يتساءل ويتعجب الكثير سواء من الجزائريين أو من غيرهم عن سبب عدم انتقال عدوى الاحتجاجات والثورة الشعبية إلى الشعب الجزائري، المشهور أصلا برفضه للظلم وسرعة ثورانه، والتي تجتاح بعض دول العالم الثالث خاصة في العالم العربي ابتداء من الجارة تونس، وتبقى التساؤلات حول الأسباب الحقيقية لعدم تمكّن الجزائريين من التنسيق والتفاهم فيما بينهم، للتخلّص من نظام مستبد دكتاتوري وهو من أكثر النظم العربية فسادا ونهبا وتحويلا لثروات شعبه حيث صارت الجزائر التجسيد الميداني لمقولة، دولة غنية وشعب فقير.

ومحاولة لفهم جانب من هذا الانسداد ربما ساعدتنا هذه المحاولة المتواضعة وهذا بالغوص في خصوصية جغرافية وتاريخ الجزائر ودراسة آثارهما على شخصية وذهنية الجزائري، فدولة الجزائر تتميّز بشساعة وامتداد أراضيها، وحدّة تضاريسها التي تشكّل في بعض المناطق حواجز طبيعية صعبة، وقد مرّ الشعب الجزائري بظروف تاريخية صعبة على مدى العصور تميّزت بتعاقب غزاة ومحتلين وهجرات استيطانية ينتمي أصحابها إلى أعراق وديانات مختلفة وحضارات متباعدة ومتنافرة، من فينيقيين ورومان ووندال، إلى بيزنطيين وعرب مسلمين وإسبان وأتراك، وآخرهم الفرنسيين.

مع تسجيل غياب دولة قوية مركزية تضم كل التراب الجزائري الحالي، في أغلب الأوقات والعصور، مما جعل التركيبة البشرية متنوعة ومتناثرة وغير مرتبطة، ونظرا لطبيعة النظام السياسي الذي حكم الجزائر منذ الاستقلال إلى يومنا هذا والذي تميّز بالاستبدادية المطلقة كوسيلة للحكم والحزب الواحد والفكر الواحد كفلسفة وعقيدة مفروضة وعلى الجميع أن يتبنّاها، وعمل على تقزيم وقمع كل فكر حرّ أو منطقي، وحارب بشدّة الحق الطبيعي في الاختلاف فصار لزاما على الجزائري، الذي تعرّض إلى عملية إعادة تشكيل هويته قسرياً، أي أن يكون عربيا مسلما على المذهب المالكي لا غير.

وهكذا بجرّة قلم وبنزوة حاكم متسلّط وجاهل، أُقصي كل التنوع والثراء الطبيعي الذي يتميّز به الشعب الجزائري، فكل من رفض الدخول في هذا القالب الجاهز سوف يعتبر مشوش ومثير للفتنة، وإذا أصرّ على ذلك فهو بالضرورة انفصالي أو ملحد أو ضد مصالح وأمن الدولة.

وقد ولّد هذا الإقصاء ردة فعل إقصائية لدى شريحة من الجزائريين فصار يُعتبر كل من ينتمي إلى تلك الهوية المفروضة، ولو كانت أصلية فيه، بعثيًّا وإسلاميًّا متطرّفا، واستطاع بذلك النظام المستبدّ النجاح وبقوة في تطبيق مبدأ فرّق تسد، وأضاف تقسيما آخر للشعب الجزائري ومزيدا من الإحساس بالكبت والظلم والقهر والكره المتبادل.

وقد أضاف الحكم السياسي الفاسد للطين بلّه بسبب سوء تسييره المزمن على مدى خمسين عاما وخاصة بمنظومة تربوية مفلسة لا تشجّع لا على التعلم ولا على اكتساب الثقافة، فصار أغلبية الجزائريين لا يمتلكون معلومات كافية عن تراثه وحضارة أجداده، ولا معرفة أو إطلاع على مختلف الثقافات العالمية.

