعدها يكون على الرئيس المنتخب إتمام مسار التصحيح والتغيير، كما يريده الشعب الجزائري.

جمال الدين حبيبي
1 أكتوبر 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version