في هذا العصر الحديث وبعد تحرر الشعوب ودمقرطة دول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية، وأغلب الدول في مختلف أنحاء العالم، تبقى الدول العربية من أبعدها عن التحرر والتمتع بمزايا الديمقراطية، من استتباب للأمن واستقرار للأوضاع وتعميم للعدالة الاجتماعية والتطور الفكري والازدهار الاقتصادي والصناعي، هذا لأن الأنظمة العربية صارت في مقدمة البلدان التي تتقن وتقنن للتزوير في العمليات الانتخابية، حتى صارت من طبيعتها وشيمها، فتزوير الانتخابات صار علما قائما بذاته فهو لا يبدأ يوم الانتخاب وفرز الأصوات، بل هي إستراتجية مدروسة بعيدة المدى لا تكون فيها نتائج الفرز إلا تحصيل حاصل ونتيجة حتمية، يستحيل معه أي احتمال للتداول على السلطة، فأغلب الأنظمة العربية صار فيها التزوير دستورا غير مكتوب، مع اختلافات تقنية بسيطة حسب طبيعة البلد وظروف التاريخ والجغرافيا.

وسنأخذ الجزائر كحالة نموذجية تستحق الدراسة، فالخارطة السياسية والأحزاب السياسية ما هي إلا مسرحية كبيرة متعددة الفصول، المخرج وكاتب السيناريو والمنتج هو واحد، السلطة الحاكمة، أما الممثلون فهم رؤساء الأحزاب يتبادلون الأدوار الميلودرامية حسب الظروف، وهي مسرحية ذات نهاية سعيدة واحدة، هي استمرارية تربع الحاكم المحبوب والمقدس على عرش السلطة، ومنع أي دخيل أو مندس من إمكانية الوصول إليها.

أما دور البطولة فيسند للحزب الحاكم ويكون أكبر حزب سياسي، ينخرط فيه جميع الموظفين الحكوميين ويرسكل فيه جميع المسؤولين السابقين وهذا باستعمال وسائل الترغيب والترهيب، فالموظف الحكومي يجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما إن يظهر دعمه لحزب السلطة بكل طاقاته ويتفانى في ذلك، فتكتب له السعادة ويصير من المقبولين والمرضي عليهم، أو يلتزم بعمله ويطبق مبدأ حياد الإدارة فحينئذ يعتبر من العصاة المارقين، وبذلك يكتب عليه الشقاء وتبدأ المعانات، أسهلها فقدان منصب عمله أو على الأقل حرمانه من جميع الإمتيازات والترقيات.

و هذا الحزب الحاكم في الجزائر هو مثل التنين متعدد الرؤوس، وهو ما يسمى بالإتلاف الرئاسي، يجذب إليه كل الطامعين وأشباه المثقفين وكل الشخصيات الشعبوية من فنانين ولاعبي الكرة، وهذا بالإنفاق عليهم بسخاء (من أموال الشعب) وإرضاء طمعهم وجشعهم بشتى الوعود من مناصب وامتيازات وبالحصانة القانونية في كل الأحوال.

وكذلك استغلال وتشجيع التركيبة القبلية والطائفية والجهوية للشعب، لصالحها وهذا بإتباع نفس أسلوب العصا والجزرة مع رؤساء وشيوخ القبائل والأعراش.

أما باقي الأحزاب فلا يبقى لها إلا دور الكومبارس تلعبه حسب خطة محكمة وهي على ثلاثة أنواع:

― الأحزاب المجهرية، ليس لها أية قاعدة ولا طموح ولا مستقبل، أنشئت لتمييع الخارطة السياسية، فقد أعطي لها الاعتماد والدعم المادي (نعم كالدعم المادي للمواد الأساسية) لتسخين الأعراس الانتخابية ولتطبيق سياسة الإغراق في الكم.

― الأحزاب المشكلة في مخابر الأمن العسكري ويتم تحضيرها لادوار تختار لها حسب الأجندة الزمنية وحسب تطورات الوضع.