وهكذا ترسخ لدى الجزائري الفكر الأحادي الذي نتجت عنه ثقافة إقصائية، ومن أخطر ما ترتّب عليها رفض الآخر وبشدة وكره، وفي أحسن الأحوال الاستخفاف أو التجاهل وعدم التعامل معه.

فكل من لا يشبهني فهو الآخر، وكل من لا أفهم لغته فهو الآخر، وكل من لا يلبس مثلي فهو الآخر، وكل من لا يتعبّد معي فهو الآخر، وكل من لا يرتاد أماكن سهري فهو الآخر.

والقائمة طويلة لا تنتهي أبدا، لأننا لن نجد أبدا على وجه الأرض شخصين متطابقين تماما، وهذا يوضح مدى خطورة ترسيخ هذه الثقافة الإقصائية لدى شعب ما والذي يشكل انسدادًا في قنوات الاتصال بين أفراد المجتمع وهذا الانسداد يشكل بالنسبة للسلطة الضمان الوحيد للاستمرارية في سدّة الحكم، لمواصلة نهب واقتسام ريع البترول وخيرات البلاد بين أجنحتها المتنافسة.

ولسدّ الطريق أمام أيّ إمكانية للتقارب بين الجزائريين بعد أحداث أكتوبر 1988 وشبه الانفتاح الديمقراطي فقد شجّعت السلطة بطريقة أخرى هذا الانسداد، فوثّقت وقنّنت لتقسيم جديد، فصارت الطبقة السياسية منقسمة بقدرة قادر إلى أطراف متنافرة ومتناحرة منذ نشأتها من وطنيين وإسلاميين وديمقراطيين، وزادت بذلك للثقافة الإقصائية بعدًا آخر وضمنت استحالة التقاء الجزائريين لمدّة من الزمن وحتى في أصعب الظروف.

ولكن الغريب في الأمر هو تقبّل الطبقة المثقفة خاصة السياسية منها وانسياقها في ترسيخ هذا التقسيم، ليس دون تفكير بل هو السكوت وغض الطرف مقابل الوعود والامتيازات، وصارت تعمل بطرق مختلفة مباشرة أو غير مباشرة على استمرار الأوضاع على حالها، وترفض تغيير السلطة وسقوطها إذا لم تكن هي البديل الوحيد له، مما أفقد هذه الطبقة مصداقيتها لدى عامة الشعب وزادت من تضاؤل الفرص للخروج من الأزمة والتخلص من النظام القمعي الفاسد.

ونظرا لكل هذه المعطيات فإنّ من واجب كل جزائري وخاصة الشخصيات الجزائرية النزيهة، العمل وبسرعة على محو آثار هذه الثقافة الإقصائية والتي هي أيضا بمثابة المزيج القابل للانفجار في أيّ لحظة، والذي إذا وقع، لا قدّر الله، فلن يستطيع أحد التحكم فيه، والسلاح الوحيد هو ضرورة نشر ثقافة التسامح وتقبل الآخر في اختلافه والعمل على معرفة وتجسيد احترام جميع حقوق الإنسان وكل حرياته للجميع دون أيّ انتقائية بسب الدين أو العرق أو الأفكار أو التوجّه السياسي وكذلك توجيه وتشجيع الشباب للبحث ودراسة تاريخ بلاده منذ العصور الغابرة دون القفز أو إغفال أية مرحلة من المراحل ودون أيّ عقدة وكذلك الإطلاع بكل شغف على مختلف الثقافات والحضارات العالمية، وفي هذه الحالة فقط نظمن سقوط النظام وانتقال السلطة بكل هدوء إلى أبناء هذا الشعب الذي تعب كثيرا وعانى على مدى العصور ويستحقّ أن يحكم نفسه بنفسه، وأن ينعم أخيرًا بالطمأنينة وبخيرات بلاده وبكل حقوقه وحرياته.

فخار كمال الدين
9 ماي 2011

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version