لقد بات واضحا أن النظام الجزائري يخشى كل صوت معارض، يعبر خارج الإطار المسموح به رسميا، بحيث لم يتردد في شراء الذمم وتبديد أموال طائلة من أموال الشعب، عبر ممارسة ضغوط وتهديدات لشركة إدارة الأقمار الصناعية العالمية، بهدف إسكات الأصوات العصية المستميتة في جهودها من أجل إسماع صداها.

إن مثل من يقدم على هكذا خطوات يائسة عاف عنها الزمن، في عهد ثورات التحرير العربية من قبضة الأنظمة “الوطنية” الاستبدادية، ليس أهلا للثقة، وغير جدير لإحداث تغيير في الوضع المتفسخ والمتهالك الذي عمر نصف قرن بسبب حكمه الفاشل البائد.

لقد تفوق النظام الجزائري بكل جدارة من حيث درجة الفساد والاستبداد والتخلف المؤسسي، بالإضافة إلى ما ارتكبه من جرائم راح ضحيتها عشرات آلاف القتلى والضحايا من كل الأشكال، ولا يزال يبذل قصارى جهده لكتم كل صوت خارج سيطرته، مما يجعله يخشى مجرد إطلاق قناة مستقلة ذات إمكانيات محدودة، هدفها التعبير بشكل سلمي وحضاري عن وجهة نظر مخالفة، تنشد التغيير، بحيث يرى فيها منافس يهدد أركان حكمه. فمثل هذا النظام غير مؤهل بالمرة لإدارة ما أسماه مشاورات يدعي السعي من خلالها إلى إحداث تغيرات واسعة وحقيقة، كيف يتسنى لمن ترتعد فرائسه لمجرد سماعه عزم مجموعة من الجزائريين إطلاق قناة تعبر عن صوت لا يروق له، ولا يخضعون له، ولا يخشون عصاه ولا تستهويهم رشاويه، أن يقوم بثورة حقيقية تروم محاربة الفساد ولإفساد ووضع حد للاستبداد والقمع الذي أسسته المافيا العسكرية المالية؟

إن هذه الخطوة الخرقاء التي أقدم عليها النظام الجزائري من خلال ممارسة الضغوط على شركة يوتلست الفرنسية، بدعم فرنسي رسمي على الأرجح، في وقت يعد وزير خارجيتها حزم حقائبه للقيام بزيارة الجزائر مصحوبا بلوبي الصفقات، تبرم خلسة طمعا في جني بلايين الدولارات، في ظل تكتم مريب لا يعلم عنها الشعب أي شيء، إن مثل هذه الخطوة اليائسة خير دليل على هلع وتخبط هذا السلطة التي يروعها انكشاف صورتها الحقيقية أمام الملأ، صورة مناقضة للصورة التي تروجها عن نفسها من خلال توابعها المستفيدين. وكعادتها لم تجد هذه السلطة بدا من التلويح في اتجاه شركائها (فرنسا ومصانعها بوجه خاص) بعصا تجفيف منابع الشراكة الاقتصادية التفاضلية من جهة وتلميع جزرة “الصفقات” السخية التي لا تستطيع هذه الشركات الفرنسية التفريط فيها حتى وإن تطلب ذلك دعمها أو على الأقل سكوتها عن جرائم وانتهاكات مجموعة القتلة والمستبدين، متجاهلة ما تزعمه من قيم الحرية والعدالة وما إلى ذلك من الشعارات الزائفة التي أضحت أضحوكة في أعين الناس.

هذه المرة، كان الثمن الواجب دفعه من قبل الشركة الفرنسية للسواتل (يوتلست)، للصمود في وجه عصا وجزرة النظام الجزائري هو وقف بث قناة العصر المستقلة يوم انطلاقها، في انتهاك صارخ للقوانين الدولية ولميثاق الأمم المتحدة في شقه المعني بقضايا الإعلام وحرية التعبير وتبادل المعلومات، وبما يخالف مواثيق فرنسا وقيمها التي لطالما تباهت بها، وفي تناقض مريب مع وقفها “الداعم” من جهة للثوار الليبيين والمدين لنظام الأسد القمعي، في وقت تتواطأ مع نظام عسكري دكتاتوري، ومساندته في حرمان المعارضة الجزائرية من التعبير الحر السلمي عن نفسها.

وللإشارة فإن تعطيل بث قناة العصر من قبل شركة يوتلست ليست الأولى من نوعها، حيث تعرضت إذاعة “كلمة”، أول محطة إذاعية مستقلة في الجزائر في مارس 2010، لوقف بث برامجها من قبل نفس الشركة. وقد كشفت إذاعة كلمة حينها نقلا عن جان فرانسوا جوليار، أمين عام منظمة “مراسلون بلا حدود” غير الحكومية، أن الرئيس التنفيذي لشركة يوتلسات في رده على توقيف “كلمة” اعترف أن ذلك تم نتيجة تدخل مباشر من السلطات الجزائرية.

خطوة النظام الجزائري التي تنم عن جهل تام بسنن الكون وسنن التغيير، خير دليل على انقطاعه عن عالم الواقع وعما يجري في محيطه الجغرافي والاجتماعي، كما أن حماقته هذه تصيب في مقتل مزاعمه ومصداقيته في ما أطلق عليه اسم جولة المشاورات، التي لا تعدو كونها كرنفال لا يختلف عن سابقيه، “مشاورات” لم تجد تحمس سوى من جانب الائتلاف العليف الذي يدرك تماما أنه يدين لأصحاب النعمة ببقائه وأن نهايته رديف لنهايته. إن تخبط هذه السلطة، يبين بجلاء أنها واهمة في اعتقادها “الإفلات” من قوانين التغيير الأبدية، على غرار ما تشهده المنطقة برمتها في عهد الثورات العربية.

إن ما أقدمت عليه السلطة في التحريض على وقف بث قناة مستقلة ذات موارد محدودة يديرها متطوعون في أغلبهم، يقدم دليلا إضافيا على هشاشة حكمه، ويفند ادعائه برسوخ أقدامه وثقته بدعم الشعب له، لكن رغم مكابرة هذه السلطة، فإن الماسكين بزمام الأمور يدركون في أعماقهم مدى عبثية مواجهة رياح التغيير، كما أنهم يدركون أن الزيف الذي أقاموا على أساسه وبددوا من أجله أموال طائلة يمينا وشمالا، لا يمكنه الصمود أمام الكلمة الحرة المستقلة، وكل ما يقومون به ما هو إلا هروب إلى الأمام، ربحا للوقت ليس إلا.

رشيد زياني شريف
16 جوان 2011

المصدر: القدس العربي

تعليق واحد

  1. Abdelkader DEHBI بتاريخ

    RE: وقف انطلاقة بث تلفزيون رشاد يكشف زيف نية النظام الجزائري في التغيير
    [rtl]وأنا أقرأ هذا التعقيب الصٌائب للأخ رشيد زيٌاني الشريف كنت أتساءل
    1°) – هل اللجوء إلى التعاقد مع الشركة الفرنسية « يوتلسات » كان حتميا من الناحية التقنية أم كان لديْ المشرفين عن القناة الجديدة، اختيارات أخرى، تغنيهم عن هذه الشركة العميلة للنظام الجزائري ؟
    2°) – هل يشتمل العقد مع الشركة الفرنسية على بند يحدٌد المسئوليات الأخلاقية والمالية المترتبة على هذه الشركة، حال نقضها للتعهٌد بالبث ؟ أرجو ممن لديهم معلومات بهذا الصٌدد أن يفيدونا[/rtl]

Exit mobile version