― الأحزاب الحقيقية التي أنشئت لأهداف نبيلة وبأفكار وقناعات ثابتة، لكن بمرور الوقت استطاعت السلطة أن تضعفها وتثنيها عن عزمها، ثم دجنتها وروضتها وهذا باختراقات مدروسة من الداخل، بتجنيد مسؤولين حزبيين، أو حقن عملاء لها داخل الحزب لكي يتسلقوا تدريجيا داخل هياكله، للوصول يوما ما إلى مراكز القرار فيه، وتسييره في كلتا الحالتين حسب رغبات السلطة، وبهذا يتحول الخط السياسي للحزب إلى خليط هجين من الأحزاب المذكورة أعلاه، ويكون المناضلون في واد والقيادات المدجنة أو العميلة في واد آخر.

وهكذا في اليوم المشهود يوم الانتخاب نجد الصورة الكاريكاتورية التالية:

― سلطة حاكمة تمتلك بواسطة مؤسسات الدولة كل المعلومات والإحصائيات وسلطة إصدار التعليمات والمراسيم والقرارات، في ضل حالة الطوارئ المستمرة منذ عقود من الزمن، ترتب عليها رهن كامل لحقوق الإنسان وللحريات، مع مجال إعلامي مغلق تماما، أمام كل صوت حر أو معارض، وجهازي الأمن والعدالة بمثابة لعب طيعة بين يدي الجهاز التنفيذي تفعل بهما ما تشاء.

― حزب حاكم، الابن المدلل للسلطة، الكل يعمل لصالحه، بما فيها الإدارة المسؤول على تسيير ومراقبة العملية الانتخابية من البداية إلى النهاية وكذلك الإعلام الحكومي وحتى الإعلام الخاص المستقل الذي ليس له من الاستقلالية إلا الاسم، وبدون أن ننسى السلاح السري، خزينة الدولة (بيت المال) والصناديق المالية الخاصة، المليئة بعوائد البترول التي لا تدخل في ميزانية الدولة أصلا.

― أحزاب بين قوسين (معارضة) ليس لها من المعارضة إلا الاسم، تقوم بعملها الأساسي في التمييع والحط من أي إمكانية لعمل سياسي جاد، كل حسب دوره المسطر له بعناية، فمنها من كان نائما منذ عدة سنوات ولا يصحوا إلا وقت الزردات والحملات الانتخابية لإضفاء جو فلكلوري واحتفالي للمناسبة، ومنها من يقوم بدور التشويش والسب لإعطاء وجه بشع للمعارضة، تستغله السلطة لصالحها، أما إذا بقي صوت حر ونزيه فإن المجال الإعلامي المغلق طول الوقت أمامه ولا يفتح إلا وقت الضجيج الانتخابي، فلا يسمعه أحد نظرا لتخمة البرمجة وماراطونية المتدخلين في الإعلام العمومي.

― طبقة مثقفة منقسمة، اختارت إما العيش بسلام في أبراجها العاجية الافتراضية وانسحبت من الواقع المعيش، أو الاسترزاق من فتات موائد السلطة فصارت وبالا مضاعفا على شعبها.

― شعب مغلوب على أمره، مجبر على الجري ليلا ونهارا لتلبية ضروريات الحياة اليومية له ولعائلته، اختلطت عليه الأمور ويئس من السياسة والسياسيين ووعودهم الكاذبة، وسوء تسييرهم للمجالس المنتخبة، خاصة المحلية منها، سواء بسوء نية أو بسبب عرقلتهم من طرف جهاز الإدارة والسلطة التنفيذية التي لها كامل الصلاحيات، فالأغلبية طلقت العملية الانتخابية بالثلاث، وهكذا صار المواطن لا ينتخب إلا بدافع من حسابات ضيقة، مصلحة خاصة أو بدافع العاطفة العائلية أو القبلية، ولا ينتخب أبدا لبرنامج واضح أو أهداف مدروسة.

وهذا الوضع الكارثي البائس هو الهدف الأساسي من الإستراتيجية المدروسة للسلطة منذ البداية، فهكذا يخلوا لها الجو بالكامل، وتضمن تربعها الأبدي على العرش، وتستمر في نهب ثروات وخيرات البلد.

وبهذا لا يكون أي معنى للعملية الانتخابية بأكملها سوى المساهمة في تشكيل ديكور ديمقراطي تقنع به القوى العظمى الرأي العام والمنظمات الغير حكومية في بلدانها، لتواصل رعاية هذه الأنظمة العربية الدكتاتورية الفاسدة لاستنزاف خيرات وثروات شعوبها.

كمال الدين فخار
4 ديسمبر 2010

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